الأمواج تتلاطم , تبعث نسمة عليلة محملة بنكهة البحر , ثمة بقايا شفق خافت تدركه حدة بصري عند منتهى الأفق البعيد , ساعات منذ طغى هيجان البحر على قرص الشمس الذي وقف على الحافة يستأذن بالانصراف . كان (المحويتي) – الذي التقيته - على حافة شارع( صنعاء ) جوار بائع كتب قديمة حين سألت البائع عن الطريق إلى الكورنيش , يبدو انه مثلي لم يتردد عليه من قبل , وجه البائع السؤال نفسه إلى (المحويتي) . الذي أجابه مشيراً بيمينه : في هذا الاتجاه . التفت نحوي حين دفعت إلى البائع ثمن أربعة كتيبات من إصدارات شهرية قديمة , عرض إيصالي إلى الكورنيش , نهضت بلهفة شوق أججها صديقي (وليد) بحديثه المستمر عن الكورنيش , تخطينا الشوارع , تعرفت على (المحويتي ) خلال مسيرنا , انساب هواء بارد أراح جسمي المستعر بصيف هذه المدينة الساحلية , ودعت (المحويتي) حين التقى احد أصدقائه وهو يحتسي شاي الحليب وتقهقه جواره (العسلية) - رغم قطعة الفحم المتقدة فوق رأسها - عندما يجتر رائحتها . واصلت السير بمفردي , صوت الأمواج يحد من ضوضاء المدنية , المآذن ترفع أذان صلاة العشاء , استندت إلى احد مقاعد رصيف (الكورنيش) المطل على مياه البحر الأحمر وخلفي تربض (الحديدة) كعروس في ليلتها ... لأول مرة اجلس إلى البحر وفي وقت كهذا , المقاعد من حول مقعدي تحمل شاباً وفتاة ونادراً ما تظل فارغة كمقعدي قبل استنادي إليه . إيه يا بحر ... , قلتها والأمواج تتلاطم على صفحة البحر المتأجج , أحاول حشد مشاعري لاستغلال المنظر الإلهي البديع , اقتراب موعد توديعي للمدينة لم يسمح لي بفرصة كافية للتأمل وإشباع بصري المسترسل في الأفق الممتد خلف هذه الأمواج , عتمة تقضي على ما تبقى من ضوء , إضاءة تنبعث من المدينة ومن مصابيح الزئبق المرتصة على امتداد الرصيف لتؤنس البحر لحظات حاجته , رائحة (العسلية) تتسلل من استراحة تبعدنا بأمتار , همسات رقيقة تتناثر من المقاعد القريبة , تستغل لحظة سكونٌ لتتسلل إلى أذني الخاضعتين للبحر , همس يتسرب وصوت كصوت قطعة طين لزج ترتطم على جدار صلب مستوٍ, تمتزج الأصوات مع تلاطم الأمواج ببعضها عندما تصطدم بصخور الحافة .. قهقهة خافتة من المقعد الأيسر من مقعدي , يقتربان من بعض وكأن لفحة برد تنال منهما , أشفقت عليهما , اقتربا أكثر , ألصق وجهه في وجهها , يمتص قطرات من حافة لسانها , أصابعه تتخلل خصلات شعرها , عقارب الساعة تدركني , لفحات برد قوية تلتهم بقية من يتواجد , كلٌ منهما ينزوي إلى حضن الآخر , ودعت الأمواج والكورنيش ولفحة البرد التي احترمت وحدتي على المقعد لكنني كنت أتوسل إليها لزيارة مقعدي مثل المقاعد الأخرى وإكرامي قبل المغادرة ...