رحلتنا هذه المرة ستكون مع شاعرنا الكبير الدكتور محمد عبده غانم ((بطاقة غريب في العيد)).. القصيدة في بحرها وإيقاعها وفكرتها وقافيتها تذكّرنا بقصيدة المتنبي الشهيرة(( عيدٌ بأية حال عدت يا عيد)) وفي البدء سأورد القصيدة كاملة حتى تستقر في ذهن القارئ بشكلها ومضمونها وبعد ذلك سنمر على أبياتها وسنقف على ذُرا الجمال فيها.. تقول القصيدة: يقولون- عيدٌ– قلتُ–ما يصنع العيد إذا جاء والأحباب دونهم البيدُ ودون البوادي قد ترامت برملها جبالٌ، ودون الطود موجٌ عرابيدُ أعيدٌ؟ وكيف العيد في دار غربةٍ وما العيدُ إلا الأهل والدارُ والغيدُ إليك – فما في القلب يا عيد فرحة ومافيه إلا للأسى فيك ترديدُ إليك- فقد أدميت جرحاً طويته ليشفي لو أن الجرح يطويه مفؤودُ حرامٌ عليّ العيد والإلفُ غائبٌ بعيدٌ، فلاكفٌّ تلوحُ ولاجيدُ حرامٌ عليّ العيد والبين حاضرٌ رهيبٌ له سدٌّ على الأفق ممدودُ وليس سوى الظلماء في الليل سلوة وماليلها إلا عذابٌ وتسهيدُ متى يجمع الله الأحبة بعدما تناءوا وأقصتهم رياح النوى السُودُ إلى أن يقول في نفس القصيدة: ***** مسارحُ حُبّي كيف شطّ بكِ النوى وكيف ترامت بالروابي الأخاديدُ أأنكرتِ عهدي عندما اغتال لمّتي مشيبٌوعاثت بالجبين التجاعيدُ وقلت مضى عهد الصبابة والهوى فللحبّ شرطٌ ليس يُنسى وتقليدُ فما في غرام الشيخ خيرٌ وإنما يكون الهوى حيث الصبا والأماليدُ لئن خنت عهدي فالصبابة لم تزلْ لها في ضلوع الشيخ بعثٌ وتجديدُ سأهواكِ حتى في جفاكِ فما الهوى لديّ له قيدٌ ولافيه تحديدُ سأهواكِ مهما قيل غيّرك الهوى ومهما استبدتْ بالأماني المواعيدُ لايعرف الشوق الحقيقي لوطنه إلا من عاش بعيداً عنه وذاق مرارة البعد والاغتراب واكتوى بنيران الغربةوالبين.. قصيدة شاعرنا تعزف على هذا الوتر الحزين… فقد كتب هذه القصيدة عندما كان في (( لندن)) جاء العيد وهو بعيد عن أهله ووطنه, فلم يكن بمقدوره سوى أن يبعث لأهله بهذه البطاقة العيدية المُبتلّة بالدموع والآهات.. ذلك أن مسافات هائلة تفصل بينه وبين أحبّته .. فماذا عسى أن يكون العيد لو أن أحداً باعدت الأيام بينه وبين أحبابه؟.. إذ لم يجد وسيلة غير أن يصهر أشواقه وشجونه وينسج منها هذه القصيدة لعلّه في ذلك يتخفّف من عبءمايرزح تحته ويكابده.. فهو يؤكد على أن العيد ليس عيداً إذا لم يكن فيه جمعٌ لشمل الأحباب.. العيد ليس عيداً إذا لم يكن الواحد منا بين أهله وأحبابه ينعم بقربهم ودفئهم ويتقاسم معهم الأفراح والمسرّات ، في جوٍّ كهذا لايرى الشاعر الفرحة إلا أسىً يتجرّعه كل لحظة .. حرام عليّ العيد إذا لم يكن من أحبه قريباً مني, أصافحه وأنعم برؤياه.. وأنا هنا في أرض الاغتراب من الصعب أن أجد معنى حقيقياً للعيد.. فبُعد المسافة أفقدني الإحساس بالفرح الجميل الذي لا يشعر به إلا من كان في وطنه وبين أهله .. هذا هو العيد الحقيقي .. عندما يكون الإنسان بعيداً عن وطنه وأحبابه يتساوى ليله ونهاره, فلا النهار بإشراقه يستطيع أن يُدخل في أعماق النفس البهجة والسرور ولا الليل بسكونه ودفئه بقادر على إيقاف سيل العشق الجارف للأهل والوطن.. وفي جزء من القصيدة السالفة يطلق الشاعر أمنية متسائلة وحيرى فيقول :متى سيجمع الله الأحبة بعد طول فراق؟وتُطوى هذه الصفحة السوداء القاتمة؟ولعل الحالة البائسة التي عاشها الشاعر قد دفعته لنبش ذكرياته القديمة .. الشباب والحياة المُترعة بالجمال والحب فيتذكّرمسارح حُبّه التي صال وجال فيها بعد أن غزاه الشيب ولم يعد ذلك الفتى الوثّاب المنطلق في رحاب الهوى والحُب والجمال. يتحسّر على أيامه الجميلة التي طواها الزمان .. لكنه حتى وهو يعتب على ذلك .. إلا أن جذوة الحب مازالت مشتعلة في قلبه وفي وجدانه حتى بعد ان تقدّمت به السن قليلاً .. على الرغم من كل ذلك إلا أن الشاعر في ختام قصيدته مازال مُصرّاً على أن صبابته مازالت متجدّدة يفيض بها قلب الرجل.. فهو مازال على عهد الهوى والحب .. فلا الأيام ولا الغربة ولا أي شيء آخر يستطيع ان يطفئ وهج نفس الشاعر أو يقلّل من شوقه وعشقه وحبّه لوطنه وأهله وأحبابه. [email protected]