توقف الفن الاسلامي والعربي منذ قرون بسبب الاستعمار والتخلف الذي تركه وراءه وكانت التقاليد الفنية مدفونة تحت طيات النسيان والاهمال , وكان بول كلي اسبق من الفنانين العرب للاستفادة من هذه التجربة التي تمتد جذورها الى عمق التاريخ البشري, وكانت مذكراته التي كتبها بعد زيارته الى شمال افريقيا تكشف لنا مدى ارتباطه الوثيق بحضارة وسحر الشرق وقصص الف ليلة وليلة.. وقد كتب احد النقاد وهو بيزومب قائلا:(في كل مرة يشعر فيها الغرب بالفراغ يتجه الى الشرق ). بول كلي يعتبر احد رواد الفن الحديث الاوربي وهو فنان سويسري الاصل ولد سنة 1879 في قرية قرب مدينة برن في سويسرا ومات سنة 1940. وهو اكثر الفنانين تميزا وسماتا للعقل والحساسية, كما اكثرهم تفردا وتنوعا, فهو يملك فن غريزي وخيالي لا يمت بصلة الى ماهو ضاحك او ساخر او فارغ , انه عالم السحر والفكر والفنتزة . في 3/4/1914 نزل بول كلي في ارض الفينيقيين تونس الخظراء وكان معه رفيقين من الفنانين هما ماكة وموالية وجاء في مذكراته : (لقد وصلنا من شاطئ قريبا من العرب الاوائل وهناك قابلتنا الشمس الساطعة ذات القوة العاتمة, وكان الجو الصافي الالوان يثير في النفس اجمل الوعود .. ) ويقول الناقد والكاتب غروهمان عن كلي: ( لقد كانت زيارة بول كلي الى تونس نتيجة رغبة قديمة تحدوه الى زيارة مدن آسيا الصغرى والاطلاع على الحضارة الاسلامية. كان كلي يشعر انه في موطنه فلم يكن يحتاج الى كثير من الوقت لدراسة هذه البلاد ) ثم يتسائل غروهمان..( اكان ثمة أواصر قربى ودم تربط كلي بالشرق؟ ) وكانت زيارة كلي الى الدول العربية اشبه شيء بالقصص إلخيالية فقد كان مبهورا ومسحورا وشعر بانه قد عثر على مبتغاه و انه قد وجد نفسه هنا.. فيقول: ( .... ومع ذلك فقد كانت جد واضحة انها قصة ليلة وليلة انها ليلة تقبع في اعماقي الى الابد... ) ويقول بونته: ( لم يذهب بول الى تونس ومصر بحثا عن صيغة جمالية او رومانتية فلقد مضى عهد ذلك منذ ديلاكروا بل ذهب يبحث عن نفسه. ) وقد وجد كلي بأن الفن الاسلامي قادر على التنوع في الاساليب موزعة بين الحقيقة والخيال بين التجريد والرمز. فكان يبحث عن الماهيات , عن ماوراء الاشياء وانه لن يصل الى ذلك مالم يقم بتعرية الشكل او احالته الى خطوط وسطوح ونقاط فيقول: ( ان فن الرسم هو فن تعرية ).. وقد اثرت الاجواء الروحية في تونس على كلي , فكانت هذه المنطقة ولا زالت تعج بالفرق الصوفية والتي من مبادئها التقشف في العيش من ملبس ومأكل وذلك للوصول الى ساحة الروح العليا التي تمثل الطريق الى الكمال والجمال . وكان كلي وزميليه - ماكة و مواليه- يتجولون في الاحياء القديمة من مدينة القيروان ويرسمون الازقة والمشربيات والابواب والاسواق و الناس بملابسهم الفضفاضة المزركشة بانواع الزخارف الجميلة... ويعلق كلي على ذلك ويقول: ( سأتوقف عن التصوير الآن, لقد نفذت هذه الاشياء الى اعماق روحي بكل وداعة... ان الالوان تتهافت علي, ولم يعد لي من حاجة للبحث عنها و ستبقى في اعماقي الى الابد . هذا هو معنى هذه اللحظات المباركة . انا واللون لا نشكل الا واحدا. انني مصور).. ويعترف كلي بصراحة ان هذه التقاليد الفنية و المعمارية والفكرية الاسلامية التي عاشها هنا في تونس جعلت منه مصورا وان الالوان الشرقية دخلت في اعماق نفسه الى الابد وشعر ان النفس مكانها الاصلي هو الشرق لا غيره.. وفي يوم من الايام حضر بول كلي و زميليه احد الاعراس في القيروان فلم يستطع امتلاك نفسه من شدة السرور والانبهار والاعجاب بتلك التقاليد التي لم يألفها في الغرب على اطلاق . فيقول في مذكراته: ( ان هذا العرس هو صورة خالصة من الف ليلة وليلة , اي شذى' واي نسيم تمتزج فيه نشوة الوعي والوضوح في وقت معا. ) لم يكن كلي فنانا عاديا بل كان استاذا و مفكرا ومبدعا و قد نهج منهج الفن الاوربي بالتقنية والتجديد والشرقي بالفنتزة والشكل والروح او ما يعبر عنه بعض النقاد العرب بانه منهج الصوفية - مثل الاستاذ والدكتور عفيف بهنسي -... وقد وصف بول الفنان بانه يسلك مسلك التخيل الحر وان المحتوى عنده ليس ثانويا بالنسبة لأي شيء آخر. ويذكر هربرت ريد في كتابه - حاضر الفن - ان عالم بول كلي عالم سحري, عالم فكري ,انه في رأيي عالم مختلف عن اي عالم تصورته مخيلة لاتينية, عالم اشباح وجن, اقزام رياضية وعفاريت, موسيقى, زهور جنية, وحوش خرافية.... ) في سنة 1928 زار بول كلي مصر وعمل فيها دراسات فنية كثيرة . وقد كتب كلي عن تجربته في مصر في مجلة الباوهاوس تحت عنوان - تجارب دقيقة في مجال الفن - حيث تحدث عن الضوء والالوان والاحياء القديمة واثر ذلك على اعماله الفنية . وكتب غروهمان عن هذه الزيارة :( ان هذه الزيارة سجلت بصورة حاسمة نضج كلي , هذا النضج الذي رافقه حتى موته..) لقد حاول كلي الاستفادة من الخط العربي واكتشف فيه جمالية شكلية فاتنة فقد اخذه ووظفه في اللوحة كعنصر تشكيلي وظهر ذلك في عدد كبير من لوحاته مثل -عالم هاربور - وهي اول محاولة لفنان اوربي لتطويع الحرف العربي وادخاله في اللوح باسلوب حديث سبق فيه الفنانين العرب, فجاءت لغة مشتركة بين تقنية ورؤيا اوربية حديثة وعناصر فنية جمالية شرقية ذات ابعاد روحية, وتمثل ذلك في احد لوحاته التي رسمها سنة 1938, وفيها نجد احرفاً واشكالاً عربية نفذت بطريقة حديثة رائعة اخذت طابعاً تجريدياً زخرفياً وقد رسمت على خلفية مسطحة وكأنها عائمة في الفضاء. هذه المعالجة والاسلوب تأثر به الفنان الاسباني المعروف اخوان ميرو وعدد آخر من الفنانين الاوربيين مثل بومايستر في لوحته - آثار ذكرى - 1944 . والفنان توملان في لوحته - العدد 20/1914 وغيرهم ... وهناك لوحة ملفتة للنظر لكلي - منظر قرية افريقية 1929 - وقد رسمها بطريق بدائية حيث تظهر ملامح بساط واشكال وزخارف وملامح مأذنة, وقد لعب الخط فيها دورا رئيسيا.. وتذكرناهذه برسوم الانسان البدائي خاصة. الافريقي . ويذكر الدكتور عفيف بهنسي بانه في بعض موضوعاته تظهر بعض الاشارات الاثرية قادمة من الحضارة البابلية والآشورية تذكرنا بالرقم البابلي. وربما يقصد هنا بالكتابة المسمارية. وفي هذا الصدد يقول غروهمان: ( عندما نتصفح انتاجات كلي نقف مدهوشين ونحن نكتشف ارتباط بعض المعطيات الاثرية). وبذلك فقد رسم كلي اسلوبا ومدرسة جديدة قائمة على دعائم وركائز شرقية , وحيث لفت نظر وانتباه الفنانين العرب الى الخزين الحضاري والقيم الفنية والجمالية التي تملكها حضارتهم . و اتذكر يوماً من الايام تحدث لنا الفنان التشكيلي العراقي اسماعيل الشيخلي 1924 - بانه التقى بيكاسو في احد شوارع باريس وعرفه على نفسه, فتعجب بيكاسو وثار قائلا: انت من الشرق وتأتي الى هنا لدراسة الفن؟ ...وهي اشارة الى ان الفنانين الاوربيين الحديثين هم الآن في توجه لدراسة الفن الشرقي والافريقي. وكما ذكرنا سابقا قول بيزومب: ( في كل مرة يشعر فيها الغرب بالفراغ يتجه الى الشرق ) . ويقترب فن كلي من رسوم الاطفال من حيث بساطتها وعدم اهتمامها بالتفاصيل ومن حيث جمالها الفطري ولكنه يختلف عنها كونه يتمتع بالذكاء والثقافة وان اعماله موجهة الى جمهور مثقف قد تأثر بافكاره.. كما يختلف عن فن لانسان البدائي الذي يرتبط بالغيبيات والسحر والدين , بينما كلي بعيد عن هذه المعتقدات , بل هو واقعي .. ان كلي يذهب في اعماله الى عالم العقل الباطني, عالم الحقيقة الدفينة المخزونة, فهو يريد ان يكشفها ويبرزها الى عالم المدركات الحسية معتمدا على وعيه وخزينه الثقافي الذي يتمتع به وذلك العالم الميتافيزيقي الذي يعتقد به.... عرف كلي على جماعة الفارس الازرق خاصة الفنان كاندنسكي حيث عرض معهم سنة 1912 . كما قام بعدة معارض ان اولها سنة 1910 في ميونخ , ثم في برلين سنة 1923, وفي باريس سنة 1926 , وفي نيويورك سنة 1930 . وعين استاذا في اكاديمية الفنون الجميلة في مدينة دسلدورف في المانيا عام 1931 . وكذلك عرض مع السرياليين التجريديين. وتعكس اعمل كلي التي نفذها بالوان المائيات والزيت وقلم الرصاص وغيرها من المود الاخرى تعكس ذلك الفكر الخيالي الواسع والالهام و البراعة والابداع في الاداء....