أفضل وقت لنحر الأضحية والضوابط الشرعية في الذبح    إنجلترا تبدأ يورو 2024 بفوز على صربيا بفضل والدنمارك تتعادل مع سلوفينيا    كيف استقبل اليمنيون عيد الاضحى هذا العام..؟    فتح طريق مفرق شرعب ضرورة ملحة    نجل القاضي قطران: مضبوطات والدي لم تسلم بما فيها تلفوناته    تن هاغ يسخر من توخيل    مع اول أيام عيد الأضحى ..السعودية ترسم الابتسامة على وجوه اليمنيين    يورو 2024: بيلينغهام يقود انكلترا لاقتناص الفوز امام صربيا    في يوم عرفة..مسلح حوثي يقتل صهره بمدينة ذمار    "لما تولد تجي"...الحوثيون يحتجزون رجلا بدلا عن زوجته الحامل ويطالبون بسجنها بعد الوضع    هولندا تقلب الطاولة على بولندا وتخطف فوزًا صعبًا في يورو 2024    "إرسال عبدالملك الحوثي إلى المقصلة ومن ثم عقد سلام مع السعودية"..مسؤول حكومي يكشف عن اول قرار سيقوم به حال كان مع الحوثيين    الحوثيون يمنعون توزيع الأضاحي مباشرة على الفقراء والمساكين    حاشد الذي يعيش مثل عامة الشعب    كارثة في إب..شاهد :الحوثيون يحاولون تغيير تكبيرات العيد !    خطباء مصليات العيد في العاصمة عدن يدعون لمساندة حملة التطعيم ضد مرض شلل الأطفال    طارق صالح في الحديدة يتوعد الإمامة ويبشر بدخول صنعاء (فيديو)    كاتب سعودي: تجار أميركا يرفعون أسعار الأضاحي    أعجوبة مذهلة .. مغترب يمني يعود للحياة بعد اعلان وفاته رسميا    حدث ما كان يخشاه عبدالملك الحوثي من فتح طريق الحوبان في تعز.. هل تعيد المليشيات إطباق الحصار؟    الرئيس الزُبيدي يستقبل جموع المهنئين بعيد الأضحى المبارك    طقوس الحج وشعائره عند اليمنيين القدماء (الحلقة الثالثة)    آخر موعد لذبح أضحية العيد وما يجب على المضحي فعله    فرحة العيد مسروقة من الجنوبيين    نازح يمني ومعه امرأتان يسرقون سيارة مواطن.. ودفاع شبوة لهم بالمرصاد    رئيس تنفيذي الإصلاح بالمهرة يدعو للمزيد من التلاحم ومعالجة تردي الخدمات    حجاج بيت الله الحرام يتوجهون إلى منى لرمي الجمرات    كل فكر ديني عندما يتحول إلى (قانون) يفشل    جواس والغناء ...وسقوطهما من "اعراب" التعشيب!    شهداء وجرحى في غزة والاحتلال يتكبد خسارة فادحة برفح ويقتحم ساحات الأقصى    هيئة بحرية: تقارير عن انفجارين قرب سفينة قبالة ميناء المخا    تبدأ من الآن.. سنن عيد الأضحى المبارك كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم    بعد استهداف سفينتين.. حادث غامض جنوب المخا    "هلت بشائر" صدق الكلمة وروعة اللحن.. معلومة عن الشاعر والمؤدي    يوم عرفة:    سجن واعتقال ومحاكمة الصحفي يعد انتكاسة كبيرة لحرية الصحافة والتعبير    وصلت لأسعار خيالية..ارتفاع غير مسبوق في أسعار الأضاحي يثير قلق المواطنين في تعز    استعدادا لحرب مع تايوان.. الصين تراقب حرب أوكرانيا    يورو2024 : ايطاليا تتخطى البانيا بصعوبة    عزوف كبير عن شراء الأضاحي في صنعاء بسبب الأزمة الاقتصادية    ياسين و الاشتراكي الحبل السري للاحتلال اليمني للجنوب    صحافي يناشد بإطلاق سراح شاب عدني بعد سجن ظالم لتسع سنوات    ثلاثية سويسرية تُطيح بالمجر في يورو 2024.    - ناقد يمني ينتقد ما يكتبه اليوتوبي جوحطاب عن اليمن ويسرد العيوب منها الهوس    بينهم نساء وأطفال.. وفاة وإصابة 13 مسافرا إثر حريق "باص" في سمارة إب    - 9مسالخ لذبح الاضاحي خوفا من الغش فلماذا لايجبر الجزارين للذبح فيها بعد 14عاماتوقف    أربعة أسباب رئيسية لإنهيار الريال اليمني    لماذا سكتت الشرعية في عدن عن بقاء كل المؤسسات الإيرادية في صنعاء لمصلحة الحوثي    صورة نادرة: أديب عربي كبير في خنادق اليمن!    المنتخب الوطني للناشئين في مجموعة سهلة بنهائيات كأس آسيا 2025م    فتاوى الحج .. ما حكم استخدام العطر ومزيل العرق للمحرم خلال الحج؟    أروع وأعظم قصيدة.. "يا راحلين إلى منى بقيادي.. هيجتموا يوم الرحيل فؤادي    نقابة الصحفيين الجنوبيين تدين إعتقال جريح الحرب المصور الصحفي صالح العبيدي    الكوليرا تجتاح محافظة حجة وخمس محافظات أخرى والمليشيا الحوثية تلتزم الصمت    20 محافظة يمنية في مرمى الخطر و أطباء بلا حدود تطلق تحذيراتها    بكر غبش... !!!    مليشيات الحوثي تسيطر على أكبر شركتي تصنيع أدوية في اليمن    منظمة حقوقية: سيطرة المليشيا على شركات دوائية ابتزاز ونهب منظم وينذر بتداعيات كارثية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليالي الخريف الساحرة
انا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 10 - 02 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
دأبت بعض الأسر في مدينة غيل باوزير على قضاء فصل الصيف خارج المدينة، خاصة تلك الأسر التي تملك بساتين من النخيل تستدعي التواجد بقربها للإشراف عليها، ولكل فئة من هذه الأسر قريتها، وتقع هذه القرى على الجانب الغربي من المدينة وفي خط واحد لاتبعد القرية عن الأخرى إلا مسيرة عدة دقائق بالأرجل.. هذه القرى هي على الترتيب من خروجك من الغيل:” الدروع المخبية القرية الفرجة الديوان” وجميع هذه القرى تظل مهجورة بعد فصل الخريف، ما عدا قرية “المخبية” فهي الوحيدة التي تتواجد فيها بعض الأسر ولاتبارحها، أما بقية القرى الأخرى فتظل خاوية هامدة حتى إذا ما هل فصل الخريف وبدأ النخيل في طرح ثماره، حتى تسري فيها الحياة، فتمتلئ البيوت بساكنيها، وتنتشر بها المتاجر الصغيرة والمقاهي، وتغص المساجد بالمصلين، حتى إذا انتهى فصل الخريف وجمعت كل أسرة محصولها من التمرد وأودعته مخازنها بمدينة الغيل، هجرها أهلها وتركوها هياكل صامتة مثل ديكور لقرية انتهى العاملون من تصوير فيلم سينمائي بها، من هذه القرى الخمس كانت قرية “الديوان” هي التي نرحل إليها كل عام، ونسمي الرحيل بلهجتنا “الظعينة” وأصل الكلمة “ظعن” وهي كلمة عربية فصحى، وتعد هذه القرية أكبر القرى الخمس، وأبعدها عن المدينة وكنت في طفولتي الأولى وحتى ماقبل سن العاشرة أرحل عادة إلى بيت والدي الذي يقع بالقرب من “بستان الشجن” بكسر الشين والجيم، وهو بستان واسع يمتلئ بالنخيل وبعض الحبوب والبرسيم فيه ساقية كنا نذهب للاغتسال بها.. ولكن بعد مرض والدي توقف أهلي عن الخروج إلى الديوان واكتفوا بتأجير المنزل ولهذا فكنت أرحل مع أسرة جدي بصحبة والدتي، وكانت هذه السنوات الأخيرة التي كنت أقضيها في بيت جدي من أمتع وأجمل الأيام، حيث كنت حينها في سن يعي الأمور، كثير الحركة متشوقاً للعب وإنني لأذكر جيداً اليوم الأول الذي رحلت فيه مع أسرة جدي، ربما كنت حينها في العاشرة من العمر أو أقل وكان ذلك عام 1947م ففي الأسبوع الأول من شهر يونيه من ذلك العام وفي اليوم الذي حدده جدي للرحيل بدأ النشاط يدب في البيت منذ الفجر، حيث نشطت النساء في المطبخ وهن يقمن بإعداد وجبة الإفطار التي سنأخذها معنا إلى الديوان، تحركت أيدي البعض منهن على “المراهي” جمع مرهاه...وهي الحجر الذي تطحن عليه حبوب الذرة، بينما أخذت النساء الكبار في إعداد “التنور” وإشعال النار فيه ليتم إنضاج طحين الذرة عليه، وأخذ قسم آخر منهن يربط الصرر من الثياب التي سيأخذنها معهن وأخذ الرجال يجمعون الأثاث كالعقائد الخشبية والفرشان وأدوات البيت الأخرى الثقيلة وربطها في عدة حزم، وذلك لحملها على ظهور الجمال التي استأجرها جدي، فيما أخذ جدي يشرف بنفسه كما هي عادته في تجهيز مؤونة البيت من حبوب الذرة والدجرة والقهوة البن وغير ذلك، وما أن شارفت الساعة على الخامسة حتى نضجت أقراص الخبز الخمير وفاحت رائحته المعطرة برائحة الشمار لتصل إلى أنوفنا، وحينها انتقلت هذه الأقراص إلى عدة “قفف” وتوزعت على النساء لحملها.. وكذا تحرك طابور النساء بقففهن وصررهن ونحن الصغار الثلاثة ابن خالي سعيد أمين يصحبنا خالي المرحوم سالم عوض الذي يكبرني بأربع سنوات وذلك قبل سفره إلى السودان للدراسة وكنت أصغرهم جميعاً، تحركنا في أثرهم ومازلنا حتى خلفناهم وراءنا وقد اشتبكن في حديث ليصرفن عنهن عناء الطريق.
كنت حينها مفتوناً بما حولي من جمال، فقد كانت أضواء الشمس البرتقالية التي بدأت تفرش بساطها على الجبال تضفي على المكان جواً ساحراً ونسمات الصباح الباردة تنعشني في حين كانت الأرض من تحتي باردة ندية على أثر سقوط الندى عليها بالليل وما أن خلفنا وراءنا “بستان السلطان” حتى بدأت غابات النخيل تمتد أمام أبصارنا، وقد تدلت من على هاماتها عناقيد ثمارها الملونة التي أخذت بعض هذه الثمار تبدو لنا مثل عقود “الكهرمان” الأصفر و”العقيق” الأحمر، كما أخذت بعض هذه الثمار تطل علينا من خلف نقابها الأبيض المشبك الذي التف عليها والذي يمنع من تساقط الثمار اليانعة إلى الأرض.. والطيور من حولنا تزقزق في نشاط وحبور متغنية بالصباح الجديد لتشكل مع أصوات الطيور الأخرى “سيمفونية” رائعة تأسر القلوب، وتنشرح لها الصدور ومن آن لأخر يترنم طائر لا أدري ما اسمه بصوت شجي يردد نغمات ككورس لتلك الأناشيد الصباحية بنغم غريب كمن يقول “سيدي أبوبكر” وهكذا تمضي بنا الطريق من دهشة إلى أخرى وخيالنا يصور لنا الأيام المقبلة المليئة بالمرح واللعب، وبعد أن مررنا بالقرى الثلاث الدروع والمخبية والقرية حتى أعترضت سير طريقنا “معيان الطيب” وهي ساقية ماؤها عذب، وتعتبر مصدراً للمياه التي تشرب منها مدينة الغيل، انكفأنا باعناقنا عليها وجعلنا نشرب كما تشرب الإبل والخراف، وبعد أن ارتوينا واصلنا السير حتى إذا ما تركنا قرية “الفرجة” ارتقينا هضبة صغيرة التفت حولها أشجار النخيل في شبه غابة كثيفة، بعدها برزت لنا قرية الديوان ببيوتها البيضاء الصغيرة التي لاتزيد عن الطابقين والتي تتزاحم جنب بعض، تتراءى لنا من بعيد وكأنها طائر خرافي ماداً جناحيه ناحيتي الشرق والغرب حيث كانت البيوت تتزاحم في الوسط ثم يقل تزاحمها في الأطراف حتى يصل إلى بيت واحد، هكذا استقبلتنا الديوان مادة لنا ذراعيها من بعيد لتحضننا في شوق ولهفة.. نفس شعورنا نحوها بعد غياب طويل، كانت الديوان تقع خلف سهل واسع تمتد أمامها مئات الأمتار، مما جعلها عرضة للتيارات الهوائية الباردة التي تهب عليها من ذلك السهل البحري، خطونا نحوها والفرحة تملأ قلوبنا وأقدامنا الحافية تدوس على بعض شجيرات “الحمضاء” الهشة التي ربما أنها نبتت على إثر هطول الأمطار عليها طوال العام.
تتكون نصف بيوت الديوان من طابقين والنصف الآخر من طابق واحد.. وتبنى عادة من الحجر والطين وبعض الفقراء تتكون بيوتهم من أحجار دون أن يتخللها شيء من الطين وتسمى هذه الطريقة “ترجيش” حيث ترقى الاحجار واحدة فوق الأخرى.. أما هندسة البناء في الجميع فهو يحمل نفس ماتحمله بيوت الغيل تماماً لكن بالإضافة إلى حوش واسع ربما يفوق حجمه مساحة البيت كله في بيوت بعض الموسرين الذين يملكون بساتين كبيرة من أشجار النخيل.. هذه الأحواش هي مخصصة لتجفيف الرطب و”البسر” وهو ثمر النخيل الذي لم ينضج وبعد تعرضه لحرارة الشمس ينضج ليصبح رطباً وعندما يجف يصبح تمرأ، هذه الأحواش عندما تنثر على أرضها المفروشة بسعف النخيل الجاف هذه الثمار بألوانها الصفراء والحمراء القانية والخفيفة تتراءى للناظر وكأنه أمام حوض من الزهور.. كان هذا المنظر يملأ مخيلتي ونحن نقف أمام بيت جدي الذي يقع وسط القرية ويمثل السوق العام الذي تتجمع به المقاهي والمتاجر... بل وإن إحدى هذه المقاهي تقع أمام بيت جدي تماماً، وما أن وضعت جدتي المفتاح الخشبي على القفل للبوابة الكبيرة وفتح الباب على مصراعيه حتى هبت من ذلك السهل نسمات بحرية باردة جعلت تسابقنا في الدخول عبر تلك البوابة إلى الداخل، كان أمام تلك البوابة من الداخل مكان واسع في سعة غرفة واسعة كان يتخذها خالي المرحوم سعيد عوض باوزير غرفة له عند الظهيرة حيث تتميز تلك الغرفة دون سائر غرف البيت الأخرى بهوائها البارد.
بعد دخولنا البوابة الرئيسية اجتزنا حوشاً صغيراً تتفرع منه طريقان طريق يؤدي إلى الحوش الذي يجفف به الرطب وطريق آخر يؤدي إلى حوش آخر مخصص لنوم الأسرة ويقع أمام غرفة “المعيشة” وبعدها يأتي حوش ثالث به المطابخ وزير الماء والتنور ودكة الطحين.. وبعد أن وضعت النساء ما بأيديهن بأحد المخازن قمن بتنظيف البيت من الأتربة وإزالة ماثبت عليه من أشجار الحمضاء في حين أخذنا نساعدهن في حمل الأتربة إلى الخارج.. بعد أن تم تنظيف البيت أخلدن للراحة في حين خرجنا إلى “بستان الشجن” لكي نغتسل ونزيل عنا غبار الأتربة، تقع الساقية وسط ذلك البستان وكان ماؤها صافياً جارياً إلا أن مذاقه غير عذب مثل ماء “معيان الطيب” الذي مررنا عليه في طريقنا إلى الديوان، وبعد أن اغتسلنا تفرقنا وسط ذلك البستان الواسع الذي يبعد كثيراً عن بيت جدي نجمع مانجده تحت المخيل من الرطب ونقوم بقذف بعض تلك الأشجار لكي نحصل منها على ثمارها الناضجة ولما عدنا إلى البيت كانت الجماغل قد وصلت وأخذ الحمالون ينزلون ماعليها من الأثاث، قمنا بمساعدتهم وأخذنا ننقل إلى الداخل ماخف وزنه في حين اتجه أحد الرجال إلى البئر لتثبيت العجلة الخشبية عليها وربط الحبل بالدلو الجلدي وإنزاله إلى البئر، وبعد إفراغ المياه الراكدة منها دخلت النساء للغسلة ثم تم تركيب أبواب الطابق العلوي والحمامات.. حيث تنزع عادة هذه الأبواب عند مغادرتنا الديوان وتحفظ في غرفة محصنة وذلك مخافة من أن يسرقها بعض الناس عند خلو القرية من سكانها.. بعد أن تمت تصفية البيت وتوزيع الأثاث وكان ذلك في حوالي التاسعة اجتمعنا جميعاً للإفطار ووزعت علينا أقراص الخمير وأحتلت “كعدة” القهوة المر مكاناً بجانب جدتي التي أخذت في تصريفها بالفناجين، والكعدة هي إناء من الفخار في شكل دلة المعدن، وقد كان يوجد منها هنا في عدن في بعض المقاهي الشعبية وتسمى “جبنة”.
بعد الإفطار انطلقنا مع جدي وحماره العزيز وسائسه “سعد قصام” ولعل كلمة قصام هي لقبه لأن القصام جمع “قصم” هي الاسم الدارجي لسعف النخيل بعد أن يجف.. انطلقنا وسط الشمس التي بدأت حرارتها تشتد متجهين إلى بستان جدي المسمى “الكبيدة” وهي بالتأكيد تصغير لكلمة كبدة لربما أطلق جدي هذا الاسم عليه لمعزته عليه كما يقال عن الاولاد إنهم أكبادنا تمشي على الأرض ويقصدون بذلك معزة الأولاد عند آبائهم، وهذا التأويل مني والله أعلم، وبعد مضي عشر دقائق من اتجاهنا إلى جهة الجنوب، وفي الطريق التي تؤدي إلى “النقعة” وصلنا إلى بستان جدي وهو بستان كبير به بئر يرفع منها الماء بواسطة “السنارة” وهي طريقة متبعة بكل أنحاء حضرموت، حيث يتم رفع الماء بواسطة حبل يلتف حول خصر “لساني” وهو الرجل الذي يرفع الماء، ولكنه بدلاً من أن يمسك الحبل بيده لثقل الدلو فإنه يلجأ إلى هذه الطريقة التي تعد مريحة له فما إن ينزل الدلو إلى البئر ويمتلئ بالماء حتى يقوم الرجل بالتحرك إلى الخلف ساحباً معه الدلو وكلما رجع إلى الوراء كلما هبطت الأرض من خلفه لأن المكان الذي يسير عليه صمم على مستوى متدرج فيظل الرجل يهبط ويهبط حتى يصل إلى مستوى أدنى من الأرض وهذه المسافة هي طول عمق البئر وحينها يكون الدلو بذلك الحبل المربوط على ظهره فيتحول ماء الدلو إلى حوض بجانب البئر ليصب فيه الماء ومنه ينتقل إلى الحوض الكبير الذي يتجمع فيه الماء ليوزع بعد ذلك على أحواض النخيل، في هذه العملية بعض الناس يستخدم ثوراً أو جملاً بدلاً من الرجل، ويمتاز بستان جدي بنخيله الجيد الذي لم يبلغ إلا سنوات قليلة ولهذا فهو يعطي من الرطب أكثر من النخيل العجائز إلى جانب أن ارتفاعه لايبعد كثيراً عن سطح الأرض مما يمكن الرجل أن يتناول مايشاء من ثماره دون أن يلجأ إلى “المرقد” وهو أداة مصنوعة من الجلد تستخدم لطلوع النخل الطويل، ولثمر النخل أسماء عديدة نظراً لتنوع ألوانها وأشكالها وطعمها فلكل نوع من النخيل التمر الخاص به منها مايسمى السنكرة الزجاج السقطري المكي البقلة الحنكاسة الضريسي وهو أرداء الأنواع يعطي عادة كعلف للأغنام، وغير ذلك من الأسماء المعروفة لدى الجميع لكن هناك بعض الأسماء قد يطلقها صاحب البستان على نوع معين يعزه كإحدى الثمار التي كان يحبها خالي سعيد فسماها جدي “بقلة سعيد” وثمرة أخرى تتميز بطولها مع رقتها فأطلق عليها جدي “أصابع العروس”.
وبعد تطواف في ذلك البستان وبعد أن جمعنا كمية من الرطب الناضج وضعناه على الحمار وانطلقنا عائدين إلى الديوان.. وهناك عادة “الكعدة” تتوسط الجميع من جديد لتناول القهوة المر مع ذلك الرطب الذي أحضرناه من بستان جدي “الكبيدة” هذه الوجبة الثانية تتم عادة في الحادية عشرة وتسمى قهوة “الضحوية” أي الضحى وهي عادة تتم بين النساء والأطفال فقط، أما الرجال فلهم جلساتهم الخاصة مع هذه القهوة حيث يتم الاجتماع كل يوم عند شخص من الاصدقاء فيجتمع كل واحد مع أصحابه حيث يقدم المضيف أحسن ماعنده من أنواع الرطب ويتخلل هذه الجلسات الاستماع إلى الأغاني التي تنبعث من “الجرامفون” القديم الذي يدار باليد وكنت احضر مثل تلك الجلسات للاستماع إلى أغنيتي المفضلة “ياما أرق النسيم” لليلى مراد، أما وجبة الغداء لذلك اليوم فكان من الوجبات المفضلة في أيام الخريف، هي وجبة الدجرة مع زعانف اللخم التي يضاف إليها الخل بعد أن تنضج.. بعد تناولنا وجبة الغداء تلك أخلدنا للنوم حتى إذا ما حان وقت صلاة العصر قمنا وتحركنا للغسلة في ساقية “الشجن” وبعدها بدأت أول ليلة من ليالي الخريف الساحرة قبيل غروب الشمس بقليل بدأت الحركة تدب في الساحة التي تقع أمام بيت جدي حيث تنتشر المقاهي التي يتجمع بها الأهالي يجلسون على الأرض يشربون الشاي والنارجيلة ويلعبون لعبة “أكلة بأكلة” وهي تشبه لعبة الشطرنج ولكن بصورة بدائية ولها مربعات أحياناً تخط على الأرض وتمثل أحجار الجنود والقلاع في الشطرنج قطع من الحجارة الصغيرة الملونة وأمامهم حبوب “الحنظل” الذي يقال لها هنا “الزعقة” والفول السوداني في حين ينتشر الأطفال لجمع أعواد الحطب استعداداً لاستعمالها عندما يحل المساء ويظلم ذلك السهل الواسع حيث يبني كل طفل منا حوضاً من قطع الحجر نضعها حجراً فوق الأخرى ونملأها بالحطب ونشعل النار فيها وبنور الشعلات التي تنبعث منها نلعب على ضوئها، هذه الأحواض تمسى “ميفة” ولكن السمر الممتع يبدأ بعد التاسعة حيث تتحول الديوان بكاملها إلى مهرجان.. تجمعان هنا وهناك.. في الساحات والشوارع الجانبية وأمام البيوت، فيحتل الرجال الساحات الواسعة يفرشون عليها الفرش المصنوعة من سعف النخيل، بينما تتجمع النساء في الشوارع الخلفية ويحضرن معهن مدقات البن الخشبية أو النحاسية التي يسمع لرنينها صوت جميل مع هدوء الليل ويحضرن معهن أطباق “القلية” وهي الذرة الشامية المحمصة والحنظل والفول السوداني ونحن وسط ذلك السهل نجري ونتسابق حتو وقت متأخر من الليل.. وإلى جانب تجمعات السمر هذه هناك فعاليات أخرى تتم في نفس الوقت وفي الجزء الغربي من الديوان، في مكان يقال له “العريضة” بفتح العين وتسكين الراء يسكن فيه البدو الرحل الفقراء الذين يأتون أيام الخريف من كل عام من حول المدينة “شحير” وهي مدينة ساحلية تقع في الطريق بين مدينتي الغيل والمكلا، وهؤلاء البدو كانوا يأتون معهم ببعض السمك المملح الذي يقال له “المالح” وبثمن هذا المالح الذي يبيعونه لأهل الديوان كانوا يعيشون تلك الفترة في هذا المخيم من كل ليلة تقام حلقات الرقص البدوي وله رجاله من أهالي الديوان المغرمين بمثل هذه الرقصات التي يقال لها “شرح” ومايتخلله من مغازلات للبدويات الحسان اللاتي يستعرضن جمالهن في مثل تلك الرقصات، كما تقام إلى جانب هذه الرقصات بعض أعمال السحر وإن كنت لم أشاهد شيئاً منها على أيامي لكن جدتي تذكر أن شخصاً من شحير يقال له “ مزاحم” هذا الرجل له حلقة رقص خاصة به حيث كان يستعرض أمام الجميع بعضاً من الألعاب السحرية فقد كان وعندما يشتد الرقص يعمد إلى جنبيته ويغرسها أمام الجميع في الجزء الأسفل من بطنه عند الخصر حتى يقسم جسمه إلى قسمين دون أن تسيل منه قطرة دم واحدة، كل هذا وهو مستمر في الرقص، ويرى الناظر إليه أن شطري جسمه يتحركان في الحلبة هذا في طرف والآخر في الطرف الثاني والناس ينظرون في دهشة حتى إذا ما انتهى الرقص عاد الرجل إلى سابق وضعه وكأن شيئاً لم يكن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.