«إن ما يسعى إليه الإنسان السامي يكمن في ذاته هو، أما الدنيء فيسعى لِما لدى الآخرين.» (كونفويشيوس..الفيلسوف الصيني ) كانوا في طليعة المثقفين الروّاد الحركيين،آمنوا أيّما إيمان برسالة المثقف ودوره في مجتمع متحرّكٍ يسعى لتحقيق التنمية في جميع مجالاتها، بما فيها تدعيم القيم بكلّ مكوّناتها، ومحاربة الجهل،وإحلال المعرفة بدله، وكان الناس يذكرونهم بخير، بل ويقتدون بهم. ولمّا تجاذبتهم السياسة واحتوتهم،فتولّوا المناصب المنتخبة المحلية والوطنية، وأُسنِدت إليهم رئاسة المجالس، ورئاسة لجان الثقافة في المجالس المحلية والوطنية، جذبهم دفْء الكراسي ومغرياتها فتناسوْا أصلهم، وتنكّروا لأصدقائهم المثقفين، وقاطعوا المشهد الثقافي في مدينتهم، وفي ولايتهم،بلْ صاروا خصومًا للثقافة وأهلها،وهم كرماء جدّا في توزيع المساعدات المالية والمادية على كل القطاعات،وجمعيات المجتمع المدني حتّى المجهرية منها، وهم شحيحون على الجمعيات الثقافية التي يتقرّبون منها، ويستعينون بها إلاّ في المناسبات الوطنية والدينية في تزيين الشارع الرئيسي، وتلميع واجهة المدينة، يأتون مزهويين في المناسبات مع هذا المسؤول السامي، أو ذاك في الصفوف الأولى، ولمّا يغادر المسؤول إثر مراسيم الافتتاح يهرولون وراءه، مغادرين القاعة بدعوى أن لهم مهامّ كبيرة تنتظرهم، وما يجري في القاعة بعد ذلك من محاضرات، ومداخلات فكرية لا تهمّهم ..ذلك هو حال المثقفين، وأشباه المثقفين المزيّفين الذين صار عددهم يرتفع في كل عهدة انتخابية ببلادنا!. الحقيقة في وجه القوة الجدل حول المثقف لم ينتهِ. نعوم تشومسكي العالم الأمريكي يعتبر أن المثقف هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة. والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري يُضفي عليه صفة موسوعية،فيصفه بأنه: منْ غادر حقل الاختصاص إلى ما هو أوسع في مجالات المعرفة الإنسانية، أي الإيمان بدور المثقف وقدرته.. البعض يعمد إلى تقسيم مَجَازٍ بين مثقف “حقيقي”،وآخر غير ذلك.. فالمثقف “الحقيقي” هو من يرسم مصيره بنفسه.. مختارا، وبوحْيٍ من ضميره،ووعي تامٍّ بدوره،ومهمته التي ارتآها لنفسه..ويؤدي رسالته وفْقًا لذلك، أو يُقتل بإحدى طريقتين: إما أن تتم تصفيته جسدياً، أو يتم اغتيال أفكاره اجتماعياً في لعبة الصراع الفكري بينه، وبين أطراف كثيرة مؤثرة في المجتمع. لكن واقعنا المعاصر قلّما نحظى فيه بهذا النوع من المثقفين الرياديين، واقعنا أفرز ظاهرة ليست بالجديدة في التاريخ الإنساني، هي موجودة ومتجددة في كل عهد، ومن باب الحشمة والحياء ما كانت ظاهرة للعيان قبْلُ، لكن في عهدنا هذا، وفي أيامنا هذه صارت مكشوفة ووقحة، هي ” انتهازية المثقف” انتهازية أفرزت لنا المثقف المتذبذب،الوصولي الذي يحطّ رحاله في كلّ مأدبة دُعي لها أم لم يُدْع..حتى أن أحد مثقفينا وصف المثقف الجزائري بأنه أكثر الشرائح الاجتماعية تذبذبا،وقلقا وحيرة،بل أكثر الشرائح الاجتماعية انتهازية: «صحيح أن المثقف من حيث انتماؤه الاجتماعي إلى الطبقة المتوسطة،هو الأكثر تذبذبا،وقلقا وحيرة حين يتعلق الأمر بتحالفاته،وتموقعاته في السياسي، والأيديولوجي؛ وصحيح أيضا أن المثقف هو أكثر الشرائح الاجتماعية انتهازية، وأكثرها تبدلا في المواقف والمعتقدات، وتَنْتُجُ هذه الحال جراء حلمه في التغيير إلا أنه يخاف في الوقت نفسه من هذا التغيير.»(1) من متبوعٍ إلى تابعٍ نتيجة ذلك فإننا نرى كما يرى العديد معنا أن المثقف تخلّى عن دوره الريادي طوْعًا، وآثر العزلة، أو اختار الانتهازية جهارًا نهارا، وفقد بالكاد كل نزوع إلى الاندهاش ممّا يجري، كما فقد أيضًا موهبة الإدهاش والمبادرة حيث كان من المفترض أن يكون.. ولعل أهم الجوانب التي تستحق التغيير في رأيي ينبغي على المثقف أن يكون أوّلاً صادقًا مع نفسه،وأن لا يكون مزدوج السلوك، كأن يكون إمّا منكفئا على ذاته يحلم بعالمٍ ورديٍّ، دعائمه المثالية، وفضاؤه المدينة الفاضلة، أو متزلفًا، ذليلاً، تابعًا لأصحاب النفوذ، والمال والسياسة، في سبيل الحصول على مآرب ذاتية تحطّ من كرامته، وتحوّله من متبوعٍ إلى تابعٍ..كما نشاهد ونعايش في أكثر من حادثة، وواقعة حينما يتحوّل بعض أشباه المثقفين إلى أبواقٍ منحطّة تمدح هذا السياسي، أو ذاك نفاقًا، وتنعى رحيله من منصبه، أو تعيينه في منطقة أخرى، وتصفه بكل أوصاف الشهامة، والرجولة، والإخلاص للمنطقة والوطن، وأنْ لا أحد شبيهٌ له لا من السابقين،ولا من الحاضرين،ولا من المستقبليين،والواقع الميداني يكذّب ذاك..أنصاف مثقفين كهؤلاء يهرولون تجاه كل قادمٍ جديدٍ، يقدمون له آيات الولاء، وتجدهم كفراشات الليل يحومون حوله، واجدين لهم مكانا في الصفّ الأول أينما حلّ هذا القادم، وتتفتح قرائحهم المريضة بقصائد عصماء كلّما أتيحت لهم الفُرصُ في مناسبة، أو غيرها في حضوره. إن هذا النوع من أشباه المتعلمين المحسوبين على الثقافة كذبًا هم سبب بلاء الثقافة،والمثقفين الحقيقيين،وهم من العوامل التي جعلت الإداري السياسي يُقصي الثقافة من اهتماماته،وينظر بعين الازدراء إلى المثقف كيفما كان تخصّصه،ومهما كانت درجته العلمية والإبداعية،وهم سبب التصدّع الأزلي بين السياسي والمثقف.. تصدّعٌ تولّد عنه، ويتولّد هذا الصراع الظاهر حينًا، والخفيّ تارات. انطفاء المثقف نتيجة هذه السلوكات المُشينة تصاعدت مقولة «موت المثقف» لأسباب عديدة منها ما هو مرتبط بالمجتمع المحلّي، ومنها ما هو مرتبطٌ بما يجري في العالم من متغيّرات متسارعة، وبروز وسائط أخرى للتثقيف، والتثاقف، وتراجع مكانة المثقف التقليدية، ومنها ما هو أهمّ «المثقف نفسه». المثقف انتحر عندما ألْقى بنفسه في دوّامة الغموض، والبعد عن الواقع، والبحث عن مظلة إيديولوجية يتظلل بها..لقد انقطعت لغة الخطاب بين المثقف والسلطة من ناحية،حيث وقفت ضد تحقيق طموحاته مشروعاته، سواء بتدجينه،أو باحتقاره، أو بإبعاده عن ساحة التأثير الاجتماعي..والخيبة الكبيرة أن المثقف العربي رضي بهذا الدور المرسوم له، ونقصد هنا المثقف الذي يحمل هما معرفيا يريد به إصلاح ما يجب إصلاحه،أو حتى استشارته في العديد من القضايا المفصلية،ولذلك لم يستطع هو،أو لم يُفسح له المجال في تغيير الواقع العربي بقدر ما ساهم هذا المثقف في تثبيت دعائم هذا الواقع، وإقامة أوتاده،وإلاّ فالنفي والاغتراب بشكليْهما الجسدي،والنفسي هما البديل .(2) إذا جارينا المقولة الغربية ب ” موْت المثقف ” فإن المثقف الغربي قد يكون انتهى دوره وهذا غير صحيح واقعيا لأنه أوصل مجتمعه إلى برّ الأمان، إذ المعلومات والمعارف لم تعد تحتاج من الإنسان الغربي سوى ضغْط أزرار ليحصل على ما يريد دون وساطة؛ نقول غير صحيح لأن السلطة السياسية هناك في الغرب، وفي أغلب هذه البلدان،صار مستحيلا عليها أن تتخذ القرارات السليمة في كل المجالات بسبب تشعّبها،وتعقّدها، وحاجتها إلى تخصصات كثيرة معرفية وتكنولوجية، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن هناك قضية مثارة في أنجلترا منذ سنوات، ولا تزال حول علاقة الفكر والسياسة، فهناك كتّاب ونواب يثيرون قضية تضاؤل دور البرلمان الإنجليزي، لأن كثيرا من الأمور العامة التي تعرض عليه معقدة لدرجة لا يستطيع النائب أن يحيط بها كلها، في حين أن الوزير ممثل السلطة التنفيذية يجيء لمناقشة الموضوع المطروح مزوّدا بآراء عشرات الخبراء والمفكرين والكُتّاب، والإعلاميين، وأحيانا مرفوقًا بهم .(3) المثقف العربي ..انتحر باختياره إن المثقف العربي انتحر عندما آمن بأن دوره هو نسْج قصائد تلحس قدم الخليفة، وتمجّد عرش السلطان، واللهث وراء جوائز البترو دولار..حتى أن بعض الشويعريين الذين لا يزالون في بداية الطريق، ولا يزالون نكرا حتى في مناطقهم المحلية، ولم يصدر لهم ديوان شعري واحدٌ ..عيونهم على هذه الجوائز. آثر هذا المثقف العزلة والتقوقع،والنفي الداخلي، بل الاغتراب عن مجتمعه، وحتى أولئك الذين زعموا أنهم «مثقفو الشعب» كذّب الواقع زعمهم، حيث لفظهم الشعب ولم يتقبّل وصايتهم على الحقيقة التي يوفرها له الخطاب الديني المسجدي، والقنواتي الفضائي، والواقع الميداني المعيش.. تجاذبات مغرية إن هذا المثقف قلّما يتصدّى لهذه التجاذبات، وينأى بنفسه عنها لأن وضعه المادّي لا يسمح له بأن يؤسس لفعْل ثقافي كتكوين مؤسسة ثقافية تموّن نفسها بنفسها، وتشع ثقافيا محليا،ووطنيا، كما أنه عاجزٌ عن إخراج أعماله،وبحوثه إلى الفضاء الوطني،والعربي، وربّما العالمي..ممّا يؤدي إلى الخياريْن المعروفيْن، زيادة العزلة ( أصلاً معزولٌ عن مجتمع يأنف من المعرفة )، أو القبول بتلكم التجاذبات، والرضا بها، فيتحوّل إلى واجهة لغيره، وبوقٍ صدّاحٍ لخطاب مُؤدلج، ووسيلة لارتقاء غيره، فلا هو صار عضوا يقاسم هذه الجهة أو تلك التي استقطبتْه، ولا هو نال من العطايا والنعيم ما يساعده على التموقع أكثر في المجتمع..وحياتنا تزخر بأمثال هؤلاء الذين كانوا يبكون، ويتألمون بحسرة على راهن الثقافة،وحال المثقف، ولمّا استفادوا وانضووا كرْهًا، أو طوْعًا في مناصب إدارية سرعان ما نسوْا وتناسوْا وضعهم السابق، والمفارقة أنهم يتحوّلون إلى خصوم للمثقفين أمثالهم، حتّى وإنْ كان بعضهم أصدقاء لهم. إن هذه التجاذبات قد تكون مغرية، ويسْلم منها إلاّ منْ أوتوا قوة الإيمان، وصلابة الإرادة، في هذا الإطار لا زلت أذكر أنه في إحدى استحقاقات انتخابية برلمانية في منتصف التسعينات من القرن الماضي، لي صديق، وهو مشرفٌ تربويٌّ قيادي يومذاك،زاره أحدُ المترشحين لهذه الانتخابات، وكان رجل أعمالٍ ناجحٍ معروف وطنيا، وعالميا ولا يزال طلب منّه يومها أن ينضمّ إلى قائمته الانتخابية على اعتبار أنه معروفٌ في المنطقة، وفي الولاية، فرفض طلبه بلطفٍ، وشكره على اصطفائه له، وبرّر رفضه بأنه رجل تربية وثقافة،وليس رجل سياسة ..لكنه ألحّ وألحّ عليه حتى أنه أغراه باتخاذه صديقا له مستقبلاً في حال قبوله، وقد يحتاج إليه، وهو” أبو عيال” ورجل الأعمال “هو منْ هو”، ولمّا تأكّد أنْ لا استجابة لطلبه، ترجّاه أن يقترح عليه بعض الأسماء بدله. نحن لا ننفي أن هناك عديدا من مثقفينا تبوّؤوا مناصب سياسية وقيادية سامية،وبقوا مثقفين يعتزّون بمكانتهم الثقافية،ولم ينقطعوا عن إنتاج المعرفة،ورفْع المستوى الفكري والحضاري لأمتهم،ولا يزالون منارات للإشعاع الفكري والثقافي سواء في بلدهم، أو خارجه.. إن الصراع بين الثقافي والإداري السياسي يظهر بشكل واضحٍ في المستوى المحلّي أين يكون الإداري السياسي يجهل الثقافة ومكوّناتها، أو يعرف غير الجانب المهرجاناتي والفلكلوري منها، أو لديه خلفية جاء بها على أن كل ما له علاقة بالكتاب،أو الندوات الفكرية، أو الملتقيات العلمية،أو لديه خلفية فكرية على أن كل الأعمال الفكرية والإصدارات باللغة العربية تدخل في باب التخلف، وأصحابها خصومً للحداثة والعصرنة، أو ما شابه ذلك لا تدخل ضمن حركية التنمية، أو يكون قد نمّ إليه( من النميمة ) أحدُ الوصوليين، وقد يكون ممّن يُحسبون على الثقافة منْ أنّ الرأي العام المحلّي لا يهتمّ بهذه الأنشطة النخبوية، عليكم أن تتوجّهوا إلى ما يهمّ المواطن العادي على غرار ما صار ينادي به الإعلام أيامنا هذه الإعلام الجواري الذي يخاطب المستمع، والمستمعة العادية في البيت، والسوق، والحقل، والطريق،و… إن هذا التجاهل المتعمّد للفعل الثقافي محليا ونحن هنا لا نعمّم ..أدّى بالبعض ممّن كان في إمكانهم من هؤلاء المسؤولين تقديم الكثير للفعل الثقافي، بحضورهم، وتشجيعهم لكل مبادرة في هذا المجال؛ إلى اعتبار إصدار الكتب إثمًا فادحًا، وأشدّ فداحة منه إقامة الندوات الفكرية والملتقيات العلمية،ويعلنون صراحة في كل مناسبة: إننا لا نقدم مال الدولة لهؤلاء، وكأن هؤلاء المثقفين ارتكبوا جُنحة بأعمالهم هذه.. المثقف فرضًا هو الإنسان المفكر،هو طليعة المجتمع فكرياً واجتماعياً،هو الذي يثير الأسئلة، ويتبنى قضايا المجتمع وهمومه. لا يكون (انتهازياً).. يقف مع هذه الجهة أو تلك، أو يبدّل الدور بين عشية وضحاها، أو نفعيا ينحاز للسلطة،أيّ سلطة ليس بالضرورة السلطة السياسية، فقد يكون التحيّز للجهوية، للأحزاب ،أو لرجال المال والنفوذ، أو لشخصية ما، أو لاتجاه فكري ما ..وهو ما نشاهده، ونعايشه ميدانيا من المحسوبين على الثقافة في هذا البلد، سيّما محلّيّا.