شبوة تستقبل شحنة طبية صينية لدعم القطاع الصحي في المحافظة    لاعبو المانيا يحققون ارقاما قياسية جديدة    يورو 2024: المانيا تضرب أسكتلندا بخماسية    هل تُساهم الأمم المتحدة في تقسيم اليمن من خلال موقفها المتخاذل تجاه الحوثيين؟    ماذا سيعمل حجاج إيران في صعيد عرفات يوم السبت بعد أوامر خامنئي وكيف سترد السعودية؟    "تعز في عين العاصفة : تحذيرات من انهيار وسيطرة حوثية وسط الاسترخاء العيدي"    1. ثورة شعبية تهز البيضاء: أهالي حارة الحفرة ينتفضون ضد مليشيا الحوثي ويطردون مشرفيها    الحكومة اليمنية أمام مجلس الأمن: أي عملية سلام يجب أن تستند على المرجعيات الثلاث    لماذا فك الحوثي الحصار عن تعز جزئيا؟!    اتفاق وانجاز تاريخي: الوية العمالقة تصدر قرارا هاما (وثيقة)    صورة نادرة: أديب عربي كبير في خنادق اليمن!    وزير الخارجية الدكتور الزنداني يعلق على المنحة السعودية الجديدة لليمن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 37 ألفا و266 منذ 7 أكتوبر    المنتخب الوطني للناشئين في مجموعة سهلة بنهائيات كأس آسيا 2025م    "ياسين نعمان" ...المهم تاريخ الحزب!!    محافظ تعز يؤكد على ضرورة فتح طرقات مستدامة ومنظمة تشرف عليها الأمم المتحدة    الرئيس العليمي يشيد بمواقف قيادة المملكة من أجل تخفيف معاناة الشعب اليمني    القضية التهامية: صعود الوعي نحو استعادة الحقوق واستقلال القرار    اختتام دورة تقيم الاداء الوظيفي لمدراء الادارات ورؤساء الاقسام في «كاك بنك»    فتاوى الحج .. ما حكم استخدام العطر ومزيل العرق للمحرم خلال الحج؟    مقتل وإصابة 13 شخصا إثر انفجار قنبلة ألقاها مسلح على حافلة ركاب في هيجة العبد بلحج    يعني إيه طائفية في المقاومة؟    أروع وأعظم قصيدة.. "يا راحلين إلى منى بقيادي.. هيجتموا يوم الرحيل فؤادي    ضيوف الرحمن على صعيد منى لقضاء يوم التروية    إرم نيوز: "انهيار تاريخي" للريال.. يخطف فرحة العيد من اليمنيين    الحاج "أحمد بن مبارك" إذا طاف حول الكعبة.. ستلعنه الملائكة    مستحقات أعضاء لجنة التشاور والمصالحة تصل إلى 200 مليون ريال شهريا    أسرة تتفاجأ بسيول عارمة من شبكة الصرف الصحي تغمر منزلها    عودة 62 صيادًا يمنيًا من السجون الأرتيرية بعد مصادرة قواربهم    دعوة الموفد الأممي للحوار بين المشاط والعليمي شطب للقضية الجنوبية ودفنها    عرض سعودي ضخم لتيبو كورتوا    فضيحة دولية: آثار يمنية تباع في مزاد علني بلندن دون رقيب أو حسيب!    وزير الأوقاف يطلع رئاسة الجمهورية على كافة وسائل الرعاية للحجاج اليمنيين    نقابة الصحفيين الجنوبيين تدين إعتقال جريح الحرب المصور الصحفي صالح العبيدي    الحجاج يتوجهون إلى منى استعدادًا ليوم عرفة ووزير الأوقاف يدعو لتظافر الجهود    وزير الصحة يشدد على أهمية تقديم افضل الخدمات الصحية لحجاج بلادنا في المشاعر المقدسة    البعداني: نؤمن بحظودنا في التأهل إلى نهائيات آسيا للشباب    أبطال "مصر" جاهزون للتحدي في صالات "الرياض" الخضراء    أزمة المياه مدينة عتق يتحملها من اوصل مؤسسة المياه إلى الإفلاس وعدم صرف مرتبات الموظفين    رحلة الحج القلبية    اختطاف إعلامي ومصور صحفي من قبل قوات الانتقالي في عدن بعد ضربه وتكسير كاميرته    منتخب الناشئين في المجموعة التاسعة بجانب فيتنام وقرغيزستان وميانمار    ''رماية ليلية'' في اتجاه اليمن    الكوليرا تجتاح محافظة حجة وخمس محافظات أخرى والمليشيا الحوثية تلتزم الصمت    ميسي يُعلن عن وجهته الأخيرة في مشواره الكروي    هل صيام يوم عرفة فرض؟ ومتى يكون مكروهًا؟    غريفيث: نصف سكان غزة يواجهون المجاعة والموت بحلول منتصف يوليو    وفاة مواطن بصاعقة رعدية بمديرية القبيطة بلحج    إصلاح صعدة يعزي رئيس تنفيذي الإصلاح بمحافظة عمران بوفاة والده    السمسرة والبيع لكل شيء في اليمن: 6 ألف جواز يمني ضائع؟؟    اليونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    20 محافظة يمنية في مرمى الخطر و أطباء بلا حدود تطلق تحذيراتها    بكر غبش... !!!    مليشيات الحوثي تسيطر على أكبر شركتي تصنيع أدوية في اليمن    منظمة حقوقية: سيطرة المليشيا على شركات دوائية ابتزاز ونهب منظم وينذر بتداعيات كارثية    افتتاح جاليري صنعاء للفنون التشكيلية    وفاة واصابة 4 من عمال الترميم في قبة المهدي بصنعاء (الأسماء)    ما حد يبادل ابنه بجنّي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الشواهد الأثرية والتحليلات التاريخية المقارنة
الازدهار والتواصل الحضاري القديم في منطقة تعز (المعافر)
نشر في الجمهورية يوم 16 - 10 - 2009


1. تمهيد:
سوف يركز الباحث من خلال بحثه هذا بالإجابة عن سؤال متعدد الأوجه عادة ما يتردد بين دارسي التاريخ اليمني القديم، مفاده: ما الموقع الذي شغلته منطقة تعز في ذلك التاريخ بشقيه السياسي والحضاري؟، ولماذا يقل وجود الآثار والنقوش العائدة إلى هذا العصر في هذه المنطقة مقارنة لها ببقية مناطق اليمن الأخرى؟، وهل يعود ذلك إلى كونها كانت منطقة هامشية لم تهتم بها الدول اليمنية القديمة؟ أم يعود إلى قصور في توثيق الدور الذي لعبته هذه المنطقة كجزء هام على الرقعة الجغرافية التي امتدت عليها حضارة اليمن قبل الإسلام؟.
ومن أجل الإجابة عن السؤال أعلاه سيقوم الباحث بدراسة تحليلية مقارنة من خلال الأحداث التي شهدتها بلاد اليمن القديم وكذلك منطقة البحر الأحمر قبل الإسلام ؛ بغرض استكشاف دور منطقة تعز في تاريخ اليمن القديم وحضارته ، وذلك عن طريق تحليل تلك الأحداث والمقارنة فيما بينها ابتداءً من إخضاع المكرب السبئي كرب إيل وتر لبلاد المعافر(منطقة تعز) قبل توجهه للقضاء على دولة أوسان في مطلع القرن السابع قبل الميلاد ، وانتهاءً باختيار الصحابي الجليل معاذ بن جبل لمدينة الجند لتكون مقراً له كأول والٍ لدولة الإسلام الفتية على اليمن في مطلع القرن السابع الميلادي.
ويجدر بنا التنبيه هنا بأن مهمتنا في هذا البحث لن تتمثل في تناول تفاصيل كل الأحداث التي مرت بها المنطقة طوال هذه الفترة الزمنية الطويلة، لأن ذلك موضوع طويل أملنا أن تتكفل بتفاصيله الكثيرة بقية الأبحاث المقدمة إلى هذا المؤتمر، والتي ستتناول جزئيات وفترات محددة من أحداث هذا العصر، أما نحن فستتركز مهمتنا حول الإجابة عن السؤال الذي طرحناه أعلاه، عن طريق الإشارة إلى الأحداث باختصار بمايخدم الفكرة التي أردنا من خلال بحثنا هذا دراستها وإيضاحها.
وقبل الخوض في ثنايا البحث نحب أن نوضح بأن المقصود بمنطقة تعز في بحثنا هي محافظة تعز الحالية إلى جانب المناطق المحاددة لها من المحافظات اليمنية المجاورة لها(إب، الحديدة، لحج، الضالع)، أي تلك البلاد التي تقع في الزاوية الجنوبية الغربية من اليمن ، وتطل على مضيق باب المندب وسواحل البحر الأحمر القريبة منه والتي عرفت في التاريخ القديم باسم المعافر.
2. لمحة عن المواقع الأثرية في منطقة تعز:
سنقدم في البداية لمحة عن أهم المواقع الأثرية التي تنتشر في منطقة تعز وتعود إلى عصر ماقبل الإسلام، على النحو التالي:
مدينة السوا القديمة: كانت مدينة السوا في العصر الحميري -على الأقل- بمثابة الحاضرة الأولى لإقليم المعافر، وتعد البقايا الأثرية لهذه المدينة من أهم الآثار المعروفة في محافظة تعز حتى الآن، وتتمثل هذه الآثار في سور المدينة، وكذلك القصر وملحقاته، إلى جانب المنشآت السكنية والمقابر، وكذلك بعض المواقع الأثرية حول المدينة، مثل موقع الظهرة (السوق)، وموقع ضمدة، وموقع سد الأعدوف.
الجدير بالذكر أن المدن التاريخية القديمة الأخرى المعروفة في منطقة تعز، مثل المخا وموزع لم يتم العثور فيها حتى الآن على آثار ذات شأن يمكن إعادتها إلى عصر ماقبل الإسلام، رغم معرفتنا لها من النقوش المسندية والمصادر التاريخية القديمة.
أما مدينة جبا التاريخية فقد تم العثور فيها على بعض الآثار القديمة عن طريق الصدفة، وقد تمثلت تلك الآثار بتمثال ثور من المرمر ومسرجة.
وسيأتي الحديث عن تاريخ هذه المدن في ثنايا فقرات البحث القادمة.
مواقع منطقة الحجرية: يوجد في قرية صبيرات ،مديرية الشمايتين، كهف عثر فوق جدرانه الداخلية على رسومات صخرية، وكتابات بخط المسند، وكذلك عثر في قرية حاز،عزلة قدس،مديرية المواسط، على بعض الأواني الحجرية القديمة، وهي محفوظة في متحف صالة- تعز.
مواقع منطقة صبر: عثر في مديرية صبر الموادم على بقايا مستوطنات أثرية قديمة، إلى الشمال من حمام علي، وهي عبارة عن مستوطنات سكنية شبيهة بمواقع العصور الحجرية التي وجدت في منطقة خولان الطيال، وكذلك تم العثور على العديد من التماثيل الحيوانية في قرية ثوجان، ومنطقة وتير، في مديرية المسراخ- صبر ، وهي محفوظة في متحف صالة- تعز.
مواقع منطقة شرعب: عثر في قرية كندة، مديرية شرعب السلام، على العديد من القطع الأثرية القديمة متمثلة في بعض الأواني الرخامية، وكذلك بعض التماثيل الآدمية والحيوانية، وهي معروضة في متحف صالة- تعز.
مواقع منطقة ماوية: عثر في جبل العسلة، مديرية ماوية، على موقع أثري قديم يحتوي على بقايا معبد قديم، وكذلك مبانٍ سكنية، وأوانٍ حجرية وفخارية، وبقايا أحجار عليها كتابات مسندية.
كما عثر في قرية البيت، مديرية الحشا التابعة لمحافظة الضالع، وكانت تابعة لقضاء ماوية في محافظة تعز،على موقع أثري قديم شيدت القرية على أنقاضه، حيث لوحظ وجود أساسات مبانٍ مندثرة، إضافة إلى أحجار عليها كتابات بخط المسند، فضلاً عن صهاريج للمياه محفورة في الصخر.
مواقع منطقة العدين: تقع المنطقة في محافظة إب، محاددة لمحافظة تعز، وتعد من الناحية التاريخية جزءاً من منطقة تعز، وتنتشر فيها بعض المواقع الأثرية القديمة، أهمها موقع قديم في مديرية فرع العدين، عبارة عن تلة كبيرة يعتقد أنها تشمل على بقايا مدينة قديمة، يتضح ذلك من خلال انتشار بعض المباني المهدمة التي طمرتها الرمال.
تجدر الإشارة إلى أن ما ذكرناه من مواقع أثرية لاتشمل كل الآثار القديمة المنتشرة في منطقة تعز، فهناك العديد من المواقع التي لم تشملها المسوحات السياحية والأثرية، ولم يصل إليها الباحثون، وحتى الآثار المكتشفة لم تحظ بالدراسة الجادة لمعرفة العهود التاريخية التي تعود إليها، وبالتالي فالاستفادة التاريخية منها ماتزال محدودة. هذا إلى جانب أن المنطقة لم تشهد أية تنقيبات أثرية في مواقعها المعروفة حتى الآن، والتي لاشك أنها تخبئ لنا مفاجآت مهمة ستساعد في إزالة الغموض الذي يكتنف تاريخ منطقة تعز قبل الإسلام.
3. تاريخ منطقة تعز قبل ظهور الدول اليمنية القديمة:
لا نعرف على وجه اليقين- وفق مانملك من مصادر- ماهي الأوضاع السياسية والحضارية لمنطقة تعز- مثلها مثل بقية المناطق اليمنية الأخرى- قبل ظهور الدول اليمنية القديمة في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، لكن البرديات الفرعونية حدثتنا عن رحلات تجارية كان يقوم بها قدماء المصريين إلى بلاد البونت التي تقع إلى الجنوب من الأراضي المصرية، خصوصاً تلك البعثة التي نُقشت تفاصيلها على جدران معبد الدير البحري في عهد الملكة حتشبسوت التي حكمت خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
وقد دار خلاف بين الدارسين حول المقصود ببلاد البونت، بين قائل إنها في جنوب جزيرة العرب(اليمن)، وقائل بأنها في شرق أفريقيا، وآخرين حاولوا التوفيق بين الرأيين فقالوا إن المقصود بالتسمية هو البلاد الواقعة حول مضيق باب المندب بضفتيه الأفريقية والأسيوية، وبالتالي فإن منطقة تعز المطلة على باب المندب تعد جزءاً من بلاد البونت، ويكون هذا أول ذكر للمنطقة وتاريخها حتى الآن، ولكنه لايعني بالضرورة أول ظهور لتاريخها وحضارتها التي يرجح أنها تعود إلى ماقبل هذا التاريخ مثلها مثل بقية اراضي اليمن الأخرى، والتي لم نعرف حتى الآن التفاصيل الكاملة لعصور ماقبل التاريخ فيها؛ متى بدأت؟ ومتى انتهت؟ لتحل بدلاً عنها العصور التاريخية القديمة، التي مازال يكتنفها الغموض، ومازالت تقديرات المؤرخين والأثاريين حولها تتفاوت بدرجة كبيرة.
4. دولة أوسان وعلاقتها بمنطقة تعز قبل القرن السابع قبل الميلاد:
لا نعرف بالضبط متى خضعت منطقة تعز لنفوذ الدولة الأوسانية ، الذي يعتقد أنه يمثل أول ارتباط لهذه المنطقة بالدول اليمنية القديمة ، وذلك لأننا نكاد نجهل تاريخ نشوء وتطور الدولة الأوسانية نفسها وامتداد نفوذها إلى المناطق المجاورة لها بما فيها منطقة تعز. فنقش النصر الذي نعرف منه تبعية منطقة تعز(المعافر) لدولة أوسان هونفسه النقش الذي يحدثنا عن سقوط الدولة الأوسانية على يد المكرب السبئي كرب إيل وتر في مطلع القرن السابع قبل الميلاد.
ونفهم من حرص كرب إيل في السيطرة على منطقة المعافر قبل توجهه نحو مركز دولة أوسان وعاصمتها مدى الأهمية الاقتصادية التي كانت تمثلها المنطقة لدولة أوسان؛ سواء لذاتها أو من جراء سيطرتها على جزء من التجارة البحرية لأوسان، خصوصاً مع سواحل شرق إفريقيا ، التي يبدو أن نوعاً من السيطرة الأوسانية قد فرضت عليها. ندرك ذلك من إشارة وردت في الفصل الخامس عشر من كتاب الطواف حول البحر الارتيري، في القرن الثالث الميلادي تقريباً، تُسمي الساحل الأفريقي شمال زنجبار بالساحل الأوساني.
وهذه الإشارة التي جاءت بعد قرابة ألف عام من انتصار سبأ على أوسان إنما تدل على عمق الأثر الذي خلفه الأوسانيون في تلك البقاع، وهو أمر لا يمكن حدوثه إلا نتيجة لتاريخ طويل من الوجود المستمر والنشاط الفعال والنفوذ الحقيقي، أوربما هجرة بعض الجماعات الأوسانية إلى هذه السواحل ؛ ومن ثم أطلقت عليها هذه التسمية كما حدث من إطلاق مسميات يمنية على مناطق في الحبشة شهدت هجرات يمنية مماثلة خصوصاً من أراضي الدولة السبئية.
ونجد أن السيطرة اليمنية على المنطقة نفسها قد استمرت حتى القرن الثالث الميلادي، حيث يشير المصدر نفسه في فصله السادس عشر إلى أن منطقة (ربطة) التي تقع بالقرب من جزيرة زنجبار (أي في منطقة الساحل الأوساني سالف الذكر) كانت تتبع حاكم ميناء موزع الواقعة على الساحل اليمني المطل على البحر الأحمر بالقرب من باب المندب، التابعة بدورها لقيل المعافر في السوا، الذي يتبع الملك الحميري في ظفار، وكان ذلك - حسبما ذكر صاحب كتاب الطواف- “ وفقاً لاتفاقية قديمة قضت بأن يحكم هذا السوق ملك المملكة الأولى- أي المسيطرة- في الجزيرة العربية فهل كانت تلك الاتفاقية القديمة تعود إلى عهد الدولة الأوسانية ؟؛ خصوصاً إنها كانت تعد الدولة الأولى في جنوب جزيرة العرب أثناء سيطرتها على المعافر قبل القضاء عليها من قبل السبئيين، وفي حالة ما إذا كان ذلك صحيحاً فهل كانت هذه المنطقة الأفريقية تتبع الدول اليمنية القديمة طوال هذه الفترة الزمنية؟، وهل كان حكام إقليم المعافر - عبر موزع- هم من يؤمن سيطرة الدول اليمنية القديمة - المتعاقبة على حكم إقليمهم - على السواحل الشرقية لأفريقيا؟. تلك أسئلة قد لا نملك عليها إجابات شافية وقاطعة، لكن لا مناص من القول بأنها تنبني على معطيات تحمل الكثير من الجدية والمصداقية.
5. حملة المكرب السبئي كرب إيل وتر على أوسان وفرض السيطرة السبئية على منطقة تعز:
ذكرنا بأن المكرب السبئي كرب إيل وتر قد ذكر في نقش النصر أنه شنّ حملة عسكرية في مطلع القرن السابع قبل الميلاد تمكن خلالها من القضاء على الدولة الأوسانية.
وما يهمنا من هذا النقش هو المقطع الذي يتحدث عن المعافر التي كانت وجهته الأولى قبل توجهه إلى مركز الدولة في وادي مرخة، حيث جاء في النقش التالي: “ويوم قهر كرب إيل سأد ونقبة وأحرق كل مدن المعافر واستولوا على ظبر وظلم وأروي، وأحرق كل مدنهم، وقتل منهم (3000) وأسر (8000) وضاعف ضرائبهم، وفرض عليهم إلى جانب ذلك ما يجب تسليمه من بقر وغنم. وقهر ذبحان وقشر وشرجب، وأحرق مدنهم، واستولى على عُر عصمت ومنشآتهم المائية في صير وضمها إلى ألمقه وسبأ وباستثناء مناطق ذبحان وشرجب التي مازالت أسماؤها مستمرة كمسميات لمناطق في بلاد الحجرية حتى اليوم فإننا لا نعرف المقصود ببقية المسميات. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي، أين مدن المعافر المختلفة التي تحدث عنها النقش؟ ولماذا إلى الآن لم يتم العثور عليها؟ وهل يعود ذلك إلى التدمير والإحراق الذي تحدث عنه النقش؟ أم يعود إلى البناء فوق أطلال تلك المدن من جديد في العصور اللاحقة؟ الأمر الذي أدى إلى إخفاء معالمها، وفي كلا الحالتين ماهي مسميات تلك المدن؟ لأنه من الواضح بأن الأسماء التي وردت في النقش هي غالباً مسميات لمناطق أو شعوب (قبائل) لكل منها مدنه المختلفة. تلك الأسئلة التي أوردناها من الصعوبة الإجابة عنها وفق المعطيات التي نملكها في الوقت الحالي؛ وإن كنا لا نستبعد أن تكون بعض المدن التي عرفناها بعد ذلك في منطقة المعافر من خلال النقوش من ضمن تلك المدن التي قصدها النقش، وهذه المدن هي السوا وجبا وموزع والمخا.
تجدر الإشارة إلى أن النقوش والآثار قد تحدثت عن وجود يمني آخر في القارة الأفريقية غير ذلك الذي سبق ذكره في منطقة الساحل الأوساني، ونقصد به الوجود اليمني في بلاد الحبشة (أثيوبيا). ونعرف من النقوش المسندية التي عثر عليها في الحبشة أنها ذات أصول سبئية ، وقد حوت على العديد من أسماء الأعلام والمعبودات الوثنية التي كانت انعكاساً لما هو معروف في دولة سبأ اليمنية القديمة ، الأمر الذي يدل على أن الهجرات اليمنية إلى بلاد الحبشة قد ارتبطت بالدولة السبئية بدرجة رئيسية.
وبما أن أقدم النقوش المسندية التي عثر عليها في بلاد الحبشة حتى الآن تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد تقريباً وكانت ذات منشأ سبئي ، نستطيع القول بأن تلك الهجرات ربما بدأت بالتدفق على الحبشة منذ سيطرة سبأ على منطقة تعز (بلاد المعافر) وانتزاعها لها من أيدي الأوسانيين ، وبالتالي تكون هذه المنطقة هي النافذة التي انطلق منها السبئيون نحو أراضي الحبشة، خصوصاً أنها تطل على مضيق باب المندب الذي يعد أقرب نقطة بحرية بين ضفتي البحر الأحمر العربية والأفريقة ، خصوصاً إذا افترضنا بأن النفوذ الأوساني في شرق أفريقيا المطلة على المحيط الهندي( منطقة ربطة شمال زنجبار) قد آل إلى الدولة السبئية لكونها قد أصبحت منذ هذا التاريخ الدولة الأولى في جنوب الجزيرة العربية، وذلك وفقاً للإتفاقية القديمة المذكورة آنفاً التي أشار إليها كتاب الطواف.
تجدر الإشارة إلى ان هناك من يرى أن هذه الهجرات قد بدأت قبل عهد كرب إيل الذي ضم منطقة المعافر إلى دولته، وذلك اعتماداً على ورود اسم (سمه علي)في أحد النقوش المسندية في الحبشة ،حيث عدوه بأنه هو نفسه المكرب سمه علي الذي حكم قبل كرب إيل ، من غير دليل واضح، وذلك لأن اسم ( سمه علي) يعد واحداً من خمسة أسماء كانت بمثابة الأسماء الملكية لحكام الدولة السبئية قبل كرب إيل وتر وبعده، وبالتالي فسمه علي المذكور في نقوش الحبشة يمكن أن يكون اسماً لأحد الحكام السبئيين الذين حكموا بعد كرب إيل ، وذلك لأن النقش لايحمل تاريخاً محدداً.
6.امتداد النفوذ القتباني إلى منطقة تعز على حساب السبئيين:
ظلت الدولة السبئية محافظة على هيمنتها على بلاد جنوب جزيرة العرب - التي فرضها مكربها القوي كرب إيل وتر- قرابة مئة عام على الأقل عندما بدأت دولة قتبان في انتزاع تلك الهيمنة منها، نتيجة لحروب عديدة دارت بين الدولتين منذ مطلع القرن السادس قبل الميلاد.
حيث نجد أن حكام الدولة القتبانية بدأوا خلال هذا القرن يتلقبون بلقب مكرب، في مقابل تخلي حكام سبأ عنه وتلقبهم بلقب ملك ابتداءً من منتصف هذا القرن تقريباً، الأمر الذي يعني بأن قتبان قد أصبحت الدولة الأولى في جنوب الجزيرة العربية؛ انطلاقاً من القول المرجح بأن لقب المكرب لم يكن بالوسع حمله في مملكتين مختلفتين في الوقت نفسه إلا خلال فترات قصيرة من الصراع، وذلك لكونه يمنح حامله سلطة على مجموع بلاد جنوب الجزيرة العربية.
والسؤال المطروح هنا: هل امتد النفوذ القتباني إلى منطقة تعز؟ ولعل الإجابة بنعم هي المرجحة ، حيث لا يستبعد بأن دولة قتبان قد توسعت خلال هذا القرن والقرون التالية له نحو المناطق الساحلية التي كانت تابعة لدولة أوسان قبل القضاء عليها، وتدل الشواهد بأن سيطرة الدولة القتبانية قد امتدت إلى سواحل باب المندب والمناطق المجاورة لها، إلى جانب استيطان جماعة من القتبانيين في تلك المنطقة.
وهناك نقش دونته جالية من مدينة السوا المعافرية تقيم في مدينة هربت القتبانية (حنوالزريرالحالية في وادي بيحان) تقرباً للمعبود القتباني (عم) ، وكان ذلك في عهد الملك القتباني ورو إل غيلان الذي حكم في القرن الثاني قبل الميلاد تقريباً.
وقد عثر مؤخراً أيضاً على نقش قتباني في جبل العود(محافظة إب) ويعد شاهداً على وصول السيطرة القتبانية إلى الزاوية الجنوبية الغربية من اليمن.
إذاً فالشواهد تتكاتف فيما بينها لتؤيد خضوع منطقة تعز بمعناها الواسع(المعافر) لدولة قتبان أثناء فترة الهيمنة القتبانية على منطقة جنوب الجزيرة العربية، وأنها استمرت كذلك حتى القرن الأول قبل الميلاد عندما تمكنت حمير من انتزاع مناطق قتبان الساحلية وتحويلها إلى دولة داخلية، الأمر الذي أضعف قتبان وأدى إلى انهيارها التدريجي.
7.ضعف قتبان وتحول منطقة تعز إلى التبعية الحميرية:
كان الحميريون قد خضعوا لدولة قتبان منذ القرن الرابع قبل الميلاد، واستمروا كذلك حتى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد عندما تحالفت القبائل الحميرية في كيان واحد عام(115 ق.م) ، وبيتت النية على الإستقلال عن قتبان، وحققت هدفها خلال النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد وتمكنت من انتزاع المناطق الساحلية للدولة القتبانية .
وقد كانت بلاد المعافر (منطقة تعز) واحدة من المناطق المهمة التي انضوت في إطار الدولة الحميرية، وعبرها مارس الحميريون تحكمهم بالطريق البحري ، ومنها امتد نفوذهم عبر موزع إلى منطقة ربطة في شرق افريقيا حسبما ذكر لنا مؤلف كتاب الطواف فيما نقلناه عنه آنفا عند حديثنا عن تبعية المعافر لأوسان. وقد اشار كتاب الطواف في فصله الرابع والعشرين إلى ازدهار ورواج تجاري لمنطقة المعافر وموانئها التي كانت سوقاً رائجة ومحطة للتصدير والاستيراد مع عالم المحيط الهندي.
ونفهم من النقوش أن إقليم المعافر قد أصبح مقولة تابعة للحميريين، حيث عثر في مدينة السوا - حاضرة الإقليم آنذاك- على نقش هذا نصه: كليب يهأمن محرج (عامل) شمر يهحمد بذي معافر وأجناد الأشاعر وجماعات الكلاع وعسيفر(عصيفرة) وذي حبيل(الحبيل) شيد وأقام معبد الإله ذي سماوي إله شعب(قبيلة) أمير(وذلك) في برحة(ساحة) الصيرات (الكائنة) أسفل مدينة السوا، فليتعهد الإله ذي سماوي كليب يهأمن بالسلامة والنجاة والحماية (وكذلك) شعبه(قبيلته) بني معافر سادة البيت(القصر) شبعان....
ويتضح لنا من خلال هذا النقش سعة المناطق التي كانت تتبع قيل المعافر والتي تشمل كل محافظة تعز الحالية وأجزاء كبيرة من محافظتي إب والحديدة.
ولعل كليب المذكور في هذا النقش هو نفسه كليب حاكم المعافر الذي أشار إليه مؤلف كتاب الطواف بصفته تابعاً للملك الحميري كرب إيل ، الذي يعتقد أن المقصود به هو الملك كرب إيل أيفع خليفة شمر يهحمد المذكور في النقش السابق والذي حكم في منتصف القرن الثالث الميلادي.
وتتمثل الأهمية الاقتصادية للمعافر خلال هذه الفترة بوجود جالية من قبيلة أمير في حاضرتها مدينة السوا، وقد كان أهل أمير جمالة يقدمون جمالهم لخدمة القوافل التجارية، ولذلك كانوا يتواجدون في مختلف حواضر الدول اليمنية القديمة ومدنها ذات الأهمية الإقتصادية . ويبدو أن الأواصر التي ربطت بين المعافر وأمير في هذه الفترة كانت من القوة إلى درجة أصبح فيها الإله ذي سماوي إله قبيلة أمير إلها رسمياً لقبيلة المعافر.
ولعل الأهمية الاقتصادية لإقليم المعافر وسيطرة الدولة الحميرية بواسطته على الطرق البحرية هو ما جعل الأحباش يستجيبون لدعوة الملك السبئي علهان نهفان الهمداني أواخر القرن الثاني الميلادي للتدخل في شئون اليمن ودعمه في صراعه ضد الحميريين. وقد مكنهم ذلك التدخل من فرض سيطرتهم على المناطق الغربية من اليمن الممتدة عبر تهامة من نجران شمالاً إلى المعافر جنوباً.
وبعد أن تمكن الحميريون من إجلاء الأحباش عن اليمن وقاموا بتوحيد كل الأراضي اليمنية تحت سيطرتهم في أواخر القرن الثالث الميلادي عادت المعافر إلى السيادة الحميرية من جديد.
وقد عثر على نقش مسندي في منطقة حبيل سلمان(ضاحية من ضواحي مدينة تعز) يطلب فيه مدونه من الإله(المقه) أن يمنحه الرضى عند سيده كرب إيل وتر يهنعم ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنة ، ويعود عهد هذا الملك إلى القرن الرابع الميلادي. تجدر الإشارة إلى أن أحد النقوش العائدة إلى عهد هذاالملك دونه (شرح عثت أشوع) عندما بعثه سيده الملك في سفارة إلى نجاشي الحبشة وأكسوم وعاد منها سالماً إلى مدينة مخون (المخا).
وكان هذا أول ذكر لهذه المدينة في النقوش المسندية المعروفة، الأمر الذي يؤكد ماسبق وذهبنا إليه من أن منطقة تعز بسواحلها قد مثلت منفذ اليمن نحو بلاد الحبشة والعكس.
وظلت منطقة المعافر بموقعها الإستراتيجي تمثل حجر الزاوية في علاقة الحميريين بالأحباش . وفي عهد الملك الحميري الأخير يوسف أسار يثأر(ذي نواس) مطلع القرن السادس الميلادي نجد أنه عندما نكل بالنصارى الموجودين في مملكته المرتبطين بالحبشة حرص على أن يتوجه بنفسه إلى سواحل منطقة تعز بمعناها الواسع وذلك لتطهيرها من الموالين للأحباش وتحصينها أمام الغزو الحبشي المتوقع لبلاده، لأن منطقة تعز ستكون أول مناطق اليمن التي سيدهمها الأحباش أثناء عبورهم من باب المندب صوب العاصمة الحميرية ظفار ومناطق اليمن الأخرى. وقد تمثلت المناطق الساحلية التي شملتها حملة الملك ذي نواس حسبما ذكرتها نقوشه بالأشاعر والركب وشمير والمخا والمندب وفرسان(غير جزر فرسان).
وقد انتهى الأمر بهزيمة الملك الحميري عام (525م) تقريباً نتيجة للصراع الداخلي الذي كانت تعاني منه اليمن آنذاك ،إلى جانب وقوف البيزنطيين في صف الأحباش رغبة منهم في سيطرة حلفائهم الأحباش على اليمن ومن ثم الحجاز، ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الطريق التجاري المار عبر الجزيرة العربية والذي يمتد من سواحل المحيط الهندي إلى سواحل البحر المتوسط ، وبالتالي يخففون من حجم المعاناة التي كانت تفرضها عليهم دولة الفرس الساسانيين جراء سيطرتها على طريق الحرير الذي يمتد من الصين إلى بيزنطة.
8. أوضاع منطقة تعز منذ سقوط الدولة الحميرية إلى ظهور الإسلام:
بعد الاكتساح الحبشي لليمن خضعت منطقة تعز لهذا الاحتلال مثلها مثل بقية المناطق اليمنية الأخرى ، واستمرت على ذلك الحال قرابة نصف قرن حتى تمكن الثائر اليمني سيف بن ذي يزن من طرد الأحباش من اليمن بمساندة فارسية عام(575م) . لكن الفرس سرعان ما تخلصوا منه وجعلوا اليمن ولاية فارسية .
وقد امتد الاحتلال الفارسي في بداية أمره ليشمل معظم انحاء اليمن ، ثم بدأ بالتقلص التدريجي حتى أنه في الفترة التي جاء فيها الإسلام مطلع القرن السابع الميلادي كان قد أصبح محصوراً في مدينتي صنعاء وعدن وماحولهما.
وبالنسبة لمنطقة تعز فعلى الرغم من عدم تبعيتها للفرس خلال الفترة المتأخرة لاحتلالهم إلا أنها قد شكلت منطقة اتصال بين منطقتي النفوذ الفارسي: صنعاء وعدن، وذلك لأن الطرق التي كانت تربط بين المدينتين خلال هذه الفترة كانت تمر عبر منطقة تعز.
وبعد ظهور الدعوة الإسلامية نجد أن أول الرسائل التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن كانت موجهة إلى الملوك الحميريين ، والمقصود بهم الأقيال الحمييريين الذين ورثوا السيطرة على المناطق الجنوبية الغربية من اليمن ، الممتدة من مشارف صنعاء شمالاً إلى مشارف عدن جنوباً ومن يافع شرقاً إلى تهامة غرباً والتي تعد منطقة تعز بمثابة القلب لها. تجدر الإشارة إلى أن منطقة نفوذ الأقيال الحميريين هذه هي نفسها الأراضي التي قامت عليها الدولة الحميرية في عصرها الأول الذي امتد منذ نشوئها إلى أواخر القرن الثالث الميلادي، وذلك قبل أن تتمكن حمير من القضاء على دولتي سبأ وحضرموت وتوحد اليمن كله تحت سيطرتها. وقد كان الملوك(الأقيال) الحميريون أول من كتب اليهم الرسول (ص) في اليمن وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة أي في نفس الوقت الذي بعثت فيه رسائل الرسول(ص) إلى قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر ، وهو ما يؤكد أهمية هذه المنطقة وثقلها السياسي والحضاري وتصدرها لمناطق اليمن الأخرى في هذه الفترة.
وكان أبناء عبد كلال (الحارث ونعيم وشرحبيل) أبرز الأقيال الحميريين الذين كاتبهم الرسول(ص)، حيث بعث إليهم أكثر من رسالة، وكانت ديباجة إحدى رسائله اليهم على النحو التالي: “ من محمد رسول الله إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ، ولاندري لماذا وُصف الأخير منهم فقط بأنه قيل لمناطق ثلاث رئيسية في اليمن هي: ذي رعين والمعافر وهمدان، بينما لم تحدد صفة أخويه المقدمين عليه في الخطاب، والسؤال الذي نطرحه هنا؛ هل حدث تصحيف في نقل رسالة الرسول(ص) وتكون كلمة قيل المفردة وردت بصيغة الجمع أو قصد بها الجمع ويكون كل من الإخوة الثلاثة قيل على منطقة/قبيلة من المناطق الثلاث المذكورة في الرسالة؟ ذلك أمر غيرمستبعد خصوصاً وأن المصادر التي أوردت هذه الرسائل تجعل صفة قيل ذي رعين ومعافر وهمدان لمن يرد اسمه أخيراً؛ فمرة تجعلها لنعيم حسب نص الرسالة الذي أثبتناه ، وأخرى تجعلها للنعمان مع وجود اسم نعيم، وثالثة تجعلها لشريح الذي يحل بدلاً عن النعمان ،الأمر الذي يرجح بأنها صفة للأقيال الثلاثة وليس للأخير منهم.
ولأن منطقة تعز كانت بمثابة القلب لمناطق الأقيال الحميريين فقد اختارها معاذ بن جبل مبعوث الرسول (ص) إلى حمير ليجعل مقره فيها ، حيث اتخذ من مدينة الجند الواقعة قرب مدينة تعز الحالية عاصمة له يدير منها مخلافه الذي حمل اسمها والذي شمل مواطن القبائل الحميرية. ونظراً لأهمية هذا المخلاف فقد جعل لواليه معاذ بن جبل الولاية العامة على كل اليمن إلى جانب ولايته الخاصة على مخلاف الجند.
نذكر أخيراً إلى أن مدينة جبا كانت قد خلفت مدينة السوا لتصبح حاضرة للمعافر ، وقد أثر ذلك سلباً على مدينة السوا وساعد على اندثارها ، ثم مالبثت مدينة الجند أن أصبحت حاضرة المنطقة، خصوصاً منذ أن اتخذها معاذ بن جبل مقراً له رغم أن ازدهارها يعود إلى قبل ذلك، بدليل قيام سوق تجارية فيها تعد أحد أسواق العرب في الجاهلية حسبما يذكر الهمداني.
ويرى البعض بأن الجبنيتو- الذين تذكرهم المصادر المصرية- هم سكان مدينة جبا في المعافر 56، ويرفض آخرون هذا الرأي ، ويذكرون أن المقصود بالجبنيتو إنما هم سكان مدينة قتبان ، وهو مانميل إليه نظراً لعدم وجود نقوش مسندية تدل على ازدهار مدينة جبا في تلك الفترة المبكرة من تاريخ اليمن.
9. خاتمة
هكذا يتجلى لنا بعد هذه اللمحة السريعة عن تاريخ منطقة تعز قبل الإسلام أهمية الدور الذي قامت به هذه المنطقة خلال هذه الفترة من تاريخ اليمن. ساعدها على ذلك إستراتيجية موقعها الجغرافي المتميز ، الذي يطل على مضيق باب المندب وسواحل البحر الأحمر ، وهو ما مكنها لأن تصبح منفذ أهل اليمن نحو شرق القارة الأفريقية والحبشة منذ عصور مبكرة ، الى جانب مشاركتها المهمة في العلاقة التجارية التي ربطت اليمن بالهند ومناطق البحر الأحمر ، وذلك مايتضح لنا من خلال كتاب الطواف حول البحر الأرتيري الذي يصف لنا حجم الحركة التجارية الكبيرة التي كانت تعج بها موانئ منطقة تعز (موزع على وجه الخصوص ) ، وحجم الواردات والصادرات التي كانت تتم عبرها خلال القرن الثالث الميلادي. ورغم البعد الإيجابي الذي شكله الموقع الجغرافي لمنطقة تعز إلا أنه قد تميز ببعد سلبي معاكس عندما أصبحت هذه المنطقة بمثابة الهدف الأول للغزوات الحبشية على اليمن ، وذلك لأن مضيق باب المندب الفاصل بين الجانبين كان في غالب الأحيان نقطة العبور المفضلة للأحباش نحو اليمن.
ولا شك بأن حجم الآثار المتبقية في هذه المنطقة لا يتناسب مع الدور التاريخي والحضاري الفاعل الذي قامت به، وغالباً فإن آثار هذه المنطقة مازالت تحت الأرض ، نظراً لخصوبة أراضي هذه المنطقة وارتفاع منسوب الأمطار فيها (محافظتي تعز وإب) مقارنة لها ببقية مناطق اليمن الأخرى، وقد جعلها ذلك منطقة جذب سكاني طوال عصورها التاريخية، حيث توافدت عليها الهجرات السكانية من مختلف أنحاء اليمن ، وهو ماجعل كثافتها السكانية تعد الأعلى على مستوى اليمن حتى وقتنا الحاضر.
وقد أدت هذه الكثافة السكانية المرتفعة إلى تزاحم المواقع السكنية ، وعدم هجر المواقع التاريخية إلى مواقع جديدة كما حدث في مناطق اليمن الأخرى ذات الكثافة السكانية المنخفضة. وبسبب ذلك تم هدم المواقع القديمة والبناء عليها ، أو على الأقل اختفائها تحت المواقع السكنية الجديدة ؛ وإلا إين هي المدن(الأهجر) التي تحدث المكرب السبئي كرب إيل وتر عن وجودها في منطقة المعافر في مطلع القرن السابع قبل الميلاد؟ ، وإيضاً أين هي الآثار المتبقية للحركة التجارية النشطة في الموانئ الساحلية للمنطقة قبل الإسلام المشار اليها في المتن؟ , وكذلك إين هي نقوش الملك الحميري ذي نواس التي تتحدث عن صداماته العسكرية مع الأحباش والموالين لهم في سواحل منطقة تعز أسوة بالنقوش التي تركها قادته حول مدينة نجران أثناء حصارهم لها؟ ، وأخيراً أين هي المخلفات الأثرية لتلك النشاطات الإنسانية السياسية والحضارية النشطة التي شهدتها المنطقة عبر ألف وخمسمائة سنة قبل الإسلام والتي قدمنا شواهد مؤكدة عليها في متن البحث؟.
إذاً المنطقة بحاجة إلى مسح أثري شامل يحدد المواقع الأثرية المعروفة أو المتوقعة ، ومن ثم البدء بتنفيذ عملية تنقيب جادة في هذه المواقع؛ عندها فقط سندرك حجم الحراك السياسي والحضاري الكبير الذي عاشته المنطقة خلال عصورها التاريخية القديمة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.