ولج القرآن غير باب من العلوم , على غاية في الفصاحة ودقة في النظام , وفتح ما انغلق على أرباب البيان والمعرفة , ما التبس على الأفهام, من لسان وحكمة وفصل خطاب, وعلم فلك ونجوم , وسياسة حكم واقتصاد, وطب وجغرافية وتاريخ وأجناس وبيولوجيا وعلم نفس لكل صاحب قدم فيه مقام معلوم, فكان بحق مسك ختوم, وشاهدا على عظمة عليم حي قيوم , كيف لا وهو المكنون المرقوم , والخفي المرسوم, والكنه الموسوم. علم اللسان أول من أطلق علم اللسان, كمصطلح عرفه المتأخرون هو القرآن بغير منازع, قائلاً “ بلسان قومه “, “بلسان عربي مبين “, “ يسرناه بلسانك “, “ أفصح مني لسانا “. عن كنه الكلام قيل قديما والبيت للأخطل : إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً نظرية الكلام لم يغفلها القرآن الكريم وهذا القول لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, على خلاف المفسرين جاء في سورة “ ق” : {ولقد خلفنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد, إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد, ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }. فهو يتناول الوسوسة القلبية التي هي مصدر الكلام ثم يذكر علاقة حبل الوريد في نقل وتغذية الجسم الظاهر عن طريق الدم الساري في حبل الوريد الخارج من القلب ولم يتعرض للشريان لأنه مدخل, ومن ثم يعرض نظرية التلقي التي يتفرع عنها ذلك الوريد, عن يمين وشمال وصولاً إلى اللفظ الخارج والمسموع عن طريق العضو المسمى باللسان, وهي العدة أو الآلة المترجمة , وذكرها بالعتيد, ولا بد من مطابقة الكلام القلبي للكلام اللساني هذه المطابقة تقتضي المراقبة, إذا لكل عملية كلامية ملفوظة طرفان هما رقيب عتيد. وفي موضع آخر يذكر سبحانه وتعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين, ثم لقطعنا منه الوتين } لعلاقة القول بالوتين الذي هو الوريد وذكر اليمين هنا فقط لأنها أو لأنه على اعتبار الوريد الأيمن محل اللفظ وأغفل اليسار لأنه محل الوسوسة وهي في القلب والقلب في موضع اليسار من الصدر , وبهذا تكتمل النظرية بركنيها واضحة جلية. علم الفلك قال تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وزيناها للناظرين } في علم الفلك والبروج , وقال جل ذكره: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتو البيوت من أبوابها وأتقو الله ... } والناظر في هذه الآية يعلم يقينا أن المراد بالبيوت منازل الأهلة والأبواب أبواب هذه البيوت وهي اثنا عشر بابا وبظهورها رؤية الأهلة ظاهرة بالعين المجردة , فالآية تحث على علم الحساب واعتماده ولا عبرة بالرؤية البصرية فإنها قاصرة الآلة, وهو ما يفصح عنه في غير موضع نحو : {الشمس والقمر بحسبان, لتعلموا عدد السنين والحساب } والرؤية البصرية محل شك وقصور ولذلك كان أهل الكتاب يعتمدونها ومثلهم العرب فكان من تبعاتها النسيء الذي قيل فيه “ زيادة في الكفر”. علم النجوم أضفى المشهد القرآني أهمية كبرى لمواقع النجوم وربط بينها وبين علم التنزيل وقدر معجزته بهذا التحول الرهيب من موقع إلى موقع وتأتي قيمة هذا العلم من الظرفية المحيطة بالكتاب المكنون , { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم , إنه لقرآن كريم , في كتاب مكنون, لا يمسه إلا المطهرون }, كما أنها (النجوم ) { علامات وبالنجم هم يهتدون } , ومن علاماته { والنجم إذا هوى, ما ضل صاحبكم, وما غوى, وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى ...}.