الصحة النفسية لاتعبر عن الخلو من الأمراض النفسية كما يعتقد البعض، إنما معناها أوسع وأشمل، تتحدد فيها ثقة الإنسان بنفسه وتمكنه من إحداث التوافق والتناغم بين قدراته وطموحاته ومثله وعواطفه وضميره من أجل تلبية متطلباته وقدرته على متابعة حياته بشكل طبيعي بعد التعرض لأي صدمة أو ضغط نفسي. في اللقاء التالي مع الدكتور عبدالإله الارياني أستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة صنعاء نقف على معالم الاختلالات المؤثرة سلباً على الصحة النفسية التي قلما اهتم بها الناس، بل ويعتبرها البعض شيئاً معيباً أو مخجلاً مع أنها تشكل للكثيرين عائقاً متى حاودا عن علاجها أو تخلفوا عنه. فإلى ماورد في هذا اللقاء.. المرض النفسي سبراً لأغوار النفس وما يفسد علينا توازننا النفسي والسلوكي.. حبذا لو وضحت لنا مفهوم المرض النفسي؟ من السهل تعريف الأمراض البدنية؛حيث توجد مقاييس معروفة ومحددة متى حاد عنها القياس أعتبرت مرضاً. أما في المرض النفسي فالأمر يختلف اختلافاً بيناً، حيث لاتوجد مقاييس محددة للسلوك كماً ونوعاً والتي يمكن بواسطتها أن نقيسه في كل الأوقات عند كل الناس،فهناك العوامل الشخصية التي تختلف من فرد إلى فرد،وهناك العوامل البيئية والثقافية والتربوية. توجدعدة مفاهيم للمرض النفسي ولكن المتفق عليه في تعريف المرض النفسي أنه:حالة من التعوق أو المعاناة الجسيمة أو كلاهما،تؤثر على فاعلية الإنسان وعلى تكيفه الاجتماعي وعلى تصالحه النسبي مع نفسه، وهذه الحالة يصاب بها الشخص نفسه لدرجة تعتبر سلبية إذا قيست بما كان عليه قبل ذلك. فروق وتباينات يغلب على الناس الخلط بين المرض النفسي والمرض العقلي،بل ويعتبر هما البعض جنوناً .. فهلاً وضعتنا على أوجه الفرق والاختلاف بينهما؟ أولاً أن المرض النفسي خفيف مقارنة بالمرض العقلي ولايسبب إعاقة كبيرة للإنسان ولا يخلط فيه المريض بين الواقع والخيال، فلا توجد لديه أو هام أو هلاوس، وتظل بصيرته بمرضه سليمة، ويلجأ غالباً لطلب العلاج، فيما تصل نسبة انتشاره في المجتمع إلى «20%». بينما المرض العقلي شديد مقارنة بالمرض النفسي ويسبب إعاقة شديدة للمريض تعزله عن مجتمعه وأسرته. كما يخلط المريض العقلي الواقع بالخيال ويعاني من هلاوس وأوهام ويفقد بصيرته بمرضه ويرفض العلاج،إلا أن نسبته لاتمثل سوى «1-2%» في المجتمع. أنماط متعددة ?كيف تفسرون الحالات النفسية التالية «الاكتئاب الهوس القلق الفصام الوسواس القهر»؟ سبق وأن ذكرنا أن المرض النفسي ليس كالمرض العقلي،وأحب أن أضيف هنا إلى ماسبق بأن المرض النفسي آضطراب طفيف في التفكير والمشاعر والسلوك للإنسان وفي مكونات بنائه النفسي،يكون معه الإنسان مدرك للحالة التي هو فيها ويسعى للخروح مما هو فيه، وقادر على شرح معاناته وآلامه النفسية،وليست لديه أعراض،كالضلالات الفكرية أو الهلوسة السمعية أو البصرية. بينما المرض العقلي من الحالات القاسية على المريض، وتحدث نتيجة عوامل متعددة،منها بالطبع عامل الوراثة وعوامل بيئية أخرى، ويتسم بشدته، كما أنه بحاجة لفترة علاج طويلة. وبالنسبة لحالات «الاكتئاب الهوس القلق الفصام الوسواس القهري» فهي أنماط من الأمراض النفسية وأسبابها خليط من الاستعداد الوراثي والأسباب البيئية والاجتماعية، ولكل مرض علاجه على حده، ولا مجال لذكر كل واحد منها في هذا السياق لطول شرحها. تصحيح المفاهيم اعتبار المرض النفسي مس شيطاني أو حالة تلبس للجن بالانس أمر يدفع بالكثير من المرضى النفسيين إلى الخجل من التحدث عن معاناتهم وعدم البوح حتى للأطباء المختصين.. برأيك كيف بالإمكان وضع حد لهذه الاختلالات؟ الأمراض النفسية ليست من أعمال الجن أو الشياطين،وإنما أمراضاً قابلة للعلاج والشفاء، وعلى الناس ألا يظلوا حبيسي الماضي والموروثات الخرافية من حقب الجهل والتخلف التي لاصلة لها بالتشخيص للأمراض النفسية وغيرها المعتمد على العلم والطب والتخصص.. بعيداً عن الكهانة والشعوذة وعما يدعيه الدجالون. فالطبيب النفساني وحده المناط به تشخيص الأمراض النفسية ووضع الخطة العلاجية الملائمة والكفيلة بشفاء المرضى النفسيين. وأقول لمن يخجلون من البوح بمرضهم إلى الحد الذي يدفع بهم إلى التخلف عن العلاج،وكذا المسؤولين عنهم في أوساط الأسرة،الا داعي لهذا الخجل،فهو يزيد من تصعيد مشكلة المرض النفسي. والكثير ممن عانى أمراضاً أو مشاكل نفسية تعافى بعد تلقيه للعلاج المناسب على يد أطباء مختصين، وقد طور العلم في السنوات الأخيرة الكثير من الأدوية التي تساعد في علاج الأمراض النفسية. وبالمقابل توجد حالات نفسية كثيرة تستجيب للإرشاد النفسي لدى الطبيب النفساني والعلاج السلوكي وما إلى ذلك من طرائق العلاج النفسي الأخرى. تنوع المعالجة كيف تتم معالجة الأمراض النفسية؟ وهل يلزمها بالضرورة تناول عقاقير؟ يمكنني القول أن المرض النفسي أكثر قابلية للشفاء، وتشكل نسبة الشفاء فيه مابين «70 80%» تقريباً، أما المرض العقلي فقد يحتاج إلى تأني وعلاج مكثف، وغالباً بصورة دائمة ومنتظمة. وهناك ثلاثة أساليب للعلاج النفسي: 1 العلاج بالعقاقير: وهي علاجات مفيدة جداً، تعمل على تعديل المواد الكيميائية بالدماغ المسببة لأعراض الأمراض النفسية. وللأسف هناك نظرة سلبية حول الأدوية النفسية بأنها مخدرة أو مدمنة، وهذا غير صحيح، فكل مافي الأمر أن الإنسان في حالات معينة بحاجة إلى استخدامها لفترات طويلة جداً ما أعطى هذا الانطباع لدى بعض الناس. وأشير إلى أنه ليس بالضرورة استخدامها في جميع الحالات النفسية. 2 العلاج النفسي: علاج قائم على التخاطب بين الطبيب أو المعالج النفسي والمريض في جلسات محددة لهدف معين، ويتم فيها طمأنة المريض وتشجيعه وتدريبه على أساليب ذاتيه للتغلب على مرضه. 3 العلاج الكهربائي: علاج مفيد جداً لحالات الاكتئاب العقلي الشديد الذي يرفض فيه المريض العلاج ويهدد حياته لدى امتناعه عن الأكل والشرب أو لدى محاولته الانتحار. استعصاء العلاج متى يستعصي علاج الحالات أو الأمراض النفسية؟ إن الاضطرابات النفسية الناتجة عن مشاكل الحياة حالات عارضة قد تنتهي بزوال المؤثر، وهي عابرة تحدث لأغلب الناس إن لم نقل جميعهم، ويمكن التغلب عليها بعزم قوى وإرادة لا تتزعزع بالبعد عن التشاؤم والنظرة السوداوية لمختلف الأمور والتخلي عن الروح الأنهزامية. ويستعصي علاج الحالات النفسية عندما لايكون المريض دقيقاً أو تحت ظروف أسرية واجتماعية قاهرة لايستطيع تغييرها، لكن أهم سببين لفشل العلاج النفسي في مجتمعنا هما عدم استخدام المريض النفسي للعلاج بانتظام للفترة المحددة أو لإفراطه في تعاطي القات والدخان أثناء العلاج. دور الأسرة والمجتمع أين يتحدد دور الأسرة والمجتمع في مساعدة من يتعرض لاضطراب أو مرض نفسي لإخراجه من أزمته والعودة به إلى طبيعته؟ يمكن للأسرة والاصدقاء مساعدة من يتعرض لاضطراب نفسي بتفهم طبيعة اضطرابه وبمؤازرته ومساعدته على حل مشاكله، هذا مهم جداً للمريض النفسي وأكثر أهمية للحالات الشديدة، كما أن فيه تشجيع للمريض على العلاج وتقيده والتزامه بإرشادات الطبيب المعالج. وأشير هنا إلى أهمية استعمال العلاج الذي يصفه طبيب الأمراض النفسية بانتظام للفترة التي ينصح بها. ففي العادة يحتاج المريض النفسي لفترة طويلة للعلاج حتى مع تحسن حالته، إلى المدة التي يراها الطبيب النفسي ملائمة، ولو توقف المريض عن العلاج فجأة فهناك احتمال كبير لعودة المرض مرة أخرى. وأشدد على أهمية مراعاة مشاعر المريض النفسي وعدم وصمه بالمريض أو المجنون حتى لاتزداد حالته سوءاً وتعقيداً. ومن شأن الضغوط الشديدة التي يتعرض لها المريض النفسي أن تظهر لديه حالة من المعاناة يصعب معها مجاراته واندماجه في المجتمع وقصوره في التكيف على غير العادة مع مايقوم به ويفعله الناس، وبالتالي حدوث تراجع وضعف في قدرته على الأداء الفاعل في العمل والإنتاج. ولاننسى ضرورة تشجيع وتحفيز المريض النفسي على مواصلة عمله، كون المرضى النفسيين قادرين على القيام بالأعمال المعتادة، فيجب علينا أن نشجعهم دون إجبارهم على العمل فوق طاقتهم. وأذكر الأطباء والعاملين في المصحات النفسية ألا حاجة لاستبقاء المريض النفسي بالمستشفى أو المصحة النفسية مدة إضافية لاحاجة لها، لأن مكوثه فيها مدة طويلة يجعله متكلاً على غيره وأقل قدرة على العمل والاندماج في المجتمع وقد يصبح معتمداً بشكلٍ كامل على الآخرين. المركز الوطني للثقيف والإعلام الصحي والسكاني بوزارة الصحة العامة والسكان.