إن من دلائل تحضر أي مجتمع، اعترافه بدور المبدعين في رقي الأخلاق وسمو المشاعر، وتهذيب الذائقة العامة، وبرقيها وتهذيبها ترتقي العلاقات الإنسانية، ويسعى الناس جميعاً إلى توخي الإبداع فيما ينتجون ويصنعون، وبسمو المشاعر ورقي الأخلاق تخف حدة الخلاف والاختلاف بين كل فئات المجتمع، ويتحد الجميع حول أهداف وطنية واجتماعية وتربوية عظيمة، يحرص الفرد على تحقيقها على قاعدة الإتحاد مع الكل، ورعاية المصلحة العامة وتقديمها على المصلحة الشخصية. هذا ما يفعله الإبداع الجميل في حياة الناس، وهذا ما يسهم به المبدع الحقيقي في رقي وازدهار المجتمع، وأي مجتمع لا يعترف بفضل مبدعيه الأصلاء، إنما يؤكد بذلك على أنه ارتد إلى الوراء، واسترجع ماضيه المتخلف، وشطر ذاكرته الإبداعية التاريخية، ولم يربط بين الأمس واليوم برباط وثيق يضمن استيعاب الجيل الجديد لعطاء جيل الرواد، ليقدم عطاءه هو دون تقليد، ولكن وفقاً لاستلهام كل ماهو جميل وأصيل في إبداع جيل الرواد. فهل نحن اليوم مجتمع يعود للوراء ويسترجع ماضيه القديم المتخلف؟ الإجابة على هذا السؤال أكبر مني، ولكن ما بالنا لا نهتم بمبدعينا، ومبدعينا الكبار تحديداً، ولا نحتفي بذكرى ميلاد أو وفاة من رجل منهم، ولا ننظم مهرجانات فنية سنوية نستضيف فيها كبار المبدعين العرب لنعرفهم بالعطاء الخالد لمبدعينا الكبار، خصوصاً في المسرح والموسيقى والغناء. الخميس الماضي الأول من ابريل الجاري، داهمتنا الذكرى ال “17” لرحيل الموسيقار اليمني الكبير، ولم أسمع قبلها ولا بعدها - إلى اليوم على الأقل أن وزارتي الثقافة والإعلام أو مكتب من مكاتبهما في المحافظات قد استعد أو يستعد للاحتفاء بذكرى رحيل فنان عظيم كأحمد قاسم، وكان العشم كبيراً في مكتب الثقافة بعدن، لأن أحمد قاسم من أبنائها وعلى مدى أكثر من 40 عاماً ملأ سماءها وهذّب وجدانها بالموسيقى الراقية والأغنية الخالدة التي لا تزال إلى الآن هي النموذج الأرقى للأغنية اليمنية والعربية الحديثة. وعن المنتديات والجمعيات الأدبية والفنية بعدن، لم أسمع سوى أن منتدى “الباهيصمي” الثقافي بمديرية المنصورة، قرر الاحتفاء بذكرى رحيل موسيقار اليمن الكبير أحمد بن أحمد قاسم، فذهبت إلى مقره المؤقت عصر الخميس الماضي، وهذا ما عوّدنا عليه هذا المنتدى الشحيح في إمكاناته والغزير في نشاطه الأدبي والفني، فهو يحرص في كل فعالياته التي ينظمها كل يوم خميس على الإختفاء بأحد المبدعين من الأحياء أطال الله في أعمارهم، وممن رحلوا عن دنيانا الفانية، فليرحمهم ويرحمنا الله جميعاً. وللاختصار اكتفي بذكر أسماء بعض الحضور الضيوف أو الذين يزورون المنتدى بعد غيبة طويلة، وهم: وليد الوجيه مدير عام مصلحة شئون القبائل بمحافظة لحج، عبدالعزيز العقاب الأمين العام لمنظمة فكر للحوار والدفاع عن الحقوق والحريات، جلال الوجيه مزارع، حلمي الجرادي، عبدالله علي باهارون، نجيب محمد المقبلي.. ولا أنسى حضور الأستاذ/عبدالله باكدادة مدير عام مكتب الثقافة بعدن، والفنان المبدع تلميذ أحمد قاسم الذي صار أستاذاً، أنيس درهم. وفيمايلي فقرات من كلمتي المتحدثين الرسميين في الفعالية الشاعرين هاني جرادة، ود. مبارك سالمين رئيس فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيينبعدن. أما هاني جرادة، فقد تناول تاريخ الأغنية الوطنية في اليمنوعدن تحديداً منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، والأغنية الوطنية عند أحمد قاسم التي ألهبت مشاعر الشعب بالحماس وأسهمت في نهوضه للثورة ضد نظام الإمامة في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب، وكان الجرادة موفقاً في اختيار النماذج، وذكر أسماء الشعراء والملحنين والمطربين، مثل أغنية “يا ظالم ليش الظلم ذا كله” كلمات سببت وتلحين وغناء اسكندر ثابت. أخي كبلوني وغلّ لساني واتهموني بأني تعاليت في عفتي ووزعت روحي على تربتي لأني أقدس حريتي لذا كبلوني وغلّ لساني واتهموني وهي من كلمات لطفي جعفر أمان وتلحين وغناء محمد مرشد ناجي. أغنية “نداء الحياة” كلمات وديع عبدالله جعفر أمان، لحن وغناء المرشدي ويقول مطلعها: أنظر إلى بيتي ففيه مذلتي وفيه ضعفي يا أخي وخنوعي الموت يأتي من زواياه التي ترمز دماً للآسى والجوع كما لجأت الأغنية الوطنية إلى الرمز أحياناً، كما يقول الجرادة مثل أغنية “هات يدك على يدي”للطفي والمرشدي وشاركت في التعبير عن الأحداث اليمنية والعربية والقومية الكبرى مثل قيام ثورة 26سبتمبر 1962م، وانتفاضة الشعب العربي في العراق وسوريا ومحاولته إعادة الوحدة في مصر، وانتصار ثورة الجزائر والعمل الفدائي في فلسطين ضد العدو الصهيوني.. ويضيف الجرادة أن المنلوج كان له دور في التعبير عن القضايا الوطنية وهموم الشعب وقدم عدة نماذج منه، وعن إسهام أحمد قاسم في الأغنية الوطنية أشار الجرادة إلى أغنية:«صرخة المجد التليد”عن ثورة 1952م وصد العدوان الثلاثي عام 1951م وكذا قصيدة لطفي أمان التي لحنها وغناها أحمد قاسم بعد استقلال جنوب الوطن مباشرة ويقول مطلعها: على أرضنا بعد طول الكفاح تجلى الصباح لأول مرة وطار الفضاء طليقاً رحيباً بأجنحة النور ينساب ثره وكذا رائعة أحمد قاسم ولطفي أمان الخالدة “في موكب الثورة”: يامزهري الحزين من يرعش الحنين إلى ملاعب الصبا وحبنا الدفين هناك حيث رفرفت على جناح لهونا أعذب ساعات السنين وأنا لي رأي في الأغنية الوطنية، سأستعرضه في مقال مستقل إن شاء الله. أما د. مبارك سالمين الرئيس الفخري للمنتدى فقد اعتذر في البداية عن التحدث عن موضوع الفعالية “الوطن في أغنية أحمد قاسم” لأنه موضوع كبير في تاريخ هذا الفنان العظيم والعبقرية الموسيقية، كما قال ولم يستعد له لاختياره متأخراً باختياره كمتحدث رسمي في الفعالية، ثم قال: لكن الحديث عن هذا الرجل الذي ربى ذائقتنا الفنية ليس من الأمور الشائكة، لأننا تشربنا من أحمد قاسم في مرحلة تكويننا الأولى، وحديثنا عنه اليوم رد للجميل لهذا الرجل الذي أسهم في رقي الأغنية اليمنية والعربية، لن أتحدث عن الوطن في أغنية أحمد قاسم لأنه خدم الوطن بأشكال مختلفة، والحديث عن الوطن في أغانيه يحتاج لبحث أكاديمي يتطلب البحث والدراسة، وأضاف: إن إحياء ذكرى رحيله هو أيضاً إحياء للفنان الممثل الذي قام ببطولة فيلم “حبي في القاهرة” عام 1966م أمام ممثلين مصريين كبار، أي إنه كان مشروع ممثل جيد لم يكتمل، إلا أنه بهذا الفيلم قدم بصمة انفرد بها، ولم يكن حينها من السهل على أي فنان عربي تقديم فيلم سينمائي في مصر، وبصرف النظر عن نجاحه إو إخفاقه بهذا الفيلم، إلا أنه قدم بصمته الفنية الرائعة في عالم السينما والغناء اليمني الذي نقله إلى السينما، وقال د. مبارك سالمين: أحمد قاسم جذوة موسيقية لا تنطفئ حياً أو ميتاً، كتلك التي أشار إليها أدونيس وهو يتحدث عن الحداثة في شعر أبي تمام كقوله: مطر يذوب الصحو منه ويكاد الصحو منه يمطر بمعنى أن أحمد قاسم يشكل قاعدة انطلاقه حداثية في الفن الموسيقي والغنائي، لكنه لم يحظر بما يستحقه من الاهتمام الإعلامي بحجة تأثره بالفن المصري والبعض الآخر يجير تعصبه للفن اليمني.. أحمد قاسم مساحة، في فضاء أثيري من الحس الموسيقى الملهم على المستوى اليمني والعربي والعالمي، كان فرح هذه المدينة وعلى الجيل الجديد أن يستلهم من عبقريته وموهبته الكبيرة، بما يخدم تطور الأغنية اليمنية والعربية. وخلال فترة وجودي في الفعالية استمعت لبعض الأصوات الجيدة، غنت عدداً من أغنيات أحمد قاسم الرائعة والخالدة، لكن الفنان أنيس درهم، كان كعادته وهو يغني لأحمد قاسم، هو الأنيس والدرهم الذهبي فأطرب القلوب وشنف الآذان بعزفه على “العود” وغنائه القاسمي المتميز بأغنيتين:” من العدين يا الله،والمي والرملة” فبدا على وجه الأخ/عبدالعزيز العقاب، أنه كان في أقصى حالة من النشوة الطربية التي فجرها في روحه وقلبه الأداء الرائع لأنيس درهم لبعض أغنيات أحمد قاسم الخالدة التي أججت مشاعره الوطنية فقال مؤكداً أنه جاء من محافظة إب خصيصاً لحضور هذه الفعالية بدعوة من رئيس المنتدى واصفاً أحمد قاسم بالرجل الوطني المعطاء، ولأن الحديث كان عن الأغنية الوطنية عند أحمد قاسم، طلب أن يسمح له بقراءة قصيدتين وطنيتين من تأليفه، مؤكداً أنه لا يفعل ذلك ليكرس لدى الحضور المفاهيم الوطنية لأنهم أبناء عدن. وأضاف: وأجدادنا عاشوا في عدن وعرفوا معنى الوطن والمفاهيم الوطنية من أبنائها، ثم قرأ الأخ عبدالعزيز العقاب قصيدتين وطنيتين جميلتين من الشعر العمودي الفصيح، لم أتمكن للأسف أن أحصل على نسخة لكل منهما. كما لفت انتباهي وشغل اهتمام الفنان نجيب المقبلي، فأنا لم أتعرف عليه من قبل ولم أسمع صوته إلا في هذه الفعالية، حين غنى أغنية “يا عيباه” بصوت جميل، وأداء غير مقلد، ولكنه متميز أضفى عليه إحساسه هو بالكلمة واللحن. رحم الله موسيقار اليمن الكبير أحمد بن أحمد قاسم، وشكراً جزيلاً وتقديراً كبيراً لمنتدى الباهيصمي الثقافي ممثلاً برئيسه الشاعر والإنسان الجميل محمد سالم باهيصمي وكل القائمين على المنتدى، الذي أعاد لنا ثقتنا بأننا لا نزال مجتمعاً متحضراً.