ياسين نعمان وحزبه ينظرون للجنوبيين ك "قطيع من الحمير للركوب"    السعر الجديد للعملات الأجنبية مقابل الريال اليمني بعد الوديعة السعودية للبنك المركزي    خوفا من تكرار فشل غزة... الحرب على حزب الله.. لماذا على إسرائيل «التفكير مرتين»؟    اشتباكات مسلحة في شبوة وإصابة مواطنين    حجاج بيت الله الحرام يتوافدون إلى صعيد عرفات    مأساة ''أم معتز'' في نقطة الحوبان بتعز    انقطاع الكهرباء عن مخيمات الحجاج اليمنيين في المشاعر المقدسة.. وشكوى عاجلة للديوان الملكي السعودي    مظاهر الكساد تهيمن على أسواق صنعاء    وضع كارثي مع حلول العيد    ألمانيا تُعلن عن نواياها مبكراً بفوز ساحق على اسكتلندا 5-1    أربعة أسباب رئيسية لإنهيار الريال اليمني    لماذا سكتت الشرعية في عدن عن بقاء كل المؤسسات الإيرادية في صنعاء لمصلحة الحوثي    دعاء النبي يوم عرفة..تعرف عليه    الحوثي والإخوان.. يد واحدة في صناعة الإرهاب    شبوة تستقبل شحنة طبية صينية لدعم القطاع الصحي في المحافظة    قوات العمالقة الجنوبية تعلن صلح قبلي في بيحان شبوة لمدة عامين    السعوديون يستعيدون نداء "خلجت أم اللاش" مع تصاعد التوترات الإيرانية في الحج ..فهل يعاد النداء يوم عرفه؟!    حتمية إنهيار أي وحدة لم تقم على العدل عاجلا أم آجلا هارون    لاعبو المانيا يحققون ارقاما قياسية جديدة    يورو 2024: المانيا تضرب أسكتلندا بخماسية    هل تُساهم الأمم المتحدة في تقسيم اليمن من خلال موقفها المتخاذل تجاه الحوثيين؟    لماذا فك الحوثي الحصار عن تعز جزئيا؟!    صورة نادرة: أديب عربي كبير في خنادق اليمن!    "تعز في عين العاصفة : تحذيرات من انهيار وسيطرة حوثية وسط الاسترخاء العيدي"    الحكومة اليمنية أمام مجلس الأمن: أي عملية سلام يجب أن تستند على المرجعيات الثلاث    المنتخب الوطني للناشئين في مجموعة سهلة بنهائيات كأس آسيا 2025م    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 37 ألفا و266 منذ 7 أكتوبر    محافظ تعز يؤكد على ضرورة فتح طرقات مستدامة ومنظمة تشرف عليها الأمم المتحدة    الرئيس العليمي يشيد بمواقف قيادة المملكة من أجل تخفيف معاناة الشعب اليمني    السفير السعودي يعلن تحويل الدفعة الثالثة من منحة المملكة لدعم البنك المركزي    اختتام دورة تقيم الاداء الوظيفي لمدراء الادارات ورؤساء الاقسام في «كاك بنك»    فتاوى الحج .. ما حكم استخدام العطر ومزيل العرق للمحرم خلال الحج؟    يعني إيه طائفية في المقاومة؟    مقتل وإصابة 13 شخصا إثر انفجار قنبلة ألقاها مسلح على حافلة ركاب في هيجة العبد بلحج    أروع وأعظم قصيدة.. "يا راحلين إلى منى بقيادي.. هيجتموا يوم الرحيل فؤادي    مستحقات أعضاء لجنة التشاور والمصالحة تصل إلى 200 مليون ريال شهريا    أسرة تتفاجأ بسيول عارمة من شبكة الصرف الصحي تغمر منزلها    عرض سعودي ضخم لتيبو كورتوا    فضيحة دولية: آثار يمنية تباع في مزاد علني بلندن دون رقيب أو حسيب!    وزير الأوقاف يطلع رئاسة الجمهورية على كافة وسائل الرعاية للحجاج اليمنيين    نقابة الصحفيين الجنوبيين تدين إعتقال جريح الحرب المصور الصحفي صالح العبيدي    وزير الصحة يشدد على أهمية تقديم افضل الخدمات الصحية لحجاج بلادنا في المشاعر المقدسة    البعداني: نؤمن بحظودنا في التأهل إلى نهائيات آسيا للشباب    اختطاف إعلامي ومصور صحفي من قبل قوات الانتقالي في عدن بعد ضربه وتكسير كاميرته    منتخب الناشئين في المجموعة التاسعة بجانب فيتنام وقرغيزستان وميانمار    الكوليرا تجتاح محافظة حجة وخمس محافظات أخرى والمليشيا الحوثية تلتزم الصمت    ميسي يُعلن عن وجهته الأخيرة في مشواره الكروي    هل صيام يوم عرفة فرض؟ ومتى يكون مكروهًا؟    وفاة مواطن بصاعقة رعدية بمديرية القبيطة بلحج    إصلاح صعدة يعزي رئيس تنفيذي الإصلاح بمحافظة عمران بوفاة والده    السمسرة والبيع لكل شيء في اليمن: 6 ألف جواز يمني ضائع؟؟    20 محافظة يمنية في مرمى الخطر و أطباء بلا حدود تطلق تحذيراتها    بكر غبش... !!!    مليشيات الحوثي تسيطر على أكبر شركتي تصنيع أدوية في اليمن    منظمة حقوقية: سيطرة المليشيا على شركات دوائية ابتزاز ونهب منظم وينذر بتداعيات كارثية    افتتاح جاليري صنعاء للفنون التشكيلية    وفاة واصابة 4 من عمال الترميم في قبة المهدي بصنعاء (الأسماء)    ما حد يبادل ابنه بجنّي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 02 - 03 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
عبدالله سالم باوزيرفي بداية عام 1996م أخذت العمليات الفدائية ضد الانجليز تكتسح كل أحياء مدينة عدن في قوة وعنف، وأخذ الثوار يقومون بعمليات جريئة ومنظمة ضد جحافل القوات البريطانية، فإلى جانب بعض الاغتيالات لكبار المسؤولين الإنجليز.. كان الفدائيون يقومون بإلقاء القنابل اليدوية على الدوريات البريطانية التي كانت تجوب الشوارع والأسواق وكانت هذه العمليات كثيراً ما تقع في أماكن مزدحمة بالمارة والمتسوقين فيلجأ بعض هؤلاء الفدائيين للاختباء بين هذه الجموع بعد العملية الشيء الذي يصعب على الانجليز التعرف عليهم وخصوصاً بعد أن يلقي الفدائي قنبلته التي بحوزته عليهم ويصبح كأي فرد عادي حتى وإن كانت لديه قنبلة أخرى فسرعان ما يتلقفها منه صاحب متجر ليدسها في مكان أمين من متجره، ولهذا فإننا كثيراً ما نتعرض للتفتيش بعد حدوث أي هجوم على القوات البريطانية في تلك الأماكن من السوق، فقد كان أول ما يفعله هؤلاء الجنود بعد إلقاء أي قنبلة عليهم ضرب حصار مطبق على ذلك الموقع، وبعد أن يلملموا قتلاهم وجرحاهم يهجمون على متاجرنا كالجراد ويخرجوننا إلى الشارع وحد “ السونكي” المثبت على ماسورة بنادقهم يلتصق بمؤخرة رؤوسنا وعلى العنق تماماً بل ولربما انغرس طرف هذا السكين في جلود البعض منا ممن يتكاسل في الخروج من متجره،وبعد أن يسوقونا كالأغنام إلى فسحة من الشارع يرصوننا ووجوهنا وأيدينا ملصقة بالحائط الذي أمامنا، ولا يدعون لنا أي فرصة بالالتفات يميناً أو يساراً، ومن يفعل ذلك ينال ضربة بعقب البندقية على ظهره أو رأسه.. وهكذا نظل وكأننا معلقون بأيدينا على الجدار، وفي خلال ذلك يقومون بتفتيشنا بدقة فتتغلغل أيديهم إلى أماكن حساسة من أجسادنا، أذكر أن أحد أصحاب تلك المتاجر كان قبل مفاجأتهم له قد استلم بعض المال ولم يستطع إدخاله خزينته فما كان منه إلا أن وضعه تحت حزامه وخرج بين أيديهم، وكان حينها لكل من الجبهتين اللتين كانتا تحاربان القوات البريطانية رمزها الخاص التي تقاتل باسمه فقد كان شعار الجبهة القومية N.L.F وكان شعار جبهة التحرير FLOSY وما إن جاء دور الرجل الذي أخفى المال تحت حزامه للتفتيش وأخذ أحد الجنود البريطانيين يتحسسه ويضع يده على ذلك المكان حتى صرخ الرجل في خوف “فلوسي .. فلوسي” وقد خاف أن يأخذوا منه ذلك المال وظن الجند أن الرجل منتم إلى جبهة التحرير وأنه يشيد متحدياً لهم فأخذوا يضربونه بأعقاب بنادقهم وهو يزيد في صراخه “فلوسي .. فلوسي” وهكذا جعلوا يضربونه في عنف وقسوة حتى أوقعوه أرضاً وهو مغشي عليه!.. وكنت في تلك الأيام وما بعدها نشيطاً في تسجيل الكثير من مشاعر الكراهية التي تكنها جموع الشعب للطغاة المحتلين بسبب الممارسات اللاإنسانية التي تتصف بالتعنت والصلف ومن هذا ما كتبته في يومياتي التي كتبتها بمحل سكني بسفينة نوح وكان ذلك بتاريخ 23 /4/ 1965م ثم نشرت في مجموعة ثورة البركان.
“اليوم جمعة” ومنظر الحوانيت المغلقة شيء مألوف لي وللناس في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، ولكن هذا اليوم يختلف كثيراً عن كل يوم جمعة مضى لقد كنت كثيراً ما آوي إلى منزلي في أيام العطل وأظل أحياناً يوماً كاملاً دون أن أغادره بل لقد كنت أحس فيه بالمتعة لأنني أقضيه حسب رغبتي ولكن هذه الليلة كانت غير تلك الليالي.
كان إحساسي هذه الليلة بأنني مسجون ينغص على عطلتي هذه ويجعلني مبلبل الفكر لا أستقر على شيء، كانت هذه الأفكار تمر برأسي وقد مضت ساعة كاملة من قانون حظر التجول ورأسي مستند إلى فراشي، وأمام عيني صحيفة لا أعي مما كتب عليها حرفاً واحداً، لقد كنت في تلك اللحظة عازفاً عن كل شيء، عاجزاً عن القراءة والكتابة، ولكنني برغم ذلك تحاملت على نفسي وأبعدت الصحيفة جانباً ومددت يدي والتقطت قلماً وورقة وقررت أن أكتب أي شيء واحترت ماذا أكتب وأنا في حالتي هذه ماذا أكتب وأنا مسجون بين جدران أربعة وقد سلبت حريتي؟ وعجز فكري أن يجد له موضوعاً يطرقه،بل لقد شل فكري وفقدت القدرة على الكتابة، حتى ولو كتبت شيئاً فستكون كتابتي ضعيفة تنقصها الحرية والطمأنينة،وتململ القلم في يدي، وبلغ بي الكرب حداً جعلني أقوم لكي أرميه من الشرفة وأستريح وقمت فعلاً وأشرفت من النافذة،كانت المدينة تسبح في لجة عميقة من الصمت، وبدا لي الشارع كممر ضيق طويل بأحد السجون المظلمة، كما بدت لي البنايات الشاهقة صغيرة جداً، تضاءلت أمام عيني حتى أصبحت كزنزانات ضيقة ولمحت السجان من بعيد يطرق أرض الأسفلت بقدميه الغليظتين وفجأة سقط القلم من يدي وهوى على الرصيف أمامه.. وداسته قدماه، وتحطم القلم، ولكنني لم أتأسف عليه فلم يكن له جدوى بعد ذلك .. لقد كنت أوقن أن القلم لن يستطيع الآن أن يعمل شيئاً مهما برع، ومهما بلغت كلماته من القوة والشدة.
وعدت إلى فراشي يائساً قنوطاً، وفيما كان جدعي يتهاوى على الفراش إذ ترامى إلى سمعي صوت انفجار قوي ألجم لساني أتت به الرياح من مكان ليس ببعيد عن منزلنا وهنا أيقنت بأن ذلك أبلغ من القلم وأقوى من الكلمة ونمت ليلتها نوماً عميقاً”،مجموعة ثورة البركان” قصة “ ثلاثة أيام في السجن”، ص 27 28 ، الطبعة الثانية.
وفي شهر سبتمبر من عام 1966م كتبت في مكان آخر مايلي:
“كنت لا أزال راقداً في فراشي في السادسة صباحاً، ومازال أطفالي الستة يتناوبون دورة المياه، وزوجتي في المطبخ تعد الفطور عندما سمعت طرقاً قوياً على الباب، وقفز أحد أطفالي عارياً إلى الباب يستطلع الخبر وجاءني راكضاً وعيناه تلمعان بالاهتمام قائلاً في صوت يشوبه الخوف:
“ الإنجليز بالباب يشتوك يا أباه”.
وطرت من الفراش، وسقط وعاء اللبن من يد زوجتي واحترق البيض على النار، وخرج أطفالي من الداخلي في شبه مظاهرة وهم يصيحون:
“ناصر .. ناصر” فقد أصبح للفظة “الإنجليز” عندما تطلق وقع خاص في النفوس، أخذ كل واحد من البيت في تلك اللحظة يعبّر عن شعوره نحوها على طريقته الخاصة، أما أنا فلم أقل شيئاً لقد كانت أفواه البنادق الثقيلة أسرع من خواطري.. وعند الباب أحاط بي أطفالي متطلعين إلي في ذعر وخوف وهم يرونني ضعيفاً أمام تلك الجحافل من الجنود البريطانيين المسلحين، وقلت لنفسي تلك اللحظة مواسياً” لابد وأن في الأمر مجرد اشتباه فقط، وسأعود بعد أن يتأكدوا من أنني لست بغيتهم”، وفردت ساعدي لأطفالي وهمست قائلاً لهم:
“ادخلوا البسوا واطمئنوا فسأعود إليكم سريعاً”
وقادني جنديان مسلحان إلى السيارة الصفراء صفرة الموت وألقوني بداخلها، وكأنهم يلقون بي في مغارة مظلمة وتحركت السيارة وتحرك معها ذهني قائلاً:
“ترى هل صحيح سيعتقلونني ؟ لقد قال لي أحدهم عند باب البيت بأن ذلك مجرد إجراءات بسيطة وسأعود بعدها، ولكن كل من اعتقلوا من قبل قيل لهم نفس هذا الكلام وقد مرت عليهم الآن شهور طويلة دون أن يعودوا إلى منازلهم، ولكن هل أنا المقصود حقاً أم أن هناك مجرد خطأ فأنا لست ممن تبحث عنه بريطانيا إذ ليس لي نشاط سياسي أمارسه عملياً، صحيح أنني أتعاطف مع الثوار ولكن ذلك شعور عام، شعور كل فرد عرف بريطانيا على حقيقتها، شعور كل الشعب فهل كل من يحمل نفس الشعور يزج به في السجون”مجموعة “ ثورة البركان” قصة سلام كثير، ص 37 38، الطبعة الثانية.
وفي شهر ديسمبر 1966م كتبت قصة “ناصر” التي نشرت بصحيفة الأمل لصاحبها الأستاذ عبدالله باذيب ثم ضمت إلى “ثورة البركان” صفحة 12 و13و 14 معبراً فيها عما يلاقيه المواطنون من مصاعب ومخاطر في ظل قوات الاحتلال من الخامسة والنصف مساء وحتى السادسة صباحاً، وتحكي هذه الأقصوصة حكاية مواطن فاجأ امرأته الطلق وتعسرت ولادتها فخرج المسكين مخترقاً ذلك الخطر لإحضار سيارة لزوجته لنقلها إلى المستشفى ولكنه بعد أن يئس من الحصول على سيارة فوجئ بأحد جنود الاحتلال يمسك به ويسوقه ويضربه بعقب بندقيته ليدخله السيارة المليئة بالمخالفين لحظر التجوال من أمثاله، ممن اضطرتهم ظروفهم إلى خرق ذلك الإجراء الجائر، ولندع بطل القصة يصف حالته تلك حيث يقول:
“وخطر بذهنه خاطر ارتعد له جسمه” ترى؟ هل تموت زوجته إذا تأخر عليها، أتموت حبيبة قلبه وأم أطفاله على بعد خطوات منه وهو غير قادر على أن يفعل شيئاً من أجلها، أتموت مقتولة بقرار جائر انصب على رؤوسهم ؟”
وغلى الدم في عروقه تلك اللحظة ورفع قبضة يده في الهواء مهدداً، وزم شفتيه حتى كاد يدميهما.. وهنا أحس بشيء جاف يلكزه في ظهره، وبندقية تصوب إلى صدره، وصوت أجش يصيح به” هاري آب” الساعة السادسة وعشر دقائق “ قالت عيناه ذلك بعد لفتة سريعة إلى ساعته، ولم يحر جواباً فقد تبع ذلك الخوار الذي أصدره جندي أحمر لكزة أخرى في بطنه وأخرى في عجزه وتوالت الضربات عليه في كل مكان من جسمه تسوقه إلى السيارة الفولاذية الصفراء وانكفأ بوجهه على سطحها وجراح كثيرة تنزف دماً في جبهته ورأسه، وجرح بالغ في قلبه ينزف هواناً ومقتاً، واستوى جالساً على سطح السيارة الصلب ورفع عينيه إلى الجنود وصرخ فيهم وقد تمثلت أمامه صورة زوجته وهي على فراش الموت قائلاً “يا مجانين .. يا طغاة، أتدرون ما أنتم فاعلون الآن، إنكم ستقتلون زوجتي وستفجعون أطفالي أطلقوا سراحي لعلي أمنع هذه الجريمة الشنعاء، أو اذهبوا بي إلى قسم البوليس ولتذهبوا بعد ذلك إلى الجحيم”.
ولم يجبه أحد،فتهالك على سطح السيارة مجهداً مكدوداً وأخلد للهدوء فليس له من حول ولا قوة تجاه أولئك الصم البكم ومرت برهة من الوقت وجد نفسه بعدها في معسكر للجيش وسط جمهرة كبيرة من أمثاله ممن خرقوا قرار حظر التجول .. شيخ طاعن في السن خرج يحلب شاته أمام باب منزله ورجل آخر ذهب يبحث عن ابنه التائه وآخر نسي قارورة لبن طفله في سيارته خارج منزله، ولما وصلوا إلى استجوابه كانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء، وكان من بين الجنود الذين يستجوبونه عدد من الجنود العرب فما إن عرض عليهم مشكلته حتى هرعوا لمساعدته وكلفوا من يصحبه في سيارة البوليس إلى بيته، ولكن الساعات كانت قد فعلت فعلها في غيابه فما إن وصل إلى بيته حتى انفجر كل من فيه قائلاً:
“لقد ماتت زوجتك”.
وكاد يغمى عليه لدى سماعه ذلك الخبر لولا أن ترامى إلى سمعه صوت وليد شق سكون ذلك الليل وبدد وحشته صوت ألهب الأمل فيه وأعاد إليه صوابه صوت أعاد إليه روحه،ودلف يركض إلى وليده وصوت أمه الباكي يردد وراءه.
“ماذا نسميه يا أحمد؟”
وهتف أحمد في صوت مشبع بالأمل والحب.. والقوة ويداه تحتضنان وليده..
“نسميه ناصر .. ناصر .. ياأماه”.
وكان الزقاق الذي يقع فيه متجر رويال الذي أعمل به يعتبر مركزاً حيوياً في انطلاق الكثير من العمليات التي تتم به .. فقد كانت تنطلق منه القذائف الصاروخية على ثكنات القوات البريطانية المرابطة آنذاك بأعلى “شارترد” بشارع الملكة أروى، هذه الصواريخ كانت صغيرة الحجم وكانت توضع في كرتون بركن ذلك الزقاق وتغطى، فتبدو وكأن الكرتون من مخلفات أحد تلك المتاجر، ولكن هناك سلك رقيق يخرج من أسفله يسير بمحاذاة جدار الزقاق إلى “ الجلي” الذي يقع وسط ذلك الزقاق هذا السلك مرتبط بجهاز الانطلاق المخبأ بالجلي وعند الضغط عليه ينطلق ذلك الصاروخ إلى الأعلى ثم يهوي إلى الأسفل في هيئة نصف دائرة ليحط على تلك الثكنة العسكرية تماماً بأعلى بنك شارتر ليصيب منهم من يصيب، ولهذا فقد أصبح ذلك الزقاق هدفاً خاصاً لهجوم القوات البريطانية عليه، إذ يخصصون يوماً في الأسبوع لزيارتنا تلك الزيارة الثقيلة التي يشبعوننا فيها ضرباً وركلاً بعد تفتيش متاجرنا التي تقع على ذلك الزقاق..
وأذكر يوماً كدنا نقع في قبضة القوات البريطانية ونحن بالجرم المشهود، ففي ذات يوم والفدائيون يتهيأون لإطلاق أحد هذه الصواريخ، وبينما الصاروخ مغطى وقابع في الكرتون الموضوع بناصية الزقاق من الناحية الشمالية وبينما وجهت الإشارة من أحد المراقبين بشارع السبيل بعدم وجود دورية قادمة من أي الاتجاهين وعندما اتجه أحدهم إلى “ الجلي” لإطلاق الصاروخ وإذا بإشارة سريعة تصل من مراقب آخر بطرف الشارع الآخر يفيد بدخول دورية بريطانية إلى الشارع السبيل وهنا وفي لمح البصر أغلقت كل المتاجر بذلك الزقاق أبوابها، ولأن متجرنا به باب زجاجي يظل دائماً مغلقاً حتى لا تتسرب برودة المكيف إلى الخارج، هذا الباب كان يحجب عنا الأصوات التي تدور بذلك الزقاق فكنا آخر من يعلم.. ولهذا لم نسمع صفقات الأبواب الحديدية وهي تقفل ولما خرجنا كان الشارع مقفراً ولم يكن أمامنا إلا أحد الفدائيين ومعه كرتون الصاروخ ليختبئ به داخل ذلك الجلي، وفي هذه الأثناء وبعد دخولنا معه وصلت الدورية إلى ذلك الزقاق، وقفت بطرفه موجهة فوهة مدفعها المحمول على تلك السيارة إلى الزقاق ولما رأته خالياً واصلت طريقها إلى الطرف الغربي من شارع السبيل ولو أنها سبقت دقيقة واحدة لرأتنا ولكن الله نجانا منهم.
وفي يوم لا أنساه فوجئنا بهجوم القوات البريطانية على ذلك الزقاق ورغم أننا لم نسمع بوقوع أي هجوم على القوات البريطانية من خلال ذلك الزقاق أو صوت تفجير إحدى القنابل في تلك المنطقة مما يستدعي تفتيشنا الشيء الذي كنا نستعد لذلك التفتيش فنغلق صناديق النقود ونشد رقابنا للتصلب تحت أطراف السونكي المثبت ببنادقهم التي يسوقوننا به أمامها، ولكن ذلك اليوم ربما أرادوا أن يباغتونا ولهذا فقد فوجئنا بهم وقد أخذنا على حين غرة، هجموا علينا وأخرجونا وقد زادوا في عبثهم بنا ومضايقتهم لنا فبدلاً من أن يوقفونا أمام جدار الشارع الأمامي كالعادة فقد أخذوا يضربون ظهورنا كي نمتد على وجوهنا وبطوننا على أرض الإسفلت الذي كان يغلي من الحرارة، فقد كنا في شهر يونيو القائظ والساعة قد تعدت الحادية عشرة ظهراً ولهذا ما إن أسلمنا وجوهنا للأرض حتى أحسسنا بحرارتها تشوي وجوهنا، وكلما حاول أحد منا أن يرفع وجهه من الأرض وجهت إليه ضربة في رأسه بعقب بندقية أحدهم في حين كنا نسمع من خلفنا رطانتهم فيما بينهم وهم يفتشون متاجرنا ويقلبون البضائع رأساً على عقب وهكذا مرت ساعة كاملة كانت تتردد فيه أنفاس الشيوخ منا حتى كادت تخرج معها أرواحهم، وفي ذلك الصمت الذي خيم حولنا وفجأة سمعنا صوت بني آدم يخرج من فم امرأة عجوز تقول في لهجة عدنية محببة:
أو .. أو مالكم يا أولادي مبطوحين؟!
وحينها علمنا أن الإنجليز الخبثاء بعد أن انتهوا من عملهم غادروا المنطقة دون أن يشعرونا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.