في شهري الرابع من الحمل، قصدت طبيبتي عندما حان موعد زيارتي الشهرية لها، لمعرفة جنس الجنين، فقالت وهي تبتسم مبروك إنه ولد، فرحت جداً بالخبر وأردت أن أتصل بزوجي وأخبره بالنبأ السعيد، لكنها أفسدت فرحتي، عندما طلبت مني أن أجري صورة صوتية وتحاليل خاصة لمعرفة إذا كان الجنين سليماً، أم لديه "متلازمة داون" أو ما يسمى باللغة الإنجليزية Down ,Syndrome Baby's فوجئت بالأمر وسألتها: لماذا تطلبين مني هذا، فلا أحد في عائلتنا ولا عائلة زوجي لديه تلك المشكلة؟ أجابت لقد أصبحت إلزامية تقريباً، ونحن نجريها على كل النساء الحوامل إلا إذا رفضن ذلك، شعرت بغصة ودقات قلبي بسرعة . كانت والدتي برفقتي . . أمسكت يدي وهي ترتجف مثلي، فأجبتها يجب أن أكلم زوجي، ثم أرد عليك، صحيح أنها كانت طبيبتي منذ خمسة أعوام، عند إنجابي ابنتيّ التوأمين، لكنها لم تطلب مني ذلك وقتها لماذا الآن، أجابتني، إن الإصابات بأمراض غريبة عجيبة يزداد كثيراً في العالم، لكن للأسف هناك أمراض لا نستطيع اكتشافها مثل التوحد، أو العمى، وفقد السمع، والتلاسيميا، وأمراض أخرى كثيرة، لذلك نحاول بالأشياء التي نستطيع اكتشافها لأنها تكون واضحة . قلت: وافرضي لا قدر الله أن الجنين لديه تلك المتلازمة، فماذا تعتقدين أنني سأفعل، قالت هذا الشيء تقررانه أنت وزوجك، فهناك أمهات يجهضن عندما يعلمن بالأمر، وهناك من يتقبلن أمر الله . وصلت إلى المنزل واتصلت بزوجي، فسألني ماذا قالت لك الطبيبة، قلت بفرح تشوبه غصة، إنه ولد يا حبيبي، أخذ يضحك من قلبه ويشكر الله على نعمته، لم أقل له شيئاً على الهاتف، خاصة أن سعادته كانت لا توصف، ثم لماذا أقلقه منذ الآن فهي لم تؤكد شيئاً كل ما قالته إنها تريد الاطمئنان، لكن يا سبحان الله قلب الأم لا يخطئ، عندما يتعلق الأمر بأحد أبنائها، جلست والدتي بقربي تهدئ من قلقي وروعي، وتقول بإذن الله تعالى سيكون كل شيء على ما يرام، وصل زوجي بسرعة، أخذني بين ذراعيه وهو سعيد جداً، وقال أخيراً سيأتي ولدي محمد . شعر بأنني لست على ما يرام ، سألني مالي أراك حزينة أو متوترة، قلت له بابتسامة باهتة، أريد أن أحدثك بشيء، جلس بجانبي، وقال: ما بك يا حبيبتي؟ هل أنت متعبة أو تشعرين بشيء؟ أجبته: لا الحمد لله، أنا لا أشكو من شيء، ثم بتردد وبعد انتقاء الكلمات أخبرته بما قالته لي طبيبتي، فقال ولما أنت خائفة، معها حق هكذا نطمئن أنه بخير، إنه فحص روتيني يجرونه للجميع، أليس هذا ما قالته، أجبته نعم، إذا لما أنت خائفة، الحمد لله لا يوجد عندنا أحد إن كان من عائلتك أو عائلتي لديه مرض أو علة، وأعتقد أن هذا الشيء في الجينات أليس كذلك؟ أجبته بنعم كي لا أنقل له قلقي، لكن شيئاً في داخلي كان ينبئني بأن طفلي سيكون كما قالت الطبيبة، قمنا بالاتصال بها لتحديد موعد وأصر زوجي على مرافقتي، عندها أصبح شكي في مكانه، لقد كان الجنين مصاباً للأسف بمتلازمة داون، صعقني الخبر كما فعل بزوجي، مع أنني كنت أشك بالأمر إلا أنني ككل أم تحاول أن تكذب إحساسها، جلست أبكي بكاء مراً، أخذ زوجي الذي كان أقوى مني يطلب مني أن أهدأ، قلت له: لماذا طفلي أنا، طفلنا؟ قال لا تكفري استغفري الله إنه أمره، واحمديه فلا يُحمد على مكروه سواه، وعندما شربت الماء وبدأت استوعب الأمر، قالت لنا الطبيبة، ماذا تريدان أن تفعلا، سألها زوجي بماذا؟ أجابت بالجنين . صرخ زوجي قائلا، هل تسأليننا إن كنا نريد الاحتفاظ به أم لا، قالت نعم إنه قراركما وأنا من واجبي أن أسألكما، قال إنه هبة من الله، وهو ولدي، فهل أقتل ولدي لمجرد أنه مختلف؟ حاشا ثم نظر إليّ وكأنه يسألني رأيي ولكن برجاء، فقلت له: بالطبع سأحتفظ به، لماذا تنظر إليّ وكأنك تنتظر أن أقول شيئاً آخر؟ إنه فلذة كبدي وهذا أمر الله سبحانهُ تعالى، وأنا راضية بما كتبه لنا . هنأتنا الطبيبة على إيماننا بالله وخضوعنا لمشيئته بكل طيبة، بالطبع استوعبت صدمتنا في البداية فهذا شيء طبيعي، وقالت لزوجي، أريد أن أجري دراسة الكروموزومات عليك، لأنها عادة ما تأتي من الأب، لم نفهم في البداية، خاصة أن لدينا التوأمين اللتين هما بصحة جيدة، لا تشكوان من شيء والحمد لله، أجابت: ليس بالضرورة أن يكون كل أولادك هكذا، على كل حال لا أستطيع أن أقول شيئاً إلا بعد إجراء الدراسة عليك، هنا شعرت بأن زوجي قد توتر فعلاً، وشعر بأنه المسؤول عن إعاقة جنينه، شعرت الطبيبة معه، فقالت: دعك من الأفكار السوداء ولننتظر النتائج . انتظرنا نتائج التحاليل ونحن نعيش في توتر دائم، وسكوت شبه تام، كنا بالكاد نتكلم زوجي وأنا ليس من أجل شيء، فقط لأننا كنا نعيش قلقاً ولا نعلم ماذا نقول: لا أستطيع طمأنته ولا هو بالمقابل، لذلك كان الواحد منا يمسك بيد الآخر، أتت والدتي وأخذت التوأمين إلى منزلها، لأن حالتي النفسية لم تكن تسمح لي بالاهتمام بهما كما يجب، أو كما تعودتا، فأنا أهتم بكل شيء يخصهما، حتى طعامهما فأجلس بينهما وأطعمهما بيدي، أراجع معهما واجباتهما المدرسية، لذلك أخذتهما والدتي، وبعد انتظار مرير، شعرنا بأنه دهر، مع أن الفترة كانت ثلاثة أسابيع فقط، حيث جاءت نتائج دراسة التحاليل إيجابية، عندها بدأنا نجهز نفسنا للتعامل مع موضوع الطفل الآتي وكان هناك الكثير من العقبات أمامنا، أولها كيف يجب أن نتعامل معه، وكيف نجعل شقيقتيه يتقبلانه في ما بعد، ومتى يجب أن نضعه في مركز خاص بالأطفال الذين لديهم الحالة نفسها، ثم قلت لزوجي، كيف نبلغ أهلنا وأصدقاءنا بهذا النبأ؟ نظر إليّ زوجي الذي كان أكثر شجاعة وتقبلاً للموضوع مني، نقول الحقيقة، إنه طفلنا وهو هبة من الله أراد لنا الخير فيه، وهم أحرار أن يتقبلوا الموضوع أم لا، المهم نحن، قلت: إنني أفكر في المستقبل أي عندما تصبح الفتاتان في سن الزواج، ألن يخاف من سيتقدم لهما أن تضعن مولوداً مثل شقيقيهما، قال: سنسأل عن ذلك . تخطينا المرحلة تلو الأخرى دون تعقيدات تذكر، فأهلنا صدموا في البداية مثلنا تماماً، لكنهم حاولوا أن يخففوا عنا كثيراً، ووقفوا بجانبنا، لم يتركونا أبداً، ثم بدأنا زوجي وأنا في زيارة المراكز المختصة بحالته، فرأينا الكثير من الأطفال، كانوا فرحين ويلعبون، يتكلمون ويضحكون، اقترب بعضهم منا وسلم علينا، وآخرون سحبونا خلفهم كي نرى رسوماتهم، شعرنا بالفرح العارم معهم، كانوا كأي أطفال آخرين، لا تعرفهم إلا من شكلهم لكن لو أغمضت عينيك فلن تشعر بالفرق خاصة الذين أُدخلوا إلى المركز في سن مبكرة فهم يتكلمون مثلنا . عندما خرجت من غرفة الولادة كان زوجي وأمي أول من رأيت، ابتسما لي ثم قال زوجي إن ابننا مثل القمر، وهو بخير وبصحة جيدة، وكانت عيناه تلمعان فقلت له: أتبكي يا أبو محمد؟ أجابني: إنها دموع الفرح، قلت أريد أن أراه، أجابني: بعد أن ترتاحي يأتون به إليك، وفعلاً بعد حوالي ساعة، أتى زوجي به، تأملته فرأيته طفلاً رائعاً، فقط عيناه كبيرتان قليلاً وتشبهان عيون اليابانيين، أمسكت يده الصغيرة فرأيت راحة يده غير المكتملة، وخطاً يقطعها . . لم أستطع البكاء، بل شعرت بغصة قوية في قلبي، مسكين يا طفلي الحبيب، سامحني لأنني أنجبتك، فلم أستطع أن احتمل فكرة فقدانك، لكنني أعدك بأنني سأبقى أنا ووالدك دائماً بقربك، نحبك ونرعاك، نهتم بك ونفعل المستحيل من أجلك، بعد أن أجروا له في المستشفى جميع الفحوص اللازمة وجدوا أن وضعه جيد والحمد لله، ولم يكن يعاني مشكلة في قلبه، ولم يكن يعاني مشكلات أخرى، كما كانت قدرته على الرضاعة قد أثارت استغراب الأطباء، حتى إنه كان يتحرك كثيراً، كنت أخاف عليه في ساعة الاستحمام . عندما بلغ أربعين يوماً من العمر، أخذناه إلى المركز كي يبدأ بتلقي الخدمات اللازمة عندهم، وكنا نحن نتابعه أيضاً في المنزل، وندربه على أشياء في المنزل أنا ووالده، وشقيقتاه اللتان كانتا تحبانه بشدة . كان طفلاً سعيداً مليئاً بالحركة، دائم الضحك واللعب، أضاف البهجة على حياتنا، إنه رائع ولدي الحبيب، فعلاً إنه هبة ونعمة من الله، لا أخفي عليكم أني أحياناً أشعر بغصة في قلبي بسبب وضعه، ولكن عندما أنظر إليه وقد أصبح الآن في الثالثة من عمره، كيف يلعب مع شقيقتيه ويتشاجر معهما، يضحك لهما، كيف يرمي بنفسه علينا أنا ووالده، أشكر الله لأنه خفف من مصيبتنا حيث إن وضع ابني أفضل بكثير من غيره، لكن المشكلة في بعض الناس، فأنا عندما أفكر في مستقبله، أو عندما يأخذ الله أمانته وأموت ماذا سيفعل، ومن سيهتم به، فالخدمات المتوفرة لمن هم مثله قليلة، مع أن عددهم يتزايد مع الأيام، فيجب أن ننسق نحن من لدينا تلك الحالات مع المعنيين لتأمين التأهيل المناسب لهم، كي يكونوا عاملين فاعلين في المجتمع هذا المجتمع الذي، للأسف، أفراد المجتمع لديهم نظرة سلبية تجاه هؤلاء الأطفال، ويعتقدون أنهم عالة على أهلهم ومحيطهم، أخاف من المستقبل فهل سيكون مظلماً أم مضيئاً، فليتولاك الله يا ولدي . [email protected]