نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    العاصمة عدن تشهد فعالية الذكرى ال7 لاعلان مايو التاريخي    الحرب القادمة في اليمن    نص كلمة الرئيس الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    تحديث جديد لأسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    خبير اقتصادي بارز يطالب الحكومة الشرعية " بإعادة النظر في هذا القرار !    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    ماذا يجرى داخل المراكز الصيفية الحوثية الطائفية - المغلقة ؟ الممولة بالمليارات (الحلقة الأولى)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يفترش الأرض ويلتحف السماء
طفل رفض أهله .. سگن المقابر ودار الأيتام
نشر في الجمهورية يوم 15 - 09 - 2008

التفكك الأسري عنوان عريض لمجتمعات ينتظرها تحد كبير لتأهيل وتهذيب جيل يعاني خاماته البشرية من غياب دور الأسرة في إنشاء جيل صالح تربى على الأخلاق والأسس الصحيحة ليستفيد المجتمع من جيل يبني لا يهدم.. جيل الشارع كان مدرسته ومعلموه في مراحله الأولى كانوا الشحاذين والمتسولين.. تثقف من الأزقة وتعلم فنون قتال الشوارع ليتخرج بعدئذ من أكاديمية “ دبر حالك والرزق يحب الخفية” ليقبل على المجتمع فهلوياً لا ينصاع لأي قانون ولا يهمه شيء والباحث في واقعنا سيجد حالات كثيرة لعينات سالف الذكر وأطفال يتموا رغم أن الأب والأم مازالا على قيد الحياة.. أطفال تشردوا في الشوارع وذاقوا قسوة الحياة منذ نعومة أظفارهم.. حكايات موجودة وكثيرة نراها ونسمعها تطلب منا العون فتارة نخرج لها ما قسم الله وتارة أخرى ننهرها وندفع بها لتبتعد عنا.قصص الشارع مليء بها ينتظر من يقلب أوراقها العشوائية والمبعثرة.. يجمع أحرفها.. يقرأ سطورها.. يكشف خفايا وأسراراً أليمة لقدر محتوم وقصة مظلوم.
من منا استوقف برهة يسأل ويتساءل ما السبب وراء خروج الأطفال إلى الشارع.. بالتأكيد سنستخلص للمثل المصري القائل “ إيه اللي صبرك على المر قال اللي أمر منه “ نستخلص إلى حقيقة مفادها أن وراء كل واحد من هؤلاء الأطفال قصة مؤلمة أجبرته على سؤال الناس.
لم نكن نبحث وإنما ساقنا قدرنا للتعرف على الطفل عبد الرحيم المداح.. قصة من بين مئات بل آلاف القصص الحية التي فتحت أعينها لتجد بيتها الشارع.. نماذج حية لصغار أبوا الاستسلام وظلت أجسادهم الضعيفة تكافح وتناضل.. تجاهد.. نعم تجاهد من اجل البقاء في عالم لا يرحم.
حكاية لم نجد لها دفترا أو عنواناً 11 عاماً بين العيش في الشارع والمقابر ومن ثم الانتقال للعيش في دور للأيتام والالتقاء بالأسرة بعد أربع سنوات مضنية في البحث وبعد إن صار الطفل غلاماً.
حكايتنا اليوم عميقة حزينة عن طفل قهره التفكك الأسري ليصبح يتيماً بلا مأوى.. هي غامضة في بعض تفاصيلها لكن الخيال سيسافر بنا لنرى معا ونعيش سوية أحداث حياة عبد الرحمن كما كانت..فما هي إلا كلمات قليلة خجولة غير مرتبة تخرج من فوه غلام في الحادية عشرة من عمره ليحكي لي ولكم عن احد ضحايا أسرة تركت الشارع العائل والمسكن والمدرسة لابنها الصغير.
بداية الحكاية
عبد الرحمن لا يعرف من أين يبدأ ولا حيث سينتهي.. (11) سنة مروا عليه عاش عارياً فكان يفترش الأرض ويلتحف السماء.. وفي النهار الشمس أشعتها تلفح وجهه الطفولي ولم يجد مخباً أو ظلاً يهرب منها وفي الليل كان القمر سراجه والنجوم المعلقة البعيدة أمله وأصدقاءه يتسامر مع النجوم وفي حضرة القمر.. يشكي لها وما تزال تستمع إليه حتى يغلبه النعاس وفي كل ليلة خدوده تغتسل بقطرات الدمع من عينيه.. قطرات تسيل وتلمع وكأنها أصبحت نجمة مضيئة ومن حولها النجوم.. وما إن يلتصق جفناه بعضهما يدخل في سبات عميق.. يحلق في عالمه منفرداً لم يكن ليكشف لنا أو لأحد عنه عالماً يفضل أن يظل شيئاً خاصاً به يحتفظ بأسراره وسبله.. عالم مثالي وأحلام وردية.. يهز برأسه مجيبا عن سؤالنا هل ستتحقق أحلامك ليشير بعد ذلك إلى السماء وكأنه يريد أن يقول ستتحقق وإن لم تكن في الدنيا ستكون في الحياة الأخرى الحياة الأبدية التي لن يكون فيها شقاء أو تعب حياة للصابرين حظ فيها.. كان صابراً على ما أصابه راضياً بقضاء الله حامداً عطاه آمناً في منامه ساعياً في النهار..فكان كالكبار ورب البيت ما إن يشعشع ضوء الصبح حتى ينهض باحثا له عن رزق يتمثل بريالات يتصدق بها احدهم عليه ليتناول إفطاره وان لم يجد يظل صائما حتى يجد من يعطف عليه ويهبه من فضل الله.. يستمر بالبحث فيجوب شوارع المدينة وحينما يحل الظلام يفترش الرصيف لعل وعسى أن يرتاح جسده المتعب ويجد السكينة لكن من سيترك ذي الخمسة أعوام يرتاح ويهنأ في نومه.. أينما كان يولي لينام يجد ما يزعجه ويقلق منامه وكل ليلة كان يجرب مكانا غير الذي قبله لعله يعثر على مكان اهدىء.. تعز كلها كانت سرير مفتوح يتقلب يمنا ويسرى.. فينام على جنبه الأيمن في المدينة ليفتح عيناه في صاله.. هكذا يترحل ليل نهار ويتنقل من مكان لآخر داخل نطاق محافظة لم يكن يعرف غيرها وان كان هناك أصلاً غيرها ورغم سعة سريره وحجمه الفريد من نوعه لم يبلغ هذا الطفل السكينة التي يبحث عنها فبعد يوم شاق وطويل بحثا عن اللقمة والماء التي تساعده على الاستمرار في الحياة.. لزم لهذا الجسد النحيل أن يكن ويستكن فكانت مقبرة الاجينات الخيار الأفضل والأنسب بعيدا عن أضواء المدينة وإزعاج المارة وأبواق السيارات وأصوات الدراجات النارية وأذى الكلاب المتشردة
النوم في المقبرة
أخيراً وجد الطفل المتشرد ضالته وسريره الجديد الهادئ المنعزل بعيداً عن شيء (يطير النوم من عيونه) عثر على راحته بين الأموات والمدفونين تحت التراب.. عثر على مكانه المراد والذي لن يزعجه فيه احد بعد الآن أو يقتسم معه فراشه.
وجد له مكاناً في أحد أركان المقبرة المزدحمة والمكتظة بالنائمين الذين لن يصحوا إلا في يوم لا يعلمه إلا الله عز وجل.
حي بين الأموات أم ميت مع الأموات
لم يكن بحاجة إلى أي أثاث أو تجهيزات لغرفته الخاصة فجسمه الصغير يسمح له أن يغرسه بين قبرين أو حتى حجرين.. الكبار يخافون دخول المقابر في الظلم وعبد الرحمن ما إن ينزل الليل يسارع سعيداً بالعودة إلى بيته يتحسس ويتلمس القبور وصولا إلى فراشه الترابي ليبدأ معه ليلاً طويلاً وكما كان يفعل دوماً يبدأ بمسامرة النجوم مع فارق أن هذه المرة لن يقاطعه شيء أو يزعجه إنسي.. سلسلة حكايات يومية ظلت النجوم تستمع إليها من طفل لم يكمل عامه السادس بعد.. يستمتع بالنظر إلى السماء ومحادثتها وتستمتع بدورها النجوم بالإصغاء إليه.. ألفة وصداقة صادقة على غرار تلك الصداقات التي أنشأها مع أطفال آخرين هم وجدوا أنفسهم أيضا في الشارع بلا مأوى يتشاركون التسول ويقتسمون الخبز القليل فيما بينهم.. هم لا يشبعون وأبدًا بطونهم لا تمتلىء لا يجدون ما يسد رمقهم ومع ذلك تراهم يبتسمون ويمرحون وتسمع تلك الضحكات ترتفع وتعلو والرحمة من عند ربي تنزل.. المطر قطراته الناس يهرب منها وأطفال الشارع وبينهم عبد الرحمن يسارعون للاستمتاع بها والاغتسال تحتها.. دش رباني بارد منعش يداوم عليه عبد الرحمن ورفاقه كلما فتحت السماء أبواب الرحمة وانهمر المطر.. وبه تغتسل أجسادهم ومن قبلها لباسهم الممزقة والملتصقة بجلادهم.. هم لا ينزعونها عنهم وليس لديهم غيرها لا يخشون المرض وإذا ما مرضوا فالله وحده يشفيهم أليس هو القائل في محكم آياته “ وإذا مرضت فهو يشفين “ صدق الله العظيم
هو طفل رغم الشقاء الذي كان يعيشه كان يحاول أن يستمتع لتكون علبة المياه الفارغة كرته التي يدحرجها ويتفاخر بمهاراته وهو يتفنن اللعب بها وكانت الحجارة بديلا له عن الفتاتير أو الخرز كما يسمونها.. الخيارات أمامه كانت متوفرة ولم يكن لشيء يمنعه من الاستمتاع لكن وقت اللعب كان اقصر ما يكون ووجب عليه السعي وراء طلب الرزق والعمل بجد لتوفير ما أمكنه ولا يظن أحداً أن التسول وسؤال الناس بالأمر الهين.. أي نعم هي مهنة لا تعترف بعمر وليست متصلة بشروط.. أي نعم أنها مهنة من ليس لديه مهنة لكنها على حد قول عبد الرحمن صعبة ومريرة بحاجة إلى من يتعلمها.
الآن أصبح عمره ستة أعوام فمرت الأيام والأشهر وربما قليل من السنوات سريعا وما زال عبد الرحمن في الشارع يعمل وفي المقبرة يسكن إلى أن حدث شيئ غير من حياته.
ترى ما هو ذلك الشيء الذي قد حدث وتشقلبت معه حياة طفل لم يكن ليعلم انه يعيش آخر أيامه في الشارع الحياة التي لم يكن هو من اختارها.. ومن منا يستطيع أن يختار حياته أو حتى والديه.
الشرطة تمسك بالطفل
ففي مقبرة الاجينات لفت انتباه احد أبناء المنطقة أن صغيراً في السن يدخل خلسة إلى المقبرة ولا يكون ذلك إلا عندما يحل الظلام في حين يغيب تماما عن المقبرة طيلة النهار.
استغرب الرجل للأمر فحاول أن يعرف ماذا يفعل أو ماذا يدور بخلد ذلك الغريب فعلا انه لشيء لا يقوم به إلا من كان غريب الأطوار.. حيرة الرجل وفضوله دعياه إلى مراقبة الطفل وبعد أيام من الترقب والمراقبة عرف انه يأتي لوحده في الليل إلى المقبرة لينام بجوار الأموات ليصحو مع صياح الديك وصوت الطير في السماء يصحو مبكرا لينطلق مسرعا دون ضجيج.. حينها تنبه الرجل إلى أن الطفل مشرد بلا مأوى أو مسكن فما كان منه إلا أن أبلغ عنه قسم شرطة المنطقة وكانت خطتهم أن يكبسوا على عبد الرحمن في حين غفلة منه يأتوه وهو نائم.. وبينما هو يغط في نوم عميق يحلم ومن بعيد النجوم والقمر تسهران عليه فتح عينيه ليرى شابا اسود كثيف الشعر يقترب منه أكثر فأكثر لوهلة ظن انه حلم مزعج ليسمع صراخا في وجهه وكلمات لا يزال يتذكرها “انهض تحرك” أيقن حينها انه لم يكن ليحلم نهض وهو يرتجف خائفا.. أربعة رجال يحيطون به وبفانوس يد يضيئون نحوه.. خاف الفتى فهو يعرف أن من يحيط به رجال شرطة لا يلاحقون إلا المذنبين والمخطئين فحاول عبد الرحمن الهرب من ذنب لا يعرف ما هو.. هو يحفظ المقبرة جيداً كيف لا.. وهو مسكنه منذ فترة ليست بالقصيرة.. أفلت منهم وراح يتنقل من حجرة إلى أخرى ومن فوق قبر إلى آخر تاركا الأربعة خلفه وما إن هم بالخروج من المقبرة إذا به يصطدم بشيء أوقعه أرضاً حائطاً لم يكن موجوداً حينما دخل إلى بيته لم يكن يعلم انه اصطدم بحائط بشري.. هو ذلك الشخص الذي كان يراقبه وهو نفسه الذي أبلغ عنه وكان متأكدا أن الطفل سيحاول الهرب ومن أين سيخرج من المقبرة.
امسك بعبد الرحمن وتم نقله إلى القسم وبعد البحث والاستعلام لم يتعرف عليه احد فلم يكن له أهل وظن الجميع انه يتيم الأب والأم وليس له أصل أو من يسأل عليه ولم يجد رجال الشرطة شيئا أنسب من أن يتم تسليم الطفل إلى دار الأيتام وهو ما كان.. فقد تم إيداع عبد الرحمن عبد الله المداح في دار الأيتام بتعز ليبدأ حياة جديدة ونمط حياة غير مألوفة له وليس بشيء يشبه عالمه الذي اعتاد العيش فيه.
العيش في دار للأيتام
انتقل عبد الرحمن إلى الدار وتم استلامه من قبل الإدارة التي سعت جاهدة للاستعلام عن الزائر الجديد ما من شأنه يهديها إلى أسرته خيط ولو رفيع من خلاله تبدأ البحث لكن لا فائدة وكل ما خلصت إليه من عبد الرحمن هو اسمه فقط.
في البدء لم تكن الحياة الجديدة بسهل تقبلها فالحياة هنا تختلف عن الحياة في الشارع لم يعد يشعر انه حر يحلق أينما يحلو له يأتي ويذهب دون أن يراقبه احد لم يكن هناك من يمنعه عن فعل أو تجربه شيء لم يكن هناك من يخاف عليه ويهتم بمصلحته الوضع الآن اختلف عما كان عليه في السابق.
الدار في بادئ الأمر كان عالما غريبا عنه وللوهلة الأولى كان يعتقد الطفل انه مسجون لا يسمح له بتعدي السور فحدوده تتوقف عند ذلك الجدار والبوابة التي يقف عليها حارس يمنع خروج احد دون أن يكون مصرحاً له بذلك.
إذاً الحياة في الشارع أفضل رغم صعوبة العيش فالحرية كنز لا تشترى بالذهب.. هكذا كان شعور عبد الرحمن في البداية.. لم يرض بوضعه الجديد ولم يكن من السهل عليه التأقلم معه أو مع من هم حوله.
الحنين للأصدقاء
شعر عبد الرحمن بالحنين ولم يكن ليبتعد عن الذين ظلوا معه لأعوام فكان ما إن ينام الجميع يسير متخفيا إلى حوش الدار ينام في زاوية هناك على التراب وتحت شجرة يحدق إلى السماء فيبتسم متمتماً بصوت خافت غير مفهوم خوفاً من أن يسمعه احد وهو يحدث أصدقاءه القمر والنجوم.. الآن عاد ضوء القمر ولمعان النجوم .. القمر اكتمل وصار أحلى وأجمل برؤية عبد الرحمن.. ما أروعه من مشهد حتى أن الشعراء يعجزون عن وصفه وكذلك ريشة أشهر الرسامين ليس بإمكانها رسم المشهد
منظر لا يضاهي جماله شيء أي ورب الكعبة.
وكما يقال دوام الحال من المحال.. من سيعطي الحرية لعبد الرحمن ينام أينما يشاء ويسمح بهروبه اليومي في الليل للنوم في ساحة الدار.. الإدارة علمت بالأمر وفرضت إجراءات تمنع تكرار فعل الطفل.. ومع مرور الأيام والسنين عبد الرحمن بدأ يندمج مع حياة السجن تلك.. كون صداقات جديدة مع أطفال زملاء له في الدار لكنه ابداً لم ينس أول صديق له القمر والنجوم.. شرع يحكي لأصدقائه الجدد ما كان يقصه للأولين انخرط معهم ضحك معهم ناموا سوية.. أكلوا من صحن واحد تشاركوا الأيام حلوها ومرها.. كانت السعادة تغمره وهو يتعلم القراءة والكتابة شعر بآدميته وانه طفل غير ما كان عليه.
العثور على الأهل ومن ثم الفرار منهم
اليوم صار عمره 11 عاما ولأول مرة عرف معنى العيد والكسوة شعر انه يعيش وسط عائلته الكبيرة وتحت سقف واحد يلم الجميع بيتهم أصبح دور الأيتام.. يصر عبد الرحمن على عدم استبداله أو تجربة حياة جديدة رفض حتى أهله الحقيقيين وفضل البقاء في الدار بصحبة من اعتبرهم إخوانه.. وقد يتساءل القارئ لم نكن نعلم أن أهله موجودون وكيف تم العثور عليهم ومتى.. ألم يكن الطفل يتيماً وحيداً تتلاعب به أمواج الحياة دون أن يأخذ بيده احد.
واليك عزيزي القارئ بعض من السطور القصيرة لنحتفظ بالتفاصيل لكي لا نقتحم اشياء لم يؤذن لنا أن نأتي عليها أو نتطرق إليها ونحن نسرد قصة الطفل عبد الرحمن وأيضا كي لا نخوض في أمور بطل روايتنا لا يحبذ أن نوردها من اجل أن لا نجرح شعور أسرته.
لنكتفي بإشارات ومن أراد أن يطلع على كافة التفاصيل أو تقديم المساعدة ما عليه سوى التوجه إلى دار الأيتام بتعز.
أسرة عبد الرحمن عثر عليها وهو في سن العاشرة أي قبل عام من الآن تقريبا.. وبعد أربع سنوات من انتقاله للعيش في الدار ومن البحث المتواصل من قبل إدارة الدار التي لم تيأس وظل الأمل يحدوها في العثور على أي قريب لعبد الرحمن.. أربعة أعوام من السؤال والبحث بعد مجيئه إلى أن اهتدت الإدارة إلى الوالدة فتم العثور عليها في منطقة السحول محافظة إب لكن حالها لا يسر احداً.. أصبحت الأم تجوب الشوارع رافضة الواقع ومستنكرة ما تعرضت له وها هي تفضل حياة الرفض غير مدركة تماما لما حولها.. أما والده وإخوانه فقد تم العثور عليهم في العاصمة صنعاء وتم طلبهم إلى الدار وبعد إكمال كافة الإجراءات والتأكد من صلة القرابة تم تسليم عبد الرحمن إلى أهله بعد عشرة أعوام من التشرد والجوع والمرض والعيش في الشارع والمقابر ومن ثم دار الأيتام. تم تسليمه إلى أهله ظناً من الجميع انه سيكون سعيدا جدا بلقياه لأهله أخيراً غير مدركين ما يخبئه القدر.
شهر واحد فقط لم يحتمل عبد الرحمن العيش وسط من اعتبرهم أغراباً عنه ومن يتشارك معهم اسم العائلة الواحدة.. أهله أصبحوا أغراباً عنه.. فر منهم ليتفاجأ الجميع بعودته إلى الدار وهي حادثة تتكرر كلما جاء لاستلامه.
وكلما تم منحه إجازات في الصيف يذهب مع عمه لكن سرعان ما يعود بعد أيام ولوحده إلى حياته الثانية والتي اختارها وفضلها على العيش بين أسرة أصابها التفكك ولم يكن في يوم يجد نفسه بينها أو معها.
سطور النهاية
.. هو الآن يرفض الانتقال للعيش مع احد من أقربائه وما إن يذهب مع احدهم يعود مرة أخرى .
.. عبد الرحمن تعلم الصيام وهذا العام عاقد النية على صوم الشهر بأكمله دون أن يفطر يوما واحدا.. يواصل دراسته في الدار ويأمل يوما أن يكون طبيبا يداوي جروح الناس.. يخفف آلامهم ويخلصهم منها.
.. هو عانى كثيرا ومعاناته تلك ستجعل منه شخصاً يقدر الآخرين ويقدم على مساعدتهم.
.. أحلامه في الحياة كما قال لنا كثيرة وكبيرة ورغم محاولاتنا المتكررة للاطلاع عليها إلا إننا كنا نصطدم برفض قاطع من عبد الرحمن الذي يأبى أن يتحدث عنها وقال متبسماً: اسألوا أول صديقين لي فكل شيء عني يعرفانه ولا اخفي عنهما امراً.. ترى ما إن توجهنا بسؤالنا لصديقي عبد الرحمن كما قال هل سيخبرنا القمر والنجوم بما كان يُحدث به عبد الرحمن.. بالتأكيد لا فصداقتهما أساسها الوفاء والإخلاص وليس من شيمهما إفشاء الأسرار. [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.