الإطاحه بقاتل شقيقه في تعز    صافرات الإنذار تدوي في ''إيلات'' .. جيش الاحتلال يعلن تعرضه لهجوم من البحر الأحمر    خبير آثار: ثور يمني يباع في لندن مطلع الشهر القادم    وفاة ضابط في الجيش الوطني خلال استعداده لأداء صلاة الظهر    محلات الصرافة في صنعاء تفاجئ المواطنين بقرار صادم بشأن الحوالات .. عقب قرارات البنك المركزي في عدن    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    جماعة الحوثي تفرض اشتراط واحد لنقل المقرات الرئيسية للبنوك إلى عدن !    خمسة ابراج لديهم الحظ الاروع خلال الأيام القادمة ماليا واجتماعيا    حلم اللقب يتواصل: أنس جابر تُحجز مكانها في ربع نهائي رولان غاروس    قرارات البنك المركزي لإجبار الحوثي على السماح بتصدير النفط    تعرف على قائمة قادة منتخب المانيا في يورو 2024    7000 ريال فقط مهر العروس في قرية يمنية: خطوة نحو تيسير الزواج أم تحدي للتقاليد؟    أرواح بريئة تُزهق.. القتلة في قبضة الأمن بشبوة وتعز وعدن    فيديو صادم يهز اليمن.. تعذيب 7 شباب يمنيين من قبل الجيش العماني بطريقة وحشية ورميهم في الصحراء    فضيحة: شركات أمريكية وإسرائيلية تعمل بدعم حوثي في مناطق الصراع اليمنية!    انتقالي حضرموت يرفض استقدام قوات أخرى لا تخضع لسيطرة النخبة    صحفي يكشف المستور: كيف حول الحوثيون الاقتصاد اليمني إلى لعبة في أيديهم؟    إنجاز عالمي تاريخي يمني : شاب يفوز ببطولة في السويد    المجلس الانتقالي يبذل جهود مكثفة لرفع المعاناة عن شعب الجنوب    عن ماهي الدولة وإستعادة الدولة الجنوبية    الوضع متوتر وتوقعات بثورة غضب ...مليشيا الحوثي تقتحم قرى في البيضاء وتختطف زعيم قبلي    مسلحو الحوثي يقتحمون مرفقًا حكوميًا في إب ويختطفون موظفًا    الدبابات الغربية تتحول إلى "دمى حديدية" بحديقة النصر الروسية    حرب وشيكة في الجوف..استنفار قبلي ينذر بانفجار الوضع عسكرياً ضد الحوثيين    حرب غزة.. المالديف تحظر دخول الإسرائيليين أراضيها    عن الشباب وأهمية النموذج الحسن    - الصحفي السقلدي يكشف عن قرارات التعيين والغائها لمناصب في عدن حسب المزاج واستغرب ان القرارات تصدر من جهة وتلغى من جهة اخرى    بحضور نائب الوزير افتتاح الدورة التدريبية لتدريب المدربين حول المخاطر والمشاركة المجتمعية ومرض الكوليرا    شرح كيف يتم افشال المخطط    بدء دورة تدريبية في مجال التربية الحيوانية بمنطقة بور    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و439 منذ 7 أكتوبر    "أوبك+" تتفق على تمديد خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط    ولي العهد الكويتي الجديد يؤدي اليمين الدستورية    رصد تدين أوامر الإعدام الحوثية وتطالب الأمم المتحدة بالتدخل لإيقاف المحاكمات الجماعية    الملايين بالعملة الصعبة دخل القنصليات يلتهمها أحمد بن مبارك لأربع سنوات ماضية    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا    بالصور: اهتمام دبلوماسي بمنتخب السيدات السعودي في إسبانيا    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    مصرف الراجحي يوقف تحويلاته عبر ستة بنوك تجارية يمنية بتوجيهات من البنك المركزي في عدن    تاجرين من كبار الفاسدين اليمنيين يسيطران على كهرباء عدن    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    الوجه الأسود للعولمة    الطوفان يسطر مواقف الشرف    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بن حنبل
محنة الرأي في تاريخ المفكرين
نشر في الجمهورية يوم 31 - 12 - 2011

ولد احمد بن حنبل في بغداد عام 164ه من أخل بصري ، وهو من بيت عريق إذ كان أبوه وجده من ولاة الدولة الأموية فأبوه كان جندياً ،وجده كان والياً على سرخس ، وكان زاهداً ورعاً تقياً منذ يفاعته.
نشأ في بغداد وتعلم فيها ، وذلك حين كانت زاخرة بأنواع المعارف والفنون والفلسفات ، فكان لهذا التنوع أثره في نفسه ، فحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة واشتغل في الدواوين ولما يبلغ الخامسة عشرة .
كان إمام المحدثين، صنف كتابه المسند وجمع فيه من الحديث مالايتفق لغيره ، وقيل : إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي، رضي الله تعالى عنهما- وخواصه، ولم يزل مصاحبه إلى أن أرتحل الشافعي إلى مصر وقال في حقه : خرجت من بغداد وماخلفت بها أتقى ولا أفقه من أبن حنبل (1).
عاصر كثيراً من خلفاء بني العباس ومنهم المأمون الذي حمله على القول بخلق القرآن كما حمل غيره من الفقهاء ، وهي مسألة ذات جذور فلسفية ومنطقية أخذت الكثير من الوقت، وماكان أغناهم عن الخوض في مثل هذه المسائل والتي يستند كل فريق على دليل أو أدلة من القرآن الكريم نفسه ، وأرى أن ذلك ليس إلا من قبيل الترف الفكري والفلسفي الذي اتسم به المجتمع العربي في بغداد وما جاورها آنذاك ، وتشير بعض المصادر إلى أن إرهاصات هذه الفتنة كانت قد بدأت تلوح في عهد هارون الرشيد رحمه الله إلا أن هارون أغلق باب هذه المسألة وأوصده أمام المتكلمين حتى لاتحدث فتنة ، وبقيت هذه المسألة كجمر تحت الرماد حتى جاء عصر المأمون فأحاط به المعتزلة وأحيوها من جديد ، وبدأ الخليفة نفسه فيما بعد يتبنى القول بهذه المسألة خاصة بعد أن أقنعة أستاذة أبو الهذيل العلاق بهذا القول ، وقبل أن يتبناها المأمون كعقيدة سمية للدولة كان قد عقد المناطرات وحلقات النقاش بين العلماء القائلين بالخلق وبين غيرهم، ويبدو أن حجج علماء المعتزلة كانت أظهر وأقوى لاتسامهم بنوع من العقلانية والنزعة الفلسفية أمام خصومهم الذين لايناورون من هذا المحور ، فغلبوهم في مجالس المناظرات ومن ثم كان ميل المأمون ودعمه وتبنيه لهذا الجانب خاصة في فترته النهائية ، إذا ألزم القضاة والعلماء العاملين في الدولة بهذه العقيدة أو بهذا المذهب وقد ذكرت المصادر بعضاً من رسائله التي كان يرسلها لولاته في الأمصار مثل رسالة له إلى عاملة في بغداد يقول له فيها:فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من رعيته بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس مسألتهم عن علمهم في القرآن ، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره ، والامتناع عن توقيعها عنده واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم سوى الأمر لهم بمثل ذلك ، ثم أشرف عليهم ، وتفقد آثارهم ، حتى لاتنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد. (2)
ونلاحظ في هذه الرسالة مدى التعسف والتهديد للعاملين في الدولة ممن لم يعتنقوا هذا المذهب من فصل في وظائفهم ، وعدم قبول شهادتهم إن هم شهدوا ، إلى غير ذلك .
وقد سارع إسحاق بن إبراهيم إلى تنفيذ رغبته فأحضر المحدثين والفقهاء والمفتين وفيهم أحمد بن حنبل وأنذرهم بالعقوبة الصارمة والعذاب العتيد إن لم يقروا بما يطلب منهم وينطقوا بما سئلوا أن ينطقوا به، ويحكموا بالحكم الذي ارتآه المأمون من غير تردد أو مراجعة ، فنطقوا جميعاً بما طلب منهم ، وأعلنوا اعتناق ذلك المذهب ، ولكن أربعة ربط الله على قلوبهم واطمأنوا إلى حكم الله وآثروا الباقية على الفانية ، لم يرضوا بالدنية فيما اعتقدوا فأصروا على موقفهم إصراراً جزئياً وهم أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح والقواريري وسجاده فشدوا في الوثائق وكبلوا بالحديد، وباتوا ليلتهم مصفدين في الأغلال ، فلما كان الغد أجاب سجاده إسحاق فيما يدعوه إليه فخلوا عنه وفكوا قيوده ، واستمر الباقون على حالهم وفي اليوم التالي أعيد السؤال عليهم ، وطلب الجواب إليهم ، فخارت نفس القواريري وأجابهم إلى ماطلبوا ففكوا قيوده وبقي اثنان الله معهما، فسبقا في الحديد ليلتقيا بالمأمون في طرسوس ، وقد استشهد ابن نوح في الطريق، والذين أجابوا طلب منهم أن يواجهوا المأمون احراراً وقدموا كفلاء بأنفسهم ليوافوه بطرسوس كأخويهم ، وبينما هم في الطريق نعى الناعون المأمون ولكنه عفا الله عنه لم يودع هذه الدنيا من غير أن يوصي أخاه المعتصم بالاستمساك بمذهبه في القرآن ودعوة الناس إليه بقوة السلطان ... (3).
وقد أوصى المأمون إلى أخيه المعتصم من بعده بأن يحتذي طريقه ويسلك منهجه في هذه المسألة وجاء في تلك الوصية: : هذا ماأشهد عليه عبدالله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين بحضرة من حضره ، أشهدهم جميعاً على نفسه أنه يشهد هو ومن حضره أن الله عز وجل وحده ولا شريك له في ملكه ولا مدبر لأمر غيره ، وأنه خالق وما سواه مخلوق ، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئاً له مثل كل شيء ، ولا شيء مثله ، تبارك وتعالى وجاء في سطر الوصية : يا أبا إسحاق ادن مني واتعظ بما ترى ، وخذ بسيرة أخيك في خلق القرآن ... (4) .
وفعلاً بدا المعتصم هنا بعد هذه الوصية معتزلياً أكثر المعتزلة أنفسهم فتوسعت دائرة الاعتزال ، وتوسعت معها دائرة القتل والسجن والنفي والتعذيب .. إلخ وتشرد كثير من العلماء ممن لم يقولوا بخلق القرآن خارج بلدهم ، وسجن آخرون وعذبوا وألهبتهم سياط الجلادين، وأوحشتهم زنازين السجون وتم حبك المكائد لكثير منهم ، واتهامهم بتهم شتى .
من بينها الاتهام في عقيدتهم ، ومن تعاظم المصيبة أيضاً على العلماء والمفكرين في عهد المعتصم هو المعتصم نفسه في حد ذاته كشخصية عسكرية وليس شخصية علمية أو فكرية كما كان المأمون ، ومعروف طبيعة العقلية العسكرية في التعامل مع الآخر عند الاختلاف في الرأي ، إذ تكون في الغالب بمنأى عن الوسطية والاعتدال والإنصاف ،بل إنها تفقد ذلك في سلمها بله عند الحرب واشتداد الأزمات والتباين الحاد في وجهات النظر ، ولذا فقد كانت المحنة أشد والفتنة أكبر والمصاب جلل ، زد على ذلك استحواذ احمد بن أبي داود كواحد من رؤس المعتزلة على المعتصم وقراراته ، وقبله كذلك وصية المأمون الذي أجج سعير هذا التباين وأشعل فتيله بصرف النظر عما إذا كان محقاً أو لم يكن.
وكما أسلفنا فإن المأمون قد توفي واحمد بن حنبل إليه في الطريق مقيداً ومكبلاً بالحديد ، فسيق احمد رحمه الله إلى بغداد وبدلاً من أن يستقبله بهو الخليفة كعالم ومحدث ، استقبلته زنازين السجون ، واستضافته ألسنة السياط اللاهبة حتى يغمى عليه، فينخس بالسيف لا يشعر من شدة الإغماء.
وأمر المعتصم فأحضروا احمد بن حنبل إلى مجلسه ، وقد احضروه وهو مكبل بأغلال من الحديد، وهو الكهل لايطيق حملها ولا السير بها ، ويجلسونه في هذه الحال في حضرة الخليفة ليناقش فقهاء السلطان فإذا أفحمهم وهزم حججهم أخذوه مثقلاً بأغلاله إلى السجن ، ويتكرر هذا اليوم بعد يوم .. فقد انتهى الأمر بأن أمر الخليفة آخر الأمر فجردوه من ثيابه وربطوه إلى كرسي وانهالوا عليه بالسياط ، حيث كان يجلس يناقش ، وكلما غاب عن الوعي من العذاب أفاقوه ، وسألوه إن كان قد عدل عن رأيه ،فيقول : لا فيعودون ، ولما كاد يموت في مجلس الخليفة ، أعادوه إلى أهله كتلة مهشمة من اللحم والدم(5).
وبعد عدته بهذا الحال مكث في بيته يعاني جروحه المندملة لايقوى على الوقوف أو السير،يعاني آلام الكبر السياط اللاهبة التي أسالت الدم من جسده لاتنقطع آلامها ولا تسكن أوجاعها،وقد زادت شهرته في هذا الأثناء بين الناس ، واشتهرت فكرته وكثر أتباعه ، وجاء عهد الواثق ، من بعده وسارت عليه نفس الأوامر والتوجيهات وقال له “لا تجمعن إليك احداً ، ولا تساكني في بلد أنا فيه ، فاقام الإمام احمد مختفياً لايخرج إلى صلاة ولا غيرها حتى مات الواثق ، وبذلك انقطع احمد رحمة الله ، عن التدريس والفتوى مدة تزيد عن خمس سنوات ، عاد بعدها إلى الدرس عزيزاً مكرماً وذلك في خلافة المتوكل الذي تبنى مذهب ابن حنبل وأقصى رؤوس المعتزلة ، وفعل بالمعتزلة قريباً مما فعل المعتزلة بالحنابلة سابقاً!!.
هذه فقط لمحة بسيطة وصورة مصغرة عن حياة عالم كبير ومحدث جليل عن حياة الاضطهاد والتعسف السلطوي المحموم الذي طلته ، كما طالت المئات بل والآلاف في ذلك العصر ، لأنهم رأوا عكس مارآه الحاكم وسقوا من مختلف الأقطار مقيدين ومصفدين بالأغلال ، مات منهم في السجون من مات وتشرد خارج البلاد من تشرد ، وكان الاختلاف في الرأي جريمة شنعاء عقابها إسالة الدماء وفصل الرؤوس عن الأجساد بحمأة السلطة وأنوية الحاكم الذي استخف قومه فأطاعوه واستهتر بأموالهم وحقوقهم ودمائهم وكأنهم قطعان غنم مسلوبي الإرادة وفاقدي الأهلية .
وممن تعرضوا لكثير من الأذى أيضاً سفي خلافة الواثق يوسف بن يحيى البوطي أن يقول بخلق القرآن وقال : لئن أدخلت على الواثق لأصدقنه ولأموتن في حديدي هذا حتى سيأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم وقد حمل من مصر إلى بغداد ومات في سجنها في حديدة عام 231(6).*
(1) وفيات الأعيان لابن خلكان 63/1.
(2) تاريخ الطبري
(3) ابن حنبل ، حياته وعصره ، محمد أبو زهرة ، 47.
(4) المصدر نفسه ، 47.
(5) المثقفون والسلطة في عالمنا العربي ( كتاب العربي 38 اكتوبر 99) احمد بهاء الدين 51.
(6) مسألة خلق القرآن عبدالفتاح أبو غدة 8.
* من الأهمية بمكان ونحن نتكلم عن احمد بن حنبل وفتنة خلق القرآن أن نسهب القول عن هذا المسألة ذات الجذور الفلسفية والفكرية ، والتي نشأت عليها هذه المسألة وأن نشير إلى براءة الفكر المعتزلي نفسه تجاه احمد بن حنبل إذ لا يتحمل الفكر المعتزلي كفكر وزر تلك الأعمال الإجرامية المشينة التي أتى بها الحاكم محاولاً محو حجة مناوئية ، ناسياً أن الفكر لايواجه إلا بالفكر، لابالحديد والنار.
ومواجهة الفكر بالعنف يزيده قوة وصلابة كما يزيد من شيوعه عند العامة ، وقد كان احمد بن حنبل رحمه الله ينشد الصمت والسكوت في هذه المسألة التي رأى فيها الشؤم والبوار ، والجميع في غنى عن ذلك فلقد كان متحوطاً دارئاً للشبهات كعالم جليل رأى في مسألة لم يناقشها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله ولم يتعرض لها الخلفاء الراشدون من بعده ، رأى في مناقشتها عبثاً لا طائل من ورائه وباب ذريعة لمشاكل أخر يجب سده وهو ماحصل بالفعل إلا أن الطرف الآخر فرض تلك المحنة التي ستبقى نقطة سوداء في تاريخه وخلق أزمة كبيرة من خلال الحبس والقتل والتنكيل بكثير من العلماء .
وحقيقة فللمعتزلة حججهم القوية وبراهينهم الصحيحة التي بنوا عليها اعتقادهم بخلق القرآن الكريم نفسه يقول المفكر الإسلامي محمد أبو زهرة إذا نظرنا من وجهة الحكم في القضية من حيث كون القرآن مخلوقاً أو غير مخلوق فإن القرآن وإن كان كلام الله مخلوق ، وهذا لايمنع أن صفة الكلام قديمة بقدم الله سبحانه وتعالى كما أن خلق الله سبحانه وتعالى بقدرته ، وقدرة الله قديمة وكونه خلق بهذه القدرة لم يستدع قدم الخلق فلذلك كون القرآن تكلم الله به وخاطب نبيه محمداً.. وبقول في موضع آخر: إن المعتزلة الذين تمرسوا بالرد على الذين هاجموا الآلام من قبل وجدوا كما في رسالة النصارى للجاحظ المعتزلي إن الكائدين للإسلام يرتضونه ويرحبون بمقاله الفقهاء والمحدثين الذين يروجونها عندها العامة لأنهم يتخذون من الحكم بأن كل كلام الله قديم سبيلاً لأن يقيموا الحجة على أن المسيح قديم وتكون تلك الحجة من الكتاب الكريم إذ فيه إن المسيح كلمة الله ، وكل كلام الله قديم ، فكلمة الله قديمة والمسيح إذا قديم .
ولا يستبعد في نظري أن تكون الفتنة مزروعة بأيد مسيحية لأن القول الذي تبناه النصوصيون آنذاك يخدم الفكرة المسيحية ويقوي حجتها على الإسلام وفي رسالة يوحنا الدمشقي إلى الجاحظ مايقوي كلامنا هذا وهي مذكورة في كتاب أبي زهرة .
وعموماً فقول المعتزلة بخلق القرآن قول صحيح ومنطقي ينم عن نظرة دقيقة وعميقة وتعكس حباً صادقاً للدين وفكراً ثاقباً يدافع عنه أمام الفكر الوافد بنفس السلاح .
فمن الحجج التي استند إليها المعتزلة في تقوية مايذهبون إليه هو تلك القياسات المنطقية على آي القرآن الكريم إذ إن معنى «إنا جعلناه قرآناً عربياً» أي خلقناه ،كما قال الله تعالى : «وجعل منها زوجها» أي وخلق منها زوجها وقال : وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ، فمعناه وخلقنا الليل لباساً ، وكذا قوله تعالى : «وجعلنا من الماء كل شيء حي» وكذا استدلوا أيضاً بقوله تعالى : «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» فقالوا إن اللوح محوط بالقرآن ولا يُحاط إلا بمخلوق ، وكذا قوله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فجعل له أولاً وأخراً ، وجعل له حداً فالحدية دليل الخلق إلخ وكون القرآن شيئاً فهو إذن مخلوق يندرج تحت ِأشياء الله الخلوقة(خالق كل شيء).
وأيضاً فإن ممايقوي رأي المعتزلة مافصله المفكر الإسلامي نيازي عز الدين في كتابه إنذار من السماء إذ يقول : استعمل القرآن الكريم كلمة الخلق لموضوع متكامل له هدف وغاية من الخلق لذلك نقول ويُعد قولنا هذا قاعدة عامة : ( لله في كل عملية خلق موضوع ومن كل عملية خلق هدف وغاية ،
فخلق الإنسان مثلاً موضوعه هو الإنسان والهدف منه هو معرفة من سيعبد الله حباً واختياراً ومن سيكفر به ظلماً واشراكاً »وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق» الأنعام 73.
«وخلق الجان من مارج من نار» الرحمن 15 »وخلقنا لهم من مثله ما يركبون» يس 42 «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» الذاريات 49 فكل ما قلناه عن موضوع الخلق ينطبق على كل هذه الآيات وعلى كل آيات القرآن التي تتكلم عن الخلق في حين أن كلمة جعل تأتي فقط لإضافة جديدة للمخلوق مثلاً «والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً»فالظل والظلال هي من الأشياء التي تتبع المخلوق.
«وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم الأنبياء» 31 فموضوع الخلق هنا هو الأرض والجبال من الأرض جعلها لخدمة الأرض لتكون رواسي كرواسي السفن لمنعها من الحركة والشمس مخلوقه لكن النور الذي فيها إضافة جديدة من الله أو جده لسبب آخر غير الخلق لذلك يقول «وجعلنا سراجاً وهاجاً» ولم يقل وخلقنا سراجاً وهاجاً
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فداود هو المخلوق والإضافة الجديدة هو جعله خليفة في الأرض.
«إنا جعلناه قرآناً عربياً » هنا بين الله لنا أن لغة القرآن الأساسية ولغة الله ليست العربية أو أي لغة أخرى نعرفها وإنما أضاف عليها صفة جديدة فجعلها العربية «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً» أ.ه.
ومن طريف الأمر في هذه المسألة في ذلك الوقت أن استجد منطق آخر منبثق عن سابقيه إذ ذهب أحد الفقهاء واسمه ابن البكاء الأكبر مذهباً آخر فقال القرآن (مجعول) ولعله أراد بهذا أن يقف موقفاً وسطاً بين الطرفين أو أنه أراد أن يتخلص بالكناية أو بالاستنباط من القول بخلق القرآن، فبنى استنباطه هذا من الآية الكريمة «إنا جعلناه قرآناً عربياً» ولكن إسحاق والي بغداد فطن له وأوقعه في شرك منطق المعادلة حين رد عليه قائلاً : المجعول مخلوق ، أليس كذلك ؟ فقال ابن البكاء : نعم ولم يكن بمقدوره الفرار من هذا القياس كما لم يكن بمقدوره القول صراحة بخلق القرآن مع أنه قد ذكر ذلك ضمناً وذكر أيضاً بأن القرآن محدث مستدلاً بقول تعالى «ما يأتيهم من ذكر من بهم محدث».
وقد أشرنا سابقاً أن القول بقدم القرآن يتفق كثيراً والمعتقد المسيحي بأن المسيح ابن الله إذ في هذا القول تأييد تام لفكرتهم وكانت اكثر حجية في نظرهم عندما جائت من القران الكريم « انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتة القاها إلى مريم وروح منة»النساء 171 ففي قدم الكلمة قدم عيسى عليه السلام والقدم من صفة الرب.
وفي هذا يقول صالح الورداني في كتابه مدافع الفقهاء:( تقوم فكرة خلق القرآن على أساس أن كلام الله سبحانه حيث وأنه أوجد بلغة العرب فمن ثم هو ليس قديماً وإنما اخترع لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفكرة قامت في الأساس للتفريق بين ذات الله سبحانه وبين كلامه وهو ما يرفضه الطرف الآخر بزعامة ابن حنبل ويصر على ان كلام الله قديم قدم ذاته ) مدافع الفقهاء 42.
ولا ننسى أن نشير أيضاً أن هذه الفتنة قد ظهرت أيام الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – وأفتى في ذلك برأيه حيث قال ( ما قام بالله غير مخلوق وما قام بالخلق مخلوق يريد ان كلام الله باعتبار قيامه بالله صفة له كباقي صفاته في القدم وأما في السنة التالين وأذهان الحفاظ والمصاحف من الأصوات والصور الذهنية والنقوش فمخلوق كخلق حامليها فاستقرت آراء أهل العلم والفهم على ذلك بعده) مسألة خلق القرآن عبدالفتاح أبو غده 7.
أما محمد بن إسماعيل البخاري المحدث الشهير رحمه الله فعندما سئل عن ذلك أجاب ( أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا) وهذا القول منسوب للبخاري عن محمد بن يحيى الذهلي شيخ نيسابور في عصره ، ويقال إنه تبنى القول الآخر وكتب في ذلك رداً على من زعم أن القرآن مخلوق ... إلخ وقد عزا التاج السبكي (أن موقف الذهلي هذا ونسبة القول إليه آت من حسده له) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 12/2.
وللإمام الشوكاني رحمه الله رأي وجيه هو ما استحسنه وأقف عنده في كتابه (إرشاد الفحول) إذ قال : (ومسألة الخلاف في كلام الله تعالى وإن طالت ذيولها وتفرق الناس فيها فرقاً وامتحن بها من امتحن من أهل العلم من ظن أنها من أعظم مسائل الدين ليس لها كبير فائدة بل هي من فضول العلم ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين عن التكلم فيها) ص11.
وفعلاً فهي كذلك خاصة مع أنه لا يترتب عليها أي فعل بهذا القول أو بالآخر.
ويرى بعض العلماء أن المقصود بقوله : وكلمته : إنما هو الأمر الكوني المباشر الذي يقول عنه الله تعالى في مواضيع شتى كن فيكون فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم.
والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم لا عجب أن تخلق عيسى عليه السلام من بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله “ وروح منه” أ. ه . هكذا قال سيد قطب في تفسيره وكذا الصابوني الظلال – 61/4 وصفوة التفاسير للصابوني 321/1.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.