الحلقة الأولى الأخ علي القاضي من أبناء الحركة الإسلامية، وله آراء منفتحة وجيدة في الفقه السياسي، ولكن غلب عليه الجمود والتقليد في بعض المسائل، ومنها مسألة عقوبة المرتد في الإسلام، فهو ينطلق فيها مما يعتقد أنها مسلمات لا تقبل النقاش، وهاجس الخوف مسيطر على تفكيره من تبعات القول بحرية الاعتقاد إلى درجة تمنعه من التفكير المتوازن، وتجعله يشتط في القول على مخالفيه، والمؤسف أنه رغم اكتوائه بلغة الخطاب السلفي التقليدي المتعالم، إلا أنه يستخدم مفردات ذلك الخطاب مع إخوانه من طلبة العلم والباحثين. تحت عنوان: (تصحيح الأفكار) كتب أخونا الفاضل علي القاضي سلسلة من الحلقات في ملحق أفكار، وقد استبشرت بالعنوان خيراً، فتصحيح الأفكار هو ما نعمل من أجله، ولكن وبعد متابعة الحلقات أصبت بخيبة أمل، فالأخ علي يبدو أنه لا زال يراوح في دائرة الشخوص، ولم يتنقل بعد إلى دائرة الأفكار، وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد ابتدأ الأخ علي ما أسماه : (تصحيح الأفكار) بموضوع عقوبة المرتد، وجاء موضوعه تحت عنوان: (حد الردة) وقد آثرت أن أحاوره بهدوء قدر الإمكان، ومهما اختلفت معه فأرجو أن يكون خلافنا من النوع الذي لا يفسد الود ولا يقطع وشائج الأخوة. ثالثة الأثافي! ومع حرصي على البعد عن شخصنة الحوار أجدني مضطراً للقول أننا نعاني من وجود ظاهرة قشرية حادة في واقعنا الدعوي، وما يميز أفراد هذه الظاهرة هو التعالم واستدعاء الغيرة الدينية في غير موضعها، وإساءة الظن بالمخالف لهم في الرأي، وإلقاء التهم على عواهنها كما يعمد أصحاب هذه الظاهرة إلى تقديم أنفسهم في صورة المدافع عن الدين، وهي صورة زائفة وغير حقيقية، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون زيفها، ولكن “سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما يصفون”! والخطاب الذي يقدمونه تقر به أعين أعداء الإسلام، لأنه يقدم الإسلام في صورة مزرية، وموغلة في التخلف، والسبب يعود في نظري إلى ثلاث مصائب يرتكز عليها خطابهم القشوري الحاد: المصيبة الأولى : التقليد والجمود وتقديس أقوال السابقين، والتبعية الفكرية العمياء لاجتهادات ماضية لم تعد مناسبة لعصرنا. المصيبة الثانية : سوء الفهم للمرويات الحديثية، لضعف ملكة الاستنباط ، وعدم إدراك مقاصد الشريعة. المصيبة الثالثة وهي ثالثة الأثافي: الإعراض عن المرجعية العليا في فهم الإسلام ، وهي مرجعية القرآن الكريم ، وتقديم المرويات الضعيفة، والاجتهادات البشرية المحكومة بظروفها الزمانية والمكانية على التفقه في القرآن والاستمداد منه. وأفراد هذه الظاهرة وإن كانوا قلة من الموتورين والمتشددين وغالبهم من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام الذين استمرؤوا حالة السفه، لكن المؤسف أن منطقهم وأسلوبهم في التعامل مع المخالف بدأ ينتقل كالعدوى إلينا، وأصبح البعض منا يدينهم في الوقت الذي يمارس نفس أساليبهم!. والأخ علي القاضي من أبناء الحركة الإسلامية، وله أراء منفتحة وجيدة في الفقه السياسي، ولكن غلب عليه الجمود والتقليد في بعض المسائل، ومنها مسألة عقوبة المرتد في الإسلام، فهو ينطلق فيها مما يعتقد أنها مسلمات لا تقبل النقاش، وهاجس الخوف مسيطر على تفكيره من تبعات القول بحرية الاعتقاد إلى درجة تمنعه من التفكير المتوازن، وتجعله يشتط في القول على مخالفيه، والمؤسف أنه رغم اكتوائه بلغة الخطاب السلفي التقليدي المتعالم، إلا أنه يستخدم مفردات ذلك الخطاب مع إخوانه من طلبة العلم والباحثين. أخطاء تبدأ من العنوان ! وطالما أن القضية هي قضية تصحيح أفكار فلنبدأ مع الأخ علي من العنوان، فأول فكرة خاطئة في مقاله جاءت في العنوان: (حد الردة)! وكنت أتمنى من الأخ علي أن يصححها بدلاً من أن يرسخها ويجعلها عنواناً لموضوعه. ولا أكتم الأخ علي أني تساءلت : إذا كانت بداية (تصحيح الأفكار) بخطأ فكري وفي العنوان الرئيس للموضوع فكيف سيكون الحال حين الدخول في تفاصيل الموضوع ؟! على أي حال لن نستعجل النتائج ، ولنعد إلى العنوان: (حد الردة)! والسؤال هنا : هل تسمية عقوبة المرتد حداً فكرة صحيحة أم خاطئة؟! الحقيقة إن تسمية عقوبة المرتد حداً قد استشكلها عدد من العلماء كالنووي والشوكاني؛ لأن الحدود لا تسقط إذا وصلت إلى القضاء ولا يستتاب صاحبها ، بينما المرتد يستتاب ، وإذا تاب سقطت عنه العقوبة. وأيضاً الحدود كفارات لأهلها المسلمين ولا أحد يقول إن المرتد إذا قتل كان القتل كفارة له! ولعل الأخ علي يرى أن هذا الكلام فلسفة باردة وربما اتهمنا بعدم الأدب مع السلف وبمخالفة الإجماع كما هي عادته في نعت مخالفيه غفر الله له! ولكن ما دمنا نتحدث عن تصحيح الأفكار فلا بد أن تتسع صدورنا للنقد وإن كان جارحاً، ونحن نعلم أن تصحيح الأفكار والأفكار الدينية على وجه الخصوص من أصعب ما يكون، وهي عملية غير مرحب بها وفي جميع الأديان، وكلنا يعلم كم عانى المجددون والمصلحون في هذه الأمة من أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية وابن القيم ومحمد عبده ورشيد رضا والبنا وغيرهم في القديم والحديث. وللشيخ محمد بن صالح العثيمين كلام مهم في تخطئة الفقهاء الذين أدخلوا عقوبة المرتد في باب الحدود ، وفي تخطئة من يقول: (حد الردة) قال ابن عثيمين رحمه الله : ((الحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه بل يقتل بكل حال، أما الكفر فإنه يستتاب صاحبه، وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود ، وذكروا من الحدود قتل الردة. فقتل المرتد ليس من الحدود لأنه يستتاب، فإذا تاب ارتفع عنه القتل، وأما الحدود، فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه ، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة ليس كفارة ، وصاحبها كافر...))(1). انتهى كلام ابن عثيمين رحمه الله وإذا ثبت وتقرر أن عقوبة المرتد ليست من الحدود، فحتى لو سلمنا بعقوبة المرتد غير المحارب فعقوبتة تعزيرية مفوضة إلى القضاء في الدولة الإسلامية، والسلطة القضائية تقرر ما تراه مناسباً وملائماً بحسب السياسة الشرعية، بما في ذلك تخفيض أو إلغاء العقوبة، وبهذا يتبين ضعف الرأي السائد الذي يعتبر الردة جريمة من جرائم الحدود، يُعاقَب عليها بعقوبة مقدرة واحدة، وهي عقوبة القتل. خطأ الوقوع في التعميم والاستعجال في إطلاق الأحكام الكلية إطلاق الدعوى بلا تحقيق، والجرأة على التعميم وإطلاق الأحكام الكلية خطأ آخر من الأخطاء الفكرية والمنهجية كنت أتمنى أن لا يقع فيه الأخ علي، فالتعميم لا يكون إلا بعد الاستقراء التام، ولأن الاستقراء التام لا يمكن في الغالب الجزم به؛ لاحتمال وجود المخالفة في بعض الأفراد، فالعقلاء يتسمون بالحذر الشديد من إطلاق التعميمات الكلية فيما مرجعه الاستقراء، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: من ادعى الإجماع فهو كذاب، وما يدريه لعل الناس قد اختلفوا! يقول الأخ علي في مقدمة موضوعه : ((الردة هي خروج المسلم من الإسلام، وهذا كفر يهدر دمه، وقبل قتله يناقشه العلماء ثلاثة أيام أو شهراً أو مدة محددة لإزالة ما دفعه لهذه الموبقة، فإن أصر بعد ذلك قتل، هذا باختصار مذهب الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة وأتباعهم إلى اليوم ومذهب جميع أئمة السنة...))! ومع أن تعريف الأخ علي للردة ليس دقيقاً، وبإمكانه الرجوع إلى أقرب كتاب في الفقه للوقوف على تعريف الردة تعريفاً صحيحاً منضبطاً، لكن الواضح أن مقصوده إيهامنا بإجماع الصحابة والتابعين وأهل السنة على قتل المرتد، وهو قد صرح بهذه الدعوى كما سيأتي معنا في دليله الحادي عشر، وهي دعوى باطلة بلا شك، فالخلاف في عقوبة المرتد المسالم موجودة منذ زمن الصحابة والتابعين، وخلاف الحنفية للجمهور في قتل المرتدة أشهر من أن يذكر، فالحنفية لا يرون قتلها. وسأنقل للأخ علي كلام رمز كبير من رموز السلفية التجديدية وهو الشيخ الدكتور حاكم المطيري ، حيث يقول: ((وأما حكم من ارتد ففيه خلاف بين السلف، وقد ذكر ابن حزم الخلاف في حكم الردة في كتاب الحدود، مسألة 2199 فذكر أن طائفة منهم قالوا: (يستتاب أبداً دون قتل) ثم ساق بإسناد صحيح حديث عمر، ثم قال بعد أن ذكر حجج المخالفين: (ومنهم من قال بالاستتابة أبداً وإيداع السجن فقط ، كما قد صح عن عمر). وحديث عمر هذا رواه عبدالرزاق في المصنف 10/ 165ح 18696عن سفيان الثوري عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر رضي الله عنه فسألني عمر وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قال : فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم ، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل؟ فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلماً أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء. قال: قلت: يا أمير المؤمنين وما كنت صانعاً بهم لو أخذتهم. قال: كنت عارضاً عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن. وروى عبدالرزاق بعده 10/ 166عن الثوري عن عمرو بن قيس عن إبراهيم قال في المرتد: يستتاب أبداً. قال الثوري وهذا الذي نأخذ به. وقد أخذ بهذه السنة العمرية الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز، فقد روى عبدالرزاق في المصنف أثر رقم 18714 عن معمر قال: أخبرني قوم من أهل الجزيرة: أن قوماً أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلاً حتى ارتدوا، فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبدالعزيز، فكتب إليه عمر أن رد عليهم الجزية ودعهم. وروى نحوه سعيد بن منصور في سننه أثراً 2588 وفيه أن تستر فتحت صلحاً ثم كفر أهلها ، فغزاهم المهاجرون وسبوهم ، فأمر عمر بن الخطاب من سبي منهم أن يردوا إلى جزيتهم ، وفرق بينهم وبين ساداتهم. وقد صحح شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول 1/ 328 أثر أنس عن عمر بن الخطاب وهو صحيح بلا شك، فإسناده مسلسل بالأئمة الثقات الأثبات، فقد رواه سفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وهشيم بن بشير، وخالد الطحان وعلي بن عاصم، وعبدالرحيم بن سليمان، كلهم عن داود عن الشعبي به، لم يختلفوا في إسناده ولا لفظه، وقد أخذ به الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز، وإمام التابعين إبراهيم النخعي، وإمام أتباع التابعين سفيان الثوري، كما رواه عنهما عبدالرزاق في المصنف ، فقالوا: يستتاب أبداً ولا يقتل ... فدعوى الإجماع على قتل المرتد فيها نظر، وقد ذكر ابن حزم الخلاف فيها وهو من أعلم الناس بالإجماع))(2). انتهى كلام الدكتور المطيري، وسنعود إلى تفنيد دعوى الإجماع لاحقاً عند مناقشتنا للدليل الحادي عشر من أدلة الأخ علي القاضي. القفز على مرجعية القرآن مع ورود آيات قرآنية صريحة تتحدث عن الردة والمرتدين إلا أن الأخ علي لم يقف عندها، بل قفز مباشرة إلى الاستدلال بالسنة !. وهذا خلل منهجي طالما حذرنا منه وسنظل نحذر منه، وسنظل نطالب بإعادة الاعتبار لمرجعية القرآن الكريم، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولن نقبل أبداً أن يتساوى شيء مع القرآن فضلاً عن أن يقدم عليه! وقد أحسن الأخ مجيب الحميدي إلى الأخ علي القاضي وإلى قراء أفكار بتتبعه لعقوبة المرتد في القرآن الكريم. وهذه المسألة سنعود لها لاحقاً عند مناقشتنا للدليل الثاني عشر ، فنكتفي هنا بهذا التنبيه ! ومن الحلقة القادمة سنبدأ بمناقشة وتفنيد الأدلة التي استدل بها الأخ علي القاضي دليلاً دليلاً، وسنبين أنه لا حجة فيها للقائلين بإكراه الناس على الإسلام ، فالإسلام هو دين الحرية والاختيار لا دين الإكراه والإجبار. هامش (1) القول المفيد على كتاب التوحيد لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، 1 / 511 ، ط دار الثريا ، الرياض ، ط الأولى 1998م. (2). تحرير الإنسان وتجريد الطغيان ، ص 364 366. [email protected]