سأرحل في أعماق قصيدة ظريفة وبديعة اخترتها من ديوان الدكتور قيس غانم«من اليمين إلى اليسار».. أقام الشاعر حواراً بينه وبين الصفافة بدأه بالعتاب لكن سرعان مااشتدت لهجة العتاب لتتحول إلى مايشبه الاستغراب والاستعطاف من جانب«الصفافة».. لنورد المقطع الأول من القصيدة ونرى كيف كان العرض والحوار رائعاً:- هل غريبٌ أن أخافه إنه وكر الصفافة بعد أن زارت سريري وفراشي ولحافه قاسمتني في رغيفي شاركتني في الكنافة قلت بالله اتركيني بهدوءٍ ولطافه في البدء يبرّر الشاعر خوفه من وكر الصفافة ويقول: ليس بغريب أن أخشى وكر الصفاف.. فإذا ما اندفع من وكره وتسلل إلى غرفتي أو سكني فربما يصنع الأعاجيب.. وعندما أبدى الشاعر انزعاجه فلأنه قد شاهد الصفافة تتسلل إلى مرقده بل وتقاسمه أكله وزاده.. لكن مع كل ذلك يطلب إليها أن تدعه وشأنه ولم يكن قاسياً وهو يطلب منها ذلك، المهم أن ترحل بهدوء فهو ليس على استعداد لأن تقاسمه حياته.. لهجة العتاب زادت حدةً عند الشاعر خاصة وأنه قد وجد نفسه نحيفاً بسبب استئثار الصفافة بالنصيب الأكبر من زاده وشربه.. حتى بدت أكثر جمالاً وبدا جناحاها أكثر طولاً.. لكنها لم تقتنع بما قال لها.. فهي ليست بالشره الذي يصفها به.. كما أنها صغيرة الحجم وبالكاد تُشاهد فأنّى لها أن تلتهم الكثير.. وكل ذلك يتبدى في المقطع التالي: زدت طولاً وجناحاً بينما زدتُ نحافة فأجابت في عتابٍ دعك من هذي الخرافة إنما قُوتي قليلٌ لستُ فيلاً أو زرافة ليس لي كالذئب نابٌ لك حقٌ أن تخافه وتمضي في الدفاع عن نفسها مؤكدة أنها ليست مؤذية ومزعجة إلى الحد الذي ذكره الشاعر.. وكأنها تريد أن تؤكد حقها في العيش في هذا المكان وعلى النحو الذي تريد ولم تكتفِ بذلك بل وضعت نفسها في منزلة الضيف وراحت تسرد على صاحب البيت«الشاعر» طلباتها مذكرة إياه بأخلاقيات الضيافة.. فهي لم تقتنع بفتات الطعام بل تمنت لو يجلب لها العسل والحليب كجزءٍ من حق الضيافة التي تطالب به.. وهذا ماجعل الشاعر يصل إلى ذروة الاستغراب من قلة حياء هذا الضيف الثقيل الذي لم يكن يتمناه يوماً.. فصبر الشاعر وحلمه ورقته لم تنفع في ثني هذه الصفافة عما هي عازمة عليه.. وفي تشبثها في البقاء حتى لو لم تكن مرغوبة .. كل ذلك يمكن استشفافه من المقطع التالي: هات شهداً أو ثريداً هكذا شرع الضيافة قلتُ بالله اسمعيني أنتِ داءٌ أنتِ آفه كلّما صبّرتُ نفسي زدتِ عنداً وصلافة كل ذلك وهي مازالت تصر على أن الأمر لايستحق من الشاعر كل هذا التضخيم ولايحتاج هذا القدر من التهويل فهي -كما تزعم- مخلوق صغير وجميل ولايحتاج كل هذه الاستماتة لطرده من المنزل أو قتله والخلاص منه: فأجابتْ بازدراءٍ وأضافتْ دون رأفه انا صرصورٌ صغيرٌ ومثالٌ للظرافة كيف ترضى لي هلاكاً ومن السُمّ زُعافه؟ ويبدو أن الصفافة قد تناست أنها حلت في منزل طبيب جنّد حياته كلها لمحاربة الآفات والأوبئة والأمراض ولن يتساهل في أمرٍ كهذا وهو الطبيب الذي اقتطع شطراً كبيراً من حياته. لتكريس النظافة التي هي السبب الأهم في صحة الناس وتمتعهم بأجساد سليمة معافاة خالية من الأمراض والأوبئة.. ويبدو أن الصفافة قد أخطأت الطريق حين حاولت البقاء في منزل طبيب مستميت في النظافة: قلتُ لكني طبييبٌ مُستميتٌ في النظافه هي إيماني وديني فاتركي تلك السخافه واهجريني ودعيني وابعدي عني مسافه من المؤكد أن القارئ قد استمتع بهذه القصيدة الجميلة التي جادت بها قريحة شاعر هو في الأصل طبيب متخصص في طب الأعصاب.. لكنه يمتلك مخزوناً ابداعياً وموهبة شعرية تؤهله لأن يقدم للقارئ قطعاً أدبية جميلة كهذه التي بين أيدينا اليوم.. والقصيدة في مجملها تكرّس حق الكائنات الحية في العيش والبقاء على هذه الأرض.. هامش: الصفافة كلمة تُطلق في بعض مناطق اليمن على الصرصور.