في جنح الليل ، وحين يظل القمر لأيام مضت مختبئاً في مكمنه ، نائماً في مخدعه ، يعطي العتمة شيئاً من الوقت لتنفض من أحشائها الدجى المدلهم ، كاسية عري الأفاق بوشاحها لمن يختلس اللحظات ، يناجي فيها ربه، ولمن يضمر في قلبه محبة لخليل أن ينساب الدمع من عينيهما رويداً رويداً ، يبعث ذلك فيهما شعوراً جميلاً بالغبطة والتندر في اَن . وأبو مندر مازالت عيناه تجوسان الخواء في تبصر، وقد كسا الشحوب وجهه ، وزالت منها علامات الحبور، مستطلعاً الفضاء وبيمينه دفاتر تلاميذه الصغار ، يخاله المار أمامه للوهلة الأولى أن به عوارض الجنون . كان من قديم ينظر إلى الأشياء بعيون ملؤها الحب والنقاء ، قبل أن يغترف من معين كينونته لبها ، زاعماً أنها وإن اتسخت بالواقع الأليم الممظ ، ستكون ولو بعد حين ذات نفع عظيم . ففي بلدته يحترفون شيئين ، الجمود والتكرار ، فجمود الجلمود أضحى أكثر ليناً من أن تستميل إلى جانبك أناساً يقتاتون على عثرات الماضي وسوقه عنوة إلى الحاضر ، ويباركون الخرافة وصاروا يوما بعد يوم عبيداً للوسيلة لأنه هناك حيث تقبع البئر مازالت تدوي منذ قرون صرخات من الفجيعة. غداة أغار ذوو السمات الواجمة ومعهم الخذلان على خدور قبيلة وديعة ، مرسلين ولعقود مضت إلى الوادي الجاف الركون إلى الهروب ، وبات الأحفاد التي لفحت سحناتهم الشمس يحترقون من أوار التواكل ، ويا للفاجعة حين يحدو أحدهم بصيص أمل بتحطيم القيود والنذور منثورة في كل حدب وصوب . لك الله من أين لنا الماء والآبار ناشفة منذ ألف عام !؟. من عادة أهله النوم باكراً ،بعد المغيب ،بعد أن يبذرون اللواقح في مكامنها، إذ يتناهى وأنت تعبر الأزقة صوتان ، ضحكة لامرأة بدوية وصراخ طفل لا يبتغي الفطام. تراءت لعيونه العسلية وهو يمشي الهوينا في الطرقات فراخ غافية تحلم بيوم تطير فيه ، ومن خلال سراج خافت بانت ملامح شيخ هرم إقتعد القرفصاء في زاوية داره ، بترت ساقه اليمنى وهو ينقذ حملاً وديعاً علق بين الصخور، اتجه صوبه فجأة وقد واتته الشجاعة وصاح بملء فيه : عشرون عاماً والكتب تنتحب بين أضلعي كي أعلم التلاميذ أن زهرة اللوتس يحبها من يعاقر فؤاده الحب ، من تبوح عيناه بالدمع لغنج حبيبة ، لكن أغنامهم تقضم وإلى الآن في باحة المدرسة الأشواك. ولم يكمل بوحه حتى أستل خنجره المعقوف وبتر به ساق الشيخ اليسرى ومشى يجر معه أذيال الخيبة … بقي له أن يطلب الغفران مما اقترفه من بقايا اغترافه ، فهيهات أن يستوطن الحراك بلدته ذات يوم . حقاً لقد وصلنا أولاً ، كوننا الوحيدين الذين يركضون نحو الخلف.