سنين من العمر تمضي ثقيلة مليئة بالمكابدة . . لا يجد في أيامها شيئا حقيقيا يتوجب عمله .. بعد أن ترك الأرض والزوجة وشيئا يتحرك في أحشائها لم يره بعد رؤية يرى نفسه فيه حقيقة متواصلة . وفي هذا اليوم أيضا يقبع مستلقيا ككل يوم بثقل .. ليس لديه ما يفعله ، يغتصب النظرات في الأشياء ومداخل السمسرة . . أشياء عتيقة وصدئة مل رؤيتها منذ زمن بعيد ولكنه مع ذلك مجبر بالفراغ أن يطالعها لليوم مائة مرة . . والا النوم المغلف بالأحلام هو الوعاء المقدس . . منذ ترك الأرض والزوجة والقرية “لعسكر”/ الإمام .. هل حقا هو الأن يكره العسكر ويحقد على من أرسلهم هذا الذي يدعونه «الإمام “ الى هذا الحد .. هكذا يحدث نفسه في الفراغ دون أن يسمعه أحد ، أو تقتحم الهواجس رأسه بصمت ولكنه سرعان ما يتنبه على الطنين في رأسه .. طنين أشبه بأجراس الكنائس ، يهز رأسه ويتلفت في كل الاتجاهات .. يلوم نفسه بعدها . . فيستغفر الله ، ويتلو بعض الأدعية ثم يلوذ بالأحلام والنوم . ويكون ملهم على كرسي السمسرة الخشبي العتيق في الجانب المقابل لصاحبه “مقبل “ الذي حرف لجوءه لهذه السمسرة لنفس الأسباب هربا من الجباة وعسكر الإمام ، مئات غيره . . إن لم يسعفه النوم بالأحلام .. يغرس ريشته القصبية في قارورة الحبر الأسود. ويدون شكوى في الورق بالنسخي أو الرقعة على طريقته أو يكتب خواطر أو يرسم أشكالا لكائنات غريبة وخطوطا أشبه بالهلوسات .. ولكنه غالبا ما يضيق بالكتابة والرسم . . فينحي الريشة جانبا ويمزق الأوراق ثم يستسلم للنوم .. وأحيانا يلذ لعينيه أن تطل ترقب الظهيرة والفراغ . . وتستأنسان بالتطلع الى الحفاة المتناثرين مثله على الكراسي كالنفايات بتعب . . ثم يستعيدها عندما يحس بتعب . . فيدون بريشته شيئا ما على الورق وبعد لحظة يحس بتعب فيخفيه أو يمزقه.
كان يعلم مثلهم أنه هو أيضا كائن ممزق كتلك الكائنات والخطوط التي يرسمها ولكنه لا يرقى الى تلمس سبب حقيقي لهذا التمزق ، ويظل القدر.. وأحيانا بسأم متزايد تطال عيناه بروز عظام صاحبه “مقبل “ في الجانب المقابل فيغرسهما في الصفرة التي تلون بها وجهه برعب ويتخيل العتمة في وجه صاحبه “مقبل” كوحش أسود ينهشه وتهجس نفسه برهبة .. سيذوب مقبل لا شك في تلك العتمة القادمة مع الليل . . إنه جزء منها وأنا أيضا كلنا ذرة من ذراتها سنرحل ، معها ، سننطفئ فيها كما تنصهر الشموع .. يتلفت يتجول بعينيه في السمسرة .. لا أحد .. كلهم ينامون أو يتظاهرون بالنوم . . حتى صاحب السمسرة . . مل الوجوه والسمسرة فنام . . وعندما يحس المرء بشيء من هذا القبيل فماذا عساه أن يفعل .؟ يغني ، أو يبكي أو يتلمس الأ شياء، يسأل نفسه , ويعجز اللسان عن الكلام ، شفتاه ترتجفان لكن الغناء حرام ، والبكاء معصية ، والشكاوي لا يلتفت اليها أحد.. يتثاءب .. يفغر فاه ثم يغلقه، يمطمط يديه وقدميه طلبا للنوم كالعادة ، لكن النوم لا يأتي، يحاول التسلي بالنظر الى موقد السمسرة العتيق ودكة الحجار المهلهلة، قوائم الكراسي المليئه بالانحدار والنتوءات كأشباح متآكلة ، أشياء تافهة أتى عليها البلى والصدى وطواها الزمان كما طوى حياته البيضاء بغمامة داكنة ، ضجة طارئة وأشياء تتحطم في الأعلى، ما هذا؟ يرفع عينيه في الكوات التي تنزلق منها السماء.. صفير الرياح يعبث بالقنديل الصدئ المعلق بسقف السمسرة ، يهبط بعينيه للأسفل ، يغمضهما في محاولة متشبثة بالنوم ، لكن النوم مرة أخرى لا يأتي كأنما وثق عقدا مع الهواجس ، يفتح عينيه من جديد، يقبلهما في مقبل صاحبه الذي استسلم لإغفاءة منهكة كالموت ، شخير مقبل المرتفع هو الذي يدل على أن مقبل مازالت به بقايا حياة ، هذا الرجل المشكل بعتمة الصفرة المميتة وسوء الغذاء، ترك أرضه وأطفاله وزوجته وفر بجلده الهزيل من العسكر والجباة.
إنه مثله يعرف قصته عن ظهر قلب كما يحفظ مئات القصص ، آلافها المتشابهة والأشد عسفا لآخرين ، قصص من يوم (العدينة ) وغيرها لرجال حقيقيين ، رجال ونساء وأطفال ، تسلقوا أشجار العتل العملاقة وملأوا بطونهم منها, رجال توغلوا في البلاد بصبر المؤمنين وأكلوا مع الحمير، يتحسس الآن جلده البارد.. يتثاءب للمرة الثالثة والرابعة والخامسة ، داخله الآن كالجليد.. إن شعوره أضحى الآن فادحا وحزنه معتقا بسنين الرجاء الذي لا يأتي والانتظار.. الصفرة تتأجج في وجه مقبل كأنها ستقطر دما بعد لحظات ، ومقبل لم يستيقظ بعد، يقلب عينيه في ظلامه برهبة ، اوصال مقبل وعظامه ترتجف ويهجس .. لعل مقبل لن يستيقظ أبدا هذه الليلة ، فقدت الحياة مآثرها ولم يعد شيء يوحي فيها بالحياة .. أخ لقد مضت على هربه من القرية سنوات وذلك الكائن الذي تركه يركض في أحشاء الزوجة ، لم يعرف من رؤيته أكثر من ساعات مخضلة بالخوف يلوذ خلالها بالآكام والحفر من عيون عسكر الإمام كأنه قرد من قرود الجبال . سنوات من الفرقة والشوق ، وتستيقظ في دواخله لمحات من المراجع تضيئه لحظات ، ثم تفلت كالسديم .. ويصفي لداخله ، أكل هذا بسبب العساكر والجباة , وعصيهم الغليظة المسلطة ، ومع ذلك يضللون الإمام؟ أخ لا أدري.. لقد دارت الدنيا تنبت الموازين .. الحريق في داخله، وأشواق مغلفة ، ولكنه لا يعثر بمخرج , وتمضي السنون , العجاف شحيحة باردة كيديه اللتين افتقرتا الى حرارة الفأس منذ زمن بعيد. ثمة خط واه هو في حيرة منه .. هذا الخط ليس طريقا بالمعنى وعرا يحفل بالحفر والنتوءات , ولا مسافة يجتازها لسنوات ، وليتهما كذلك . ولو كانا كذلك لاجتازهما مهما تعمقت المخاطر, وانقضى الأمر، خط شفيف .. شفيف .. ومع ذلك أعسر من طوع السموات .. بدايته في صدره ، ونهايته في الرأس عند الجمجمة ، العرق يتفصد من وجه ملهم ، وينضح به رأسه رغم البرودة والرياح , وملهم ينزه على الأرض بمثابرة دونما توقف ، هي عادة من الارهاق والأرق تكلله كل ما تذكر حكاية الأحرار والمعارضة .. أولئك الناس الذين لا يدري والعلم لله يشهرون بالإمام ، وينسبون اليه كل ظلم للرعية في المحافل . هل يكون حقا ما يقوله هؤلاء؟ أم هو رجل أراده الله ؟ تلك تساؤلات تطل في رأسه ، وتتنازعه بصمت ، وهي الخط الواهي الذي يفصله بضوئه الغائم عن ذلك الضباب .. أم هم العساكر وأهل الشور والجباة .. شيء لا يصدق .. لا يصدق يا ملهم .. استغفر الله لك الحكمة يا رب .. يعم العرق بعد ذلك جسد ملهم بشكل لم يعهده في نفسه من قبل ، وتفشى قلبه برودة كالموت .. فيتضاءل كأرنب .. يغمض عينيه بعدها ويستسلم للنوم والحلم .
ويحلم ملهم ويحلم ، ويحلم مقبل ، وتحلم الأجساد المنهكة على كراسي السمسرة بتعب ، ولكن ما رآه ملهم في هذا الأصيل والمساء.. ليس حلما مريحا كما اراده في هذه الليلة الداكنة ينفض عن روحه المتعبة الاجهاد والأرق ، وكنه حلم بدايته الرعب , وأخره الكوابيس .. فما إن يستسلم لكائنات صغيرة غريبة تطارده ، حتى تسلمه لمطاردات أخرى من كائنات كبيرة .. ويستيقظ ملهم من نومه بفزع .. يكون الليل في أواخره .. عظامه الهزيلة كالحطام من شدة البرد.. يفتح عينيه في عتمة الصفرة المنحوتة على وجه صاحبه مقبل ويغلقهما. يرفع عينيه في كوات السقف المدلهمة بالسواد، ويطالع من خلالها سكون الليل الأكثر سوادا.. فترتجف روحه بقشعريرة ، وقلبه في هذا الليل البارد الموحش كتلة من الثلج ضئيلة .. كما لو ان السنين الباردة قد ترسبت فيه على شكل قطرات من الثلج بعد أن رحلت عنه الحرارة . لم يكن الفجر قد لاح عبر الكوات في الأفق ولا لمحة من لمحاته .. يؤنس هذا الليل الفارق في الظلام .. وهو يحدق .. لو يتسارع .. فما أحوجه الى الفجر في مثل هذه الليلة المعتمة .. سيغتسل ويصلي فلعل الاجهار بصوته يذيب شيئا من شعور الوحشة والبرودة ، الليلة (خميس ) واليوم ستفتح السماء فيه أذانها ويباركه الرب .. أغمض ملهم عينيه , وقلب بقايا جسده على الحبال ، لكن النوم لم يواته ، فقد ظلت عيناه غارقتين في الظلام والصمت ، ولم يطل الصمت كثيرا.. أضاء السمسرة انفجار مروع من الخلف .. تلاه انفجار آخر.. أعقبته لألأة بنفس طويل من البنادق ، انفجارات متوالية كثيرة ، وزمجرة تنفض عن الليل صمته وسكونه من ألسنة الجنازير, كل العيون الغافلة في السمسرة بتعب استيقظت مفتوحة بخوف وبله للأخر، تتواصل الانفجارات كسلاسل الرعد، ويشتعل الليل بالحرائق .. إنها الجحيم . قلب ملهم يزداد خفقانه ، ويتصاعد في أذنيه الوجيب .. روحه ترتجف ، لكن البرود زايلها منذ لحظات فتشتعل الآن بالحرارة . مقبل أيضا على كرسيه متوتر كقرد، طرد التوتر من على وجهه الصفرة ، فاستيقظ في داخله حب البقاء ونمت الشياطين ، مازالت الانفجارات تذيب وجه الليل في الخارج ، ملهم يقلب الأمر بخوف وصمت .. في البداية ظنها القيامة .. الإمام الجديد يدمر بيوت الخارجين عن الطاعة ربما؟ ولا يجد الاجابة .. الأئمة يلجأون الى استئصال الأعناق في مثل هذه الحالة ، ولكن أي شياطين تحل الأن في المدينة ؟ لا يتصور ملهم أي شيء أكثر من هذا أبدا.. كل الأذان مرهفة ، والعيون في الكوات مشرئبة ، والليل ينصهر ببطء من حرارة الضوء والانفجارات ، دخل ضابط يلهث بحثا عما يبل به ريقا من الماء.. سأله أحدهم ؟ قال الضابط من خلال لهاثه .. الإمام الجديد تحت الأنقاض . أطفأ الضابط بعدها لهاثه بقليل من الماء، وعاد مسرعا للخارج .. وقبل أن يغيب قال بنفس اللهاث إنها “الثورة “، ثم انطوى بسرعة البرق عن الأعين .. ثورة .. ثورة ؟ غشيت ملهم سكينة مقدسة أعجمت لسانه عن النطق وشلت حركته ، وصمت كالموت ساد السمسرة قطعه بعدها أحدهم وقال الحكمة لله. الحكمة لله، وردد كل من في السمسرة .. انصهر الليل ببطء فسكنت الانفجارات ، ولم يدرك ملهم كيف انقضى الوقت ، لكن أشعة الشمس الفتية أعلنت من خلف الكوات تباشير طلائع الصباح .. قبلها بلحظات أعلن الراديو بثقة .. إنها الجمهورية والحكم للشعب , ورغم ان ملهم ظل مغشيا بتلك السكينة المقدسة .. إلا أن شيئا أثيريا ظل ينسرح في داخله بالإضاءة .. ويغمر روحه رويدا.. رويدا بالدفء والحرارة ، ولأول مرة ، يحس ملهم بدافع من الفضول في داخله يحثه إلى رؤية لون الشمس وكيف تشرق في هذا اليوم الجديد.