جاء مصطلح الإسلام السياسي من خارج الحقل الإسلامي، وتحديداً من خصوم التيارات الإسلامية على المستوى العربي، واستخدمته بعض الدوائر الغربية في توصيف حركات المعارضة الاسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع أن المصطلح لا يحظى بالقبول الرسمي في الحركات الاسلامية لاعتقادها أنها تنطلق من تصورات شاملة لكافة جوانب الحياة ولا تقتصر على الشأن السياسي، فإن بعض الدوائر الخاصة بالحركات الإسلامية لا ترى مانعاً من وصفها بهذا المصطلح حين لا يكون القصد من إطلاقه التكفير الضمني أو التشهير الإعلامي، وعلى اعتبار أن العمل السياسي هو الصفة الغالبة والظاهرة لنشاط الحركات الإسلامية المعاصرة، وأن معظم المصطلحات ليست جامعة ولا مانعة. ومصطلح الإسلام السياسي عندما يُطلق اليوم فإن المقصود به الأحزاب والحركات الإسلامية التي خاضت غمار الحياة السياسية العصرية. وعندما يتحدد المصطلح في هذا الإطار فإن الحديث عن المضمون ينحصر حول حركات وتنظيمات محددة، تختلف مشاربها المذهبية لكنها تلتقي على قاعدة واحدة. فهناك تيارات إسلامية سياسية سنية وتيارات شيعية و هناك أيضا تيارات إسلامية صوفية سياسية- لعل أبرزها حزب الأمة السوداني بزعامة الصادق المهدي- وهناك تيارات إسلامية تجديدية حديثة تحاول أن تتجاوز الأطر المذهبية العقدية والفقهية، وحسب تصنيفي فإن أبرزها يتمثل في حزب المؤتمر الشعبي السوداني أيضاً بزعامة حسن الترابي رغم انبثاقها من جماعة الإخوان لكنها انشقت وتميزت بمنهجية مستقلة,. في تصوري إن التقسيم المذهبي والفكري لتيارات الإسلام السياسي لا يساعد على تحليل الظاهرة الإسلامية تحليلاً عملياً، وإن التحليل العملي يجب أن يرتكز على قاعدة تقسيم تيارات الإسلام السياسي إلى قسمين يمكن التمييز بينهما: القسم الأول: التيارات الإسلامية التي طورت أدبياتها الفكرية واستوعبت الثقافة السياسية المعاصرة وترسخ في مسالكها السياسية وخطاباتها الدعوية الإيمان أن المصدر الشرعي والطبيعي للشرعية السياسية هو شرعية الأغلبية الشعبية التي تنظمها الديمقراطية حتى لو أطلقت عليها اسما آخر من قاموسها الثقافي الخاص- الشورى- أو الديمقراطية الشوروية - فالمهم هو المضمون، وهذه الحركات تقبل الديمقراطية باعتبارها آليات وأدوات لتنظيم الصراع على السلطة وإدارتها، وترى أن هذه الآليات الديمقراطية، من مكتسبات نضال الفطرة البشرية في مكافحة الطغيان وأنها تجسد مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة والحرية ومنع الظلم والحيلولة دون تغول السلطة واحتكار الثروة فضلاً عن توفيرها للحريات التي تتيح ممارسة الدعوة والاحتساب على الفساد بمختلف أنواعه، من خلال مؤسسات المجتمع المدني وبواسطة القضاء المستقل والبرلمان والصحافة وأنواع الاحتجاجات الجماهيرية السلمية ونحو ذلك. و يعتقد الباحث أن جميع الحركات والأحزاب السياسية التي ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين تندرج في هذا السياق، كما تندرج فيه حركات إسلامية شيعية وصوفية مثل حزبي الحق والقوى الشعبية في اليمن وحركة الإصلاح المعارضة في إيران، وحزب الأمة في السودان وهناك دراسات بحثية تميز التيارات المنضوية في هذا القسم بتيارات الإسلام المدني الديمقراطي. القسم الثاني: تيارات إسلامية شديدة الارتباط بالموروث التقليدي، سواءً كانت سنية أو شيعية، وهي لا تؤمن بالعمل السياسي وفقاً لقوانينه وأدواته العصرية، وتعتقد أن السياسة الشرعية لابد أن تنبثق من التجربة التاريخية للمسلمين في إطار المذهب العقدي والفقهي الذي تؤمن به، وتخلط بين الإسلام وبين الاجتهادات البشرية التاريخية في تطبيقه وتعتقد أن الديمقراطية والدساتير والتعددية مبادئ كفرية نظراً لتبلورها في بلدان غير إسلامية وارتباطها بالعلمانية الكلية، ووفقاً لتطبيقات معينة في مجتمعات غير إسلامية، ومع ذلك تقبل الانخراط في العمل السياسي دون التسليم بشرعيته، تحت مبررات الضرورة ولكونه المجال الوحيد المتاح للنشاط الدعوي والفكري، ولعل أبرز نموذج لهذه الجماعات الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر قبل حلها، و الجماعة الإسلامية في مصر، وبعض مكونات حزب الرشاد اليمني، و جماعة الحوثيين في اليمن التي يتناقض خطابها السياسي مع وثيقتها الفكرية، وهناك شخصيات دينية محدودة، تحمل هذه الثقافة في بعض الأحزاب السياسية المحسوبة على جماعة الإخوان. وخارج إطار هذين القسمين، هناك تيارات أخرى تمثل تجارب خاصة، فرضتها ظروف خاصة ويمكن التمثيل لها بنموذجين: نموذج إسلامي يعمل وفق أدبيات مدنية بحتة، ونموذج مدني يعمل وفق أدبيات إسلامية، ولعل النموذج التركي أبرز أمثلة النموذج الإسلامي الذي يعتمد على أدبيات مدنية علمانية فرضتها عليه ظروفه الخاصة ، أما النموذج المدني الذي يعتمد على أدبيات إسلامية، فيشمل جميع الأحزاب في اليمن التي لا تصنف على أساس تبعتها للحركات الإسلامية ومنها حزب المؤتمر والأحزاب القومية واليسارية. فجميع الأحزاب في اليمن تندرج في إطار الإسلام السياسي بناء على أدبياتها النظرية، حتى إن قال البعض إن البراغماتية الواقعية تقف وراء صياغة الأدبيات، لكن في الأخير يجب أن ندرك أن الكثير من الظواهر الفكرية والسياسية هي نتاج تفاعل مع واقع، وهناك في جميع الأحزاب بدون استثناء، أشخاص يمارسون العمل السياسي في إطار أدبيات محددة مع أنهم لا يؤمنون بمعظم هذه الأدبيات ولكنهما يعتقدون أن هذه الأدبيات تمثل الحد الأدنى الممكن تحقيقه في الأطر الجمعية بمعزل عن القناعات الخاصة بالأفراد، يقبلون ذلك بهدف تطوير الواقع وفقا لنظرية الممكن الذي يُفضي تحقيقه إلى ممكن جديد، وفي هذا السياق سنجد مسيحيين ويهود يقبلون العضوية في الأحزاب الإسلامية وهناك الآن تقريباً مائة مسيحي مصري من ضمن الهيئة التأسيسية لحزب العدالة والحرية الذي أنشأته جماعة الإخوان المسلمين. وقبل شهر تقريبا قرأنا نقدا سلفيا في إحدى الصحف الأسبوعية اليمنية، من رئيس الحزب السلفي الجديد- حزب الرشاد- لحزب الإصلاح، بعد تصريح للدكتور عبد الوهاب الديلمي أنه لا يوجد مانع شرعي في قبول عضوية شخص ينتمي للديانة المسيحية أو اليهودية في حزب الإصلاح، في حال قبول هذا لعضو العمل من أجل تحقيق أهداف الحزب ومنها تطبيق الشريعة، وأن الأمر مرتبط بقواعد المصالح والمفاسد ولا يرتبط بقضايا العقائد. وبالعودة إلى النموذجين الأخيرين، نموذج ممارسة الإسلامية بأدبيات علمانية أو ممارسة المدنية بأدبيات إسلامية، اعتقد أنه لابد من قراءة هذين النموذجين بصورة جيدة، لأن مبررات تشكل هذين النموذجين تشير إلى ضرورة التوافق على الأرضية العامة التي يجب بناء الدولة عليها والتنافس في ضوئها بالبرامج السياسية المختلفة التي لا تدخل متاهات الخلافات الإيديولوجية التي قد ينشأ على ضوئها صراعات حادة وربما حروب إيديولوجية داخلية شبيهة بالحروب التي شهدتها اليمن في السبعينات، ولهذا يتدخل العقلاء للتوافق على الحدود الدنيا من التوافقات التي ترتضيها الأغلبية العامة من السكان لتحديد ثوابت النظام السياسي التي تضمن أن أغلبية الشعب ستصوت عليها بالإيجاب في أي استفتاء شعبي، إذ لا معني لأي صياغات مثالية ندرك مسبقاً أن الشعب لن يصوت عليها بأغلبية مناسبة غير استنزاف الوقت والتأسيس لصراعات جديدة. مثل هذه التوافقات، التي تنطق من سقف قناعات عموم الشعب - لا سقف قناعات النخبة الفكرية أو السياسية- تلعب دورا إيجابيا في توفير الجهود والطاقات بدلا من ذهابها هباءً في صراعات إيديولوجية متخلفة، وتوفير الجهود لمعركة التنمية وبناء مؤسسات الدولة، وفي هذا السياق تتولد التجربة السياسية الخاصة والمتميزة بعيداً عن مسار حتميات العقل الإطلاقي بضرورة تطور التجربة العربية والإسلامية في نفس سياق التجربة السياسية الغربية بجميع حذافيرها. ومن منظور كاتب هذه التناولة فإن مسار المشروع النهضوي العربي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مشروعاً فكرياً متكاملاً تتكامل أبعاده الدينية بالأبعاد الإنسانية والوطنية كما تبلور في جهود وكتابات رفاعة الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم وكما استمر في ثقافة بعض المفكرين والمناضلين المتأخرين ومنهم محمد عمارة ومالك بن نبي ومحمد الغزالي وفي اليمن عبدالله الحكيمي وباكثير والزبيري والنعمان وغيرهم. وفي اعتقادي أن عملية ارتباك كبيرة عاشتها المنطقة العربية بعد سقوط السلطة السياسية الجامعة للعرب والمسلمين ممثلة بالدولة العثمانية وتداعيات الحرب الباردة بعد ذلك وما نتج عنها من انقسام الصف العربي والإسلامي بحكوماته ونخبه السياسية والفكرية، فانقسم مشروع النهضة على نفسه فتحول الإحياء الديني إلى مشروع مستقل، وبلور التيار القومي الوطني مشروعاً خاصاً به، وظهر التيار الإنساني الاجتماعي – الاشتراكي- في أحزاب مستقلة، ولم تتحاور هذه التيارات للاتفاق على أسس مشتركة للإصلاح الديني والبناء الوطني وخدمة الإنسان، بل دخلت في حروب استنزافية متخلفة، حاول فيها كل طرف إقصاء الآخر، فاعتقد التيارات اليسارية والقومية أن تيار الإحياء الديني متخلف وممثل للقوى التقليدية ويجب إزاحته بالقوة، ودافع تيار الإحياء الديني عن وجوده باعتباره ممثلا لهوية الأمة التي تتعرض للخطر من عملاء الاستعمار الشرقي أو الغربي، واستغلت هذه الصراعات شخصيات عسكرية وصولية، ونجحت في تهميش الجميع والاستعانة بكل تيار ضد الآخر لتثبيت سلطتها، واحتكار السلطة والثورة وبناء أحزاب انتفاعية فاسدة، وحولتها إلى أحزاب صورية حاكمة لتوسيع دائرة كبار المنتفعين من الفساد وتبرير شرعيتها. حتى جاءت ثورات الربيع العربي لتضع حداً لهذه الأنظمة الاستبدادية، وتضع القوى الوطنية أمام مسؤوليتها من جديد، وفي اعتقاد أن الوقت حان لإعادة بناء مشروع النهضة بأبعاده الثلاثة الدين والإنسان والوطن، فلا نهوض دون تربية دينية تعمل على توظيف طاقات التدين في ميادين البناء والإعمار بدلا من إهدارها في حروب طائفية أو حروب الدفاع عن الهوية، والدين إنما جاء لتتميم مكارم الإنسانية ورحمة للعالمين، والوطن هو المساحة الجغرافية للوطن العربي والإسلامي التي يجب أن تحتضن مشروع النهضة، ومنطق العقل والواقع يؤكد ضرورة الإيمان بالدولة الوطنية القطرية أولاً وعمل إصلاحها وتطويرها باعتبارها اللبنة الأولى لأي تكامل عربي أو إسلامي.