كادت الحياة أن تبتسم لها لولا أن زوجها رحل تاركاً لها ابنها الوحيد، وبعد رحيله بدأ شريط معاناتها ينساب بالظهور، وألمها يستأذن بالنهوض، فابنها يحتاج منها الكثير، وكان عليها أن تعمل لأجله كل شيء، تحملت الأعباء حتى يتعلم ويكبر، وتراه رجلاً يحمل مسؤولية نفسه، مرت الأيام ودارت الأعوام وصار الصغير شاباً، لم تعد تشعر بطعم الراحة، وكل ما تفكر فيه هو كيف تسعده، وتعوضه عن فقدان والده، حاولت جاهدة أن تكون له الأم والأب، ووفرت له كل ما يحتاج حتى إنها عملت في البيوت كي لا تحرمه مما يريد، وأخيراً تخرج من الجامعة وفرحت فرحاً لا يوصف، ورقصت على أوتار الحياة الجديدة، آملة أن تجد ابنها موظفاً يحمل همها وهمه، أن تجده إنساناً يحميها ويحن عليها، بعد أن أكل الدهر عليها وشرب، فولدها لم يعد طفلها المدلل بل أصبح رجلاً، وغداً سيخفف عنها التعب، جلست تحلم به، وكيف سيخرجها من القرية إلى المدينة، ومن العناء إلى الراحة، بدت ترسم مخططاتها على خيوط الأمل البعيد، وهي تناقشه، ضمته لصدرها وهي تقول: (آه يا ولدي كم أني فرحة بك، بس ما عاد بقدر أعمل لك شيئاً)، قبلها وهو يقول: (روحي فداك يا أمي، أنت في عيوني، وما بتخلى عنك)، دمعت عيونها واطمأن قلبها، طلب منها أن تسمح له بالعمل، غادرها وقلبها يرتجف خوفاً عليه؛ لكنه عاد بخيبة أمل، فلم يجد عملاً مناسباً له، ومع هذا أعاد المحاولة مرات ومرات، حتى باغته اليأس على غفلة، جلس مع والدتها وأخبرها بأنه عازم على السفر خارج البلاد، شهقت حتى كادت تفارق الحياة، لم تخبره بشيء غير أنها لم تقل له لا؛ لأنها لم تتعود عليها، وافقت وهي تعتصر بمرارة الرحيل وذكريات زوجها الذي رحل عنها، أعطته ما تبقى لها من مجوهرات كي يسافر بها، رحل وفي عينيه ألف سؤال، هل سأعود؟ هل سأرى أمي ثانية؟ هل وهل وهل؟ سافر ودموعه تهطل أبحراً أغرقته وهو يودع أمه، أخفت والدته ألمها وودعته وكأنه آخر وداع ، انكوت بعد رحيله بألم البعد والفراق، لكنها صبرت الأيام تلو الأيام، وهو يبلغها بعدم استقرار الحال، وعدم حصوله على عمل مناسب، مرت السنوات والسنوات وهي تزداد شوقاً له لكنها لم تجد أملاً في عودته سالماً لها، استمر في غربته وأمه تحلم كلما حل عليها نهار بأمل عودته، وبعد أن جمع مبلغاً بسيطاً من المال، قرر العودة وأول من سيزف لها الخبر هي أمه الحبيبة، لكنه تأخر كثيراً، فوالدته كبرت في السن ولم تعد تنتظره، بل رحلت، وكانت آخر أمنياتها أن تراه عائداً لها، لكن هذا لم يتحقق فقد كان الموت أسرع من وصوله، رحلت وهي توصي من حولها بأن يبلغوه أنها انتظرته كثيراً لكنه غاب أكثر، ويقولون له: ألا يغترب ثانية كي لا يشعر أولاده باليتم والضياع مثلما رحل والده، اتصل يسأل عنها كي يخبرها بما عزم عليه وكله شوق لها، لكنه انصدم عندما سمعهم يقولون: (أمك.. الله يرحمها وأنت ما رجعت فالأحسن لاعاد ترجع لأنه ما بقى معك شيء في البلاد، بعدما باعت أمك أرضها وصرفت عليك واليوم ماتت وأنت بعيد، ما قدرت تأتي تزورها...!!) غرق في بحر اليأس، وصرخ بصوت متقطع وشهقات متعالية، ملأت أرجاء الأرض: لا يا أمي لا ترحلي لا تتركيني وحيداً فقد انتظرتِ مني الكثير سأعود لك نعم سأعود لكن والدته رحلت على غفلة منه، تركته في غربته وحيداً شريداً لا يملك غير خيالها يعاوده كل حين، وموقفها وهي تحتضنه قبل رحيله وكأنه وداعها الأخير، تمنى أنه عاش معها وكافح لأجلها ولم يتركها، لكن أمنياته صارت في طي الماضي، فلم يعد هناك أمل لرجوعها، ولا سبيل لأن يفي بوعده لها، فقد صار يلعن الغربة التي سلبت شبابه، وحالت بينه وبين والدته، بات في صراع مع ذاته، وسؤال يبحث عن إجابته، هل يعود لبلده مع أنه لن يجد من وعدها بحياة أفضل، وسعادة غامرة، أم يبقى في غربته فاقداً كل أحلامه وآماله، عائشاً على تأنيب ضميره، طوى صفحات غربته، وقرر العودة لقريته حاملاً معه ألمه الدفين، وسنين عمره التي راحت هباء في سنين. [email protected]