كانت الدهشة عند الإنسان الأول هي السمة ورد الفعل الطبيعي أمام كل الظواهر الطبيعية القاسية والحيوانات المفترسة التي تحيطه، فيسرع كي يقدم القرابين بذبح الذبائح. إذا ما عاد الهدوء, تأمل حاله وأعاد ترتيب أفكاره ووصف ما كان بطريقة يتقبلها عقله. فكانت الخطوة الأولى للحكاية الخرافية والأساطير. ما تلبث أن يتناقلها الأفراد بل والأجيال جيلاً بعد جيل, وغالباً ما يضيف كل منهم من خياله إضافة جديدة. ارتبط الكثير من الشعر الجاهلي بأحداثهم الهامة, مثل قصيدة «مهلهلية» ل«مهلهل بن ربيعة»، كذا النظر إلى المعلقات.. وقد غلب عليها القصائد القصصية, بينما لو كانت كتبت شعراً ملحمياً لأنجزوا أهم الملاحم. واهتم العرب بالأيام فيما بعد, كما فعل «ابن الأثير» الذي جمع حوالي السبعين يوماً, و«الميداني» جمع مائة وثلاثين يوماً, وهكذا فعل «الأصفهاني» وغيره. المهم هنا الإشارة إلى أنه لم تصلنا قصص عن العرب في الجاهلية, لا يعني عدم وجود تلك القصص, فقد تأكد أن الشعر أيضاً في الفترة الأولى من الجاهلية لم يصلنا أيضاً. خصوصاً أن الأيام كانت من أغزر ينابيع القصص الشعبي والقومي والبطولي, حتى عصر التدوين فدونت. وربما سر غلبة القصة الشعرية أو القصيدة القصصية هو افتتان العرب بالشعر قبل غيره من الفنون. ثم كانت الأمثال والحكم في الأدب الجاهلي وكلها تحمل في طياتها قصصاً عديدة, ومنها قصة «امرئ القيس».. «يوم دارة جلجل», وقصة «عمرو بن كلثوم».. «مع الملك عمرو بن هند», وغيرها. ثم كانت القصة في صدر الإسلام وما بعده, وهي انعكاس للقصص القرآني, ثم الفتح الإسلامي الذي أكسب النثر العربي أفقاً جديداً. ومن أشهر القصاصين الصحابي «تميم بن أوس». ذكر «المسعودي» أن الخليفة «معاوية بن أبي سفيان» كان يحرص على سماع القصاصين. أغلب تلك القصص مرتبط بالبيئة العربية وبأخلاق العرب وعاداتهم.. فأخبار «عبيد» حافلة بتلك القصص. كما يمكن القول بأن عمر بن أبي ربيعة اصطنع أسلوباً قصصياً في مجال العاطفة وتصوير الواقع. ولا يمكن إغفال القصص الشعرية مثل قصة الغزل العذري التي كانت تروى شعراً مثل «جميل وبثينة», و«كثير وعزة» وغيرها. لما اتسعت الدولة الإسلامية أيام العباسيين, كانت ألف ليلة وليلة, كليلة ودمنة, ولنا وقفة مع الأخيرة. كما لا يمكن إغفال القص في فن المقامات, بحيث تناولت موضوعات أقرب إلى القص الحديث المتنوع مثل: الطعن في الأدباء, الهزل والإضحاك, المدح, الوعظ, المقدرة اللغوية, وغيرها. وإن بدت متميزة أكثر في رسم الشخصيات. ها هو الحوار يبدو من ملامح القصائد القصية على يد شعراء كبار مثل «أبي نواس» وغيره ممن شاركوا في التجديد والإضافة إلى الشعر العربي عموماً. يجيء الآن السؤال حول الحكايات الطويلة, وهل وجد منه ما يجعلنا نشير إلى هذا الجنس الأدبي أو الشكل القصصي المعروف الآن باسم «الرواية»؟ هناك ثلاث قصص طويلة لا يمكن إغفالها: رسالة الغفران, رسالة التوابع والزوابع, رسالة حي بن يقظان. الأولى لأبي العلاء المعري, وقد كتبها رداً على رسالة أحد معاصريه من الكتاب «علي بن منصور الحلبي» المعروف بابن القارح. والرسالة تعتبر قمة تطور الأدب القصصي عند العرب وهو ما أكدته د. بنت الشاطئ في دراستها المهمة حولها. ورسالة «التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي, يشير إلى أن الفن القصصي لم يكن في الشرق العربي فقط, إنما امتد حيث بلاد الأندلس. - ويبقى الحيوان مشاركاً فاعلاً وفعالاً في أغلب تلك القصص والنوادر والحكايات العربية، ولعل من أشهرها «كليلة ودمنة» و«حمار جحا».. ونعني هنا «جحا العربي» (الذي يتنكر البعض لوجوده). وكذا قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل, التي تحمل آراء وفلسفة الكاتب في الحياة. أكثر ما تتميز به أن أسلوبها جزل وسلس بالإضافة إلى ما تتضمنه من آراء وأفكار عميقة وربما فلسفية أيضاً. لقد نالت تلك القصة ما تستحقه من اهتمام حتى يومنا هذا. تتميز قصص الحيوانات (عموماً) بأنها تتضمن الأمثال والحكم والمغامرات، ومنها ما يتضمن الأحداث العجيبة، حيث صراع الكائنات مع الصواعق والبراكين والأمطار الغزيرة والزلازل، وكل القوى الخارقة للطبيعة. قدمها الكتّاب والشعراء من أجل أن يصبح الحيوان رمزاً عن قيمة معينة. فالثعلب مثلاً رمز للدهاء والمكر، منذ أن كتب «ريناز» من بلاد الإغريق مجموعته «الثعلب ريناز». وقد انتقل هذا التناول الحكائي إلى أوروبا. ومازال الأدباء والشعراء يستخدمون الحيوان في كتاباتهم حتى اليوم، لكونها جذابة وشيقة للصغار والكبار. يرجع تاريخ تلك الحكايات القديمة مع بداية الحضارة الإغريقية, وقبل «إيسوب» (ربما في القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد). والطريف أن أغلب تلك الحكايات القديمة تنسب إلى «إيسوب». ثم ظهرت في بلاد الرومان (المجاورة). بعض تلك الحكايات عرف أصحابها مثل مجموعة الشاعر «بابيروس» وإن قيل إنه جمع حكايات «إيسوب» وحولها إلى صياغة شعرية. وكذلك عرفت حكايات «أفيانوس» الأديب الروماني في القرن الرابع الميلادي. الطريف أن يتحدث الباحثون عن «إيسوب» كما حدث مع غيره من المشاهير.. وتساءل البعض: هل «إيسوب» شخصية حقيقية؟».. مجموعة تعتقد أنه من عادة اليونانيين أن ينسبوا الأعمال المجهولة إلى مؤلف ما، إن لم يكن لها مؤلف. كما يرى فريق آخر أن «إيسوب» شخصية شبه أسطورية وأنه المؤلف الحقيقي لتلك الحكايات، بل ونسبوا إليه صفة الإصلاح والصلاح, حتى أنه أصلح من أحوال بعض الكهنة في عصره. أما الفريق الثالث (منهم هيرودوت) يؤكد أنه شخصية حقيقية غير أسطورية, بل كان عبداً في أثينا وقد أعتقه سيده. كما لاحظ البعض وأكد أنه شخصية حقيقية, وذكره أعلام الإغريق في كتاباتهم (أفلاطون أرسطو أرستوفان أكسينوفان). حكاية «إيسوب»: «الحمار في جلد الأسد» «ارتدى الحمار يوماً جلد الأسد وراح يرعب الوحوش كلها, لكنه التقى بالثعلب وأراد أن يخيفه مثل بقية الحيوانات, فقال له الثعلب: «صدقني كدت أنا نفسي أخاف منك لولا أنني سمعت نهيقك!» وهو ما يعني أن الإنسان لا يكون إلا نفسه، مهما حاول الادعاء والافتعال. تعتبر حكايات «كليلة ودمنة» من أشهر الحكايات التي انتشرت في العالم كله. كتب بعض منها الهندي «بيدبا»، ولهذه الحكايات حكاية! حدث أن وقف «بيدبا» ينصح الملك «دبشليم» الظالم، فسجنه الحاكم، لكنه أفرج عنه بعد فترة، ثم طلب منه أن يكتب كتاباً لينصح فيه الناس والحكام.. فكتب بعض الحكايات على لسان الحيوانات، وشاعت بين الناس، وترجمت إلى الفارسية (إيران). فلما كان القرن الثاني الهجري، ترجمها العربي «ابن المقفع»، وزاد عليها كثيراً، كما أنه أضاف ملامح في حكاياته الجديدة، لم تكن في الحكايات الهندية، منها أن أكثر من نصف الحكايات لا توجد في الحكايات الهندية والفارسية، أعاد صياغة الحكايات بالنثر فقط دون الشاعرية الموجودة في الحكايات الأخرى.. وغير ذلك كثير. وإن اشتركوا جميعاً في صفة الإطناب في السرد والوصف. حكاية «الثعلب والطبل» «زعموا أن ثعلباً أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة, وكلما هبت الريح على أغصان تلك الشجرة حرّكتها, فضربت الطبل, فسُمع له صوتٌ عظيم باهر. فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً, فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم, فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أعلاها صوتاً وأعظمها جثة». كما نال «حمار» جحا قدراً كبيراً من الحب والاهتمام بل المحاكاة عند بعض الأدباء العرب المحدثين، مثل «حمار الحكيم» لتوفيق الحكيم. فيما نالت شخصية «جحا» حب الشعوب, وليس في العربية فقط. وتعددت تلك الشخصية في أكثر من شعب, خصوصاً شعوب منطقة الشرق العربي. ففي البدء تفاعلت شعوب المنطقة العربية مع الشخصية بحيوية لافتة, وتألقت أخيلتهم بالنوادر والطرائف. وإن أشارت الكتب التراثية إلى حقيقة تلك الشخصية وأنها واقعية، اسمه «دجين أبي الغصن بن ثابت الفزاري البصري», يحتمل أنه عاش خلال الفترة من 60 هجرية حتى 160 هجرية. أجمعت الدراسات على أن تلك الشخصية ذات دلالات طريفة, وقد أضاف إليها جموع الناس من مخيلتهم الكثير.. جيلاً بعد جيل, بل ومن منطقة إلى أخرى. وأصبح «جحا» معبراً عن هموم وأحلام الناس, فضلاً عن كونه وسيلة للنقد الذاتي, ووسيلة من وسائل الترويح الشعبي في السمر بين الشباب والكبار.. وهو ما أعطى للحمار أهمية خاصة، لا تقل على أهمية «جحا»، نظراً لما يقال عن الحمار بأنه من أغبى الحيوانات، بينما مع «جحا» يبدو صبوراً وقادراً على الحوار واتخاذ القرارات الصعبة، وفاعلاً في النهاية. تعددت النوادر والمواقف والأحوال التي عاشها جحا وحماره, بحيث أصبحت الشخصية مجموعة من الأزمات والحلول الحياتية اليومية لأفراد الشعب العاديين. كثيرة هي المواقع التي ارتادها: الحانات, الأسواق, الدور, الحقول, وغيرها. وفي كل مكان تكون معه المفارقات الطريفة والحلول الأطرف.. من الهزل إلى المأساة, ومن الفكاهة إلى الحكمة.