فرحة عارمة تجتاح جميع أفراد ألوية العمالقة    الحوثيون يتلقون صفعة قوية من موني جرام: اعتراف دولي جديد بشرعية عدن!    رسائل الرئيس الزبيدي وقرارات البنك المركزي    أبرز النقاط في المؤتمر الصحفي لمحافظ البنك المركزي عدن    خبير اقتصادي: ردة فعل مركزي صنعاء تجاه بنوك عدن استعراض زائف    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    مع اقتراب عيد الأضحى..حيوانات مفترسة تهاجم قطيع أغنام في محافظة إب وتفترس العشرات    هل تُسقِط السعودية قرار مركزي عدن أم هي الحرب قادمة؟    "الحوثيون يبيعون صحة الشعب اليمني... من يوقف هذه الجريمة؟!"    "من يملك السويفت كود يملك السيطرة": صحفي يمني يُفسر مفتاح الصراع المالي في اليمن    تحت انظار بن سلمان..الهلال يُتوج بطل كأس خادم الحرمين بعد انتصار دراماتيكي على النصر في ركلات الترجيح!    الهلال بطلا لكأس خادم الحرمين الشريفين    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    تعز تشهد مراسم العزاء للشهيد السناوي وشهادات تروي بطولته ورفاقه    مصادر دولية تفجر مفاجأة مدوية: مقتل عشرات الخبراء الإيرانيين في ضربة مباغتة باليمن    المبادرة الوطنية الفلسطينية ترحب باعتراف سلوفينيا بفلسطين مميز    شاب عشريني يغرق في ساحل الخوخة جنوبي الحديدة    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    عاجل: البنك المركزي الحوثي بصنعاء يعلن حظر التعامل مع هذه البنوك ردا على قرارات مركزي عدن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و284 منذ 7 أكتوبر    الحوثي يتسلح بصواريخ لها اعين تبحث عن هدفها لمسافة 2000 كيلومتر تصل البحر المتوسط    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    لكمات وشجار عنيف داخل طيران اليمنية.. وإنزال عدد من الركاب قبيل انطلاق الرحلة    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    حكم بالحبس على لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    النائب العليمي يؤكد على دعم إجراءات البنك المركزي لمواجهة الصلف الحوثي وإنقاذ الاقتصاد    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الإخوان في اليمن يسابقون جهود السلام لاستكمال تأسيس دُويلتهم في مأرب    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    جماهير اولمبياكوس تشعل الأجواء في أثينا بعد الفوز بلقب دوري المؤتمر    مليشيا الحوثي تنهب منزل مواطن في صعدة وتُطلق النار عشوائيًا    قيادي في تنظيم داعش يبشر بقيام مكون جنوبي جديد ضد المجلس الانتقالي    بسبب قرارات بنك عدن ويضعان السيناريو القادم    تقرير حقوقي يرصد نحو 6500 انتهاك حوثي في محافظة إب خلال العام 2023    لجنة من وزارة الشباب والرياضة تزور نادي الصمود ب "الحبيلين"    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    الامتحانات.. وبوابة العبور    رسميا.. فليك مدربا جديدا لبرشلونة خلفا للمقال تشافي    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    حكاية 3 فتيات يختطفهن الموت من أحضان سد في بني مطر    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    وزارة الأوقاف تدشن النظام الرقمي لبيانات الحجاج (يلملم)    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    اعرف تاريخك ايها اليمني!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السماء/ البرّ / البحرُ / انطباعاتٌ عن مالطا -
نشر في الجنوب ميديا يوم 23 - 11 - 2012


مواضيع ذات صلة
السماءُ
ذي هي السماءُ التي أحببتُ، حوالي غيومٌ متراكمة كالجبال، جبل فوق جبل.
حيناً هي كتلٌ عملاقة، قطنيّة أو صوفيّة أو ضبابية. ضبابٌ عاتم من ذرات ضوئية أو مائيّة.
لكنّ السماء / بغيومها / مثل الأرض لها أودية ٌ وقممٌ وسفوح وممرّات.
قبل أن تُقلع بنا الطائرة ُ كانت الغيومُ تُحلقُ فوقنا، عالية وبعيدة. والآنَ نحنُ فوقها. وتبدو لنا على ارتفاع 39 ألف قدم مثلما تبدو ونحن على الأرض. تلك نائية تُحلق فوقنا، وهي، هنا، غائرة تحتنا. أرى تموجاتها الجغرافية ودروبها وشعابها وقممها وسفوحها والتواءاتها ومنحنياتها أشكالاً أشكالاً. فلو فسّرناها وفق خيالنا لبدتْ مثلَ كائنات خرافية. لكنّي سألتزم برؤياي التي تقول إنّها ارضٌ اخرى في أعالي السماء ونحنُ غيماتٌ نطوف فوقها. ولو قُدّرَ لي أن انزل فوقها وأجولُ بين وهادها كنتُ كمَنْ يقطع طريقه في أصقاع المُخيّلة. اذاً، سأبقى فوق مقعدي واطلُّ من النافذة الصغيرة على عوالمها الغرائبية. السفرُ هناك يكلفني أزمنة لا أياماً لقطع المسافات.
تلجُ بنا الطائرة ُ تارة ً في أدغال ضبابية قطنية، وتارة نكون فوق قمم وأودية لا أولَ لها ولا آخرَ. السماءُ / هنا / كالأرض، والصورُ قد تكون هي ذاتها، لكنّها عارية قفراء، مجرّد تعرجات بيض وقباب والتواءات عشوائية نازلة وصاعدة. بل كائنات هُلام جيء بها من سدم الخيال والحلم، تُحلق تحتنا وتنساب وتتشابه وتختلف. بيدَ انها عاقر بلا اهل.
عالمُ السماء / مرأى الغيمات تحتنا / محضُ أخيلة من بخار مختلف، مُعتمة بيضاء مُتشظية. ميزة ُ العالم التحتاني / الأرض / إنّه ينبض ويتكلم ويتحرّك ويشعُّ ألواناً تُعانق اخرى. حياة ٌ تجوب وتتجوّلُ عبر كائناتها من بشر وحيوان وجماد ونبات ورياح. سأتذكرُ أنّ فوقنا / احيانا / دنيا اخرى من هباب وذرات ماء لها قببٌ وابراج ٌ وفجوات عميقة ومسارات تتلوى باتجاهات مُتضادة. ومن ميزة السماء انّ جسدَ الطائرة يخترم القمم والهضاب من دون أذى. بعض الركاب يخافون النظر الى الخارج، لكنّي كلفٌ بالتحديق فيه اوانَ التحليق والهبوط. وفي كلتا الحالتين يزدحمُ سمعي بالطنين بل ينغلق كما لو وُضِعت في كلّ اذن سدادة فلين. وعندما نكونُ على الأرض ننظر دوماً الى الأمام، واحيانا في كلّ الاتجاهات. لكننا في السماء يتّجهُ نظرنا الى الأسفل وما ينطوي عليه من مدائن وأفضية خضراء وانهارملتوية لا تُرى بداياتُها ولا مصباتها، وبحيرات واسطح مبان تلمع تحت ضوء النهار.أحياناً أتساءل: لمَ تكونُ المسافاتُ بعيدة على الأرض وهنا كلها تحت النظر وأرى ابعدَ ابعدها ؛؛ ومع مرور الوقت تُحلقُ بنا طائرتُنا ونحنُ الأعلون والأرض والغيوم تحتنا. مَنْ يُصدّقُ أنّ السماء دنيا اخرى تعلو دنيانا نتنقل فيها من صقع الى آخر. وحين تُحسّ بثقل كائناتها تتخلص من بعضها لتكون خيراً لحيوات الأرض وسيولاً وعواصف مدمّرة احياناً.
ويمضي بنا الوقتُ / امدُه اربعُ ساعات / حتى نصل الى مالطا، اخترمنا خلاله السماء غيماً وصحواً. وقبل نزول الطائرة بربع ساعة اختفت ِ الغيوم وتمرأى لنا البحرُ المتوسطُ ُازرق صافياً ترتعشُ فوق زرقته خطوطُ أمواج رفيعة، تمخرُ فيه سفائن وقوارب بأشرعة ومن دونها. السفنُ صغيرة كما لو انها علب سيجاير مرمية على بساط ازرق. وحين تهبط بنا الطائرة تقترب الأرضُ أو نقتربُ نحن منها. وذي عجلاتُها تلامس مدرج المطار بل تدكّه دكّاً. وثمة حولي ركابٌ يخافون لحظة صعودها ونزولها، لكنّي كلفٌ بكليهما. ولا شيء أجمل عندي من لحظات الصعود والنزول. وما بينهما كسلٌ طويل ومملٌّ.
..................
البرُّ
هنا في مالطا التي لا تُشبهُ دول اوربا في شيء، كلّ شيء فيها مشرقيٌ / مع اختلاف طفيف /. اللغة نصفها عربيٍ مغاربي، ونصفها الآخر خليط ُ لغات. بيدَ ان سائق التاكسي بدأ يشكو من تسرب الآنجليزية التى تعمل على الغاء هويتها. وضرب امثلة نسيتها. مالطا اوربية / كونها ضمن الاتحاد الأوربي / لذلك جرت معاملة الخروج من المطار سهلة كاحتساء جرعة ماء. بخلاف المطارات العربية التي تُسألُ فيها عن سابع سابع جدودك. ناهيك عن التأخير والرشوة احياناً.
المساء حلّ ضيفاً سريعاً على الجزيرة، لكن عاصمتها / فالّيتّا / مثلُ مثيلاتها في عالمنا العربي. كنتُ أظنّ انني في شوارع البصرة أو الموصل. الشارع يضيقُ لدرجة الاختناق ويتسع. وحوالينا محلات مغلقة، استغربتُ ذلك، لكن السائق اوضح: انّ هذه المنطقة صناعية تُغلق بعد الخامسة عصراً. وكأنّ الشرفات والنوافذ والشناشيل الملوّنة استقدمت من مدائننا المشرقية. كان فرحي بالمشاهد الأتية والرائحة مبعث غبطة ادمعَت مآقيَ. لكنّي لم ابك، فللفرح دمعٌ مثلما للبكاء. بعد اربعين دقيقة توقفتْ سيارة التاكسي جوار المرفأ. ستحملنا عبّارة ضخمة الى الجزيرة الثانية ، الى / GOZO/... وكنّا وراء صف طويل من المركبات،على ميمنتنا وميسرتنا صفان آخران. اخبرنا السائق انّها تستوعب اكثر من 140 سيارة، لم اصدّقه. لكننا خلال دقائق ولجناها، وصعدنا نحن الى الطبقة الرابعة، وظلّ السائق في سيارته. كان الليل من حولنا محض ظلام ورائحة ماء وهدير محركات، ونجومُ السماء تُحلّق فوق الفضاء الأعتم. بعد ربع ساعة استقررّنا على الشاطيء ومن حولنا اضواء كابية ليست كالتي في المدائن الأوروبية. تسلقت بنا السيارة خلل دروب ضيّقة نحو فندق /...../ وجرى كلّ شيء سريعاً من دون تلكؤ. سحبنا حقائبنا الى غرفتنا في الطبقة الرابعة / انيقة ونظيفة وهادئة تشع بالأمن / والنافذة الوسيعة تُرينا البحر والميناء وعبارتنا الراسية. على ميمنة البحر هضاب تعلو وتكتظ بالبيوت والمباني الحديثة والتراثية، ثم كاتدرائية ذات ابراج شامخة تغمرها الأضواء، وخللَ كلّ ربع ساعة يُسمعُ قرع اجراسها. الفندقُ وسيع فيه عدة مطاعم، دلّنا النادلً الأنيق على مائدة. كان المكانُ عاجّاً بلغات عدة، ووجوه جاءت من اقاصي اوربا ودول القارات. لكن لم ارَ عربيّاً. صوتُ الموسيقى رخيّ نديّ، وحواراتُ الجالسين هاديْ اشبه بالهمس / ما عدا اصوات الأطفال /.. الطعامُ فاخر. كان ينبغي علينا انْ نتحرّك بعد تناوله وخرجنا نكتشف ما حولنا. امام فندقنا شارع من ممرّين لكنّه ضيّق، ينحدرُ عن يميننا ليدخلَ في احشاء المنطقة وصولاً الى المرفأ، ويصعد من يسارنا ليلج منعطفاً. ومضينا يساراً بجوار الجدار خشية من السيارات الآتية من خلفنا. السياقة هنا على الطريقة الإنجليزية، ذهاباً من اليسار، اياباً من اليمين. وامامنا درجٌ حجري ضيّق يأخذنا الى الأعلى. القمرُ/ في الثلث الأول من السماء / منيرٌ، الّاقٌ، كبيرٌ تكاد تقرأ تفاصيله وتلامسُ أحشاءه.الليلُ بليلٌ دافيء قياساً بليل ستوكهولم. وثمة حوالينا بيوت ذات ابواب صغيرة كأنّ ابعاضها جيئت بها من مدائننا العربية. وحوالينا دروبٌ ضيّقة، لكنْ بين آن ٍ وآن ٍ تمرق الى جوارنا سيارة توشك ان تلامس ارديتنا. جلسنا على مصطبة تشرئب على ثلاثة دروب ضيّقة قرب باب خشبي انيق. وحجب عنا جدارُ البيت قرص القمر الذهبي. لكنّ ضياءه غمرُ ماحولنا وامامنا. بعدئذ تجولنا قليلاً وعدنا الى غرفة الفندق من دون ان نرى احداً ما عدا قطتين بيضاء وطحلبية اقتربتا منا وداعبناهما وحكّتا رأسيهما بسراويلنا.
كان الفطور الصباحي مهرجاناً في اصناف الطعام والبشر واللغات. غبئذ ٍ حملتنا حافلة من طبقتين لتدور بنا / خلل جولة عشوائية / في ارجاء الجزيرة. النهار مشمسٌ دافيء فتوغلنا في الدروب التي تضيق تارة ً وتتسعُ اخرى. وقلما نرى اناساً. وعلى جانبي الطريق الذي يدور ويلتف بيوتٌ مشرقية ذات واجهات وطرز عربية. ابوابٌ انيقة وغريبة ذات مقابض برونز. النوافذ صغيرة وكبيرة ومختلفة شكلاً، وكذا الشرفات والشناشيل الملوّنة. لا ادري اهي شناشيلنا ام انّنا اخذناها منهم. لكن الاحياء السكنية التي نمرّ بها هي احياؤنا، وكأني بي اجري في دروب شاطرلو وصاري كهية وعرفة في كركوك، او اني ما زلتُ الوب في شوارع الكاظمية والأعظمية والعشار والبصرة القديمة. تترك حافلتنا تلك الدروب لتلج فضاء خالياً يكتظ بالصُبيرالشوكي والقصب والأشواك الخضراء. هضابٌ وراء تلال، واثار حجر مندرسة تعوم في الأفضية. حيناً يطلّ البحر ليختفي وراء منعطف. كنا نخترق فراغاً من الجدران الخربة والأحجار، وتلك كاتدرائية ضخمة تلوح على ميسرتنا ذات ابراج شامخة تنغرس في السماء. تقتربُ منها الحافلة وتتوقفُ في ساحة مكتظة بالسوّاح وسياراتهم، والجين فوهة الكاترائية الكبيرة وخارجين منها.
وقفنا هنيهة نزل منها عدة اشخاص وصعد اليها آخرون. ومضينا نتوغل في افق جديد. وتتكرر المشاهدُ والرؤى، ثمّ تحتوينا دروب اخرى لتحطّ مركبتنا رحلتها في ساحة تزحم باناس واكشاك الفاكهة ومقاه. نزلنا بعشوائية فسيعود الباص بعد اربعين دقيقة. لا بل يجيء كل نصف ساعة غيرُه، وبوسعنا ان نصعد ايّا من الباصات. لا جديد هنا، الأسواقُ العادية والدكاكين وسرادق لبيع الألبسة والحقائب والأحذية. تسوّقنا وشربنا القهوة وعدنا عبر ذات الدروب الى الفندق. وتكرّر المشهدُ نفسه في اليوم الثاني لكن السوق تغيّر.
غوزو تزدحم بالخلجان والشواطيء والآثار والمعالم الغرائبية وعشرات الكاتدرائيات المبثوثة في احشائها. انا لم اتمتع بمرأى المباني الآفلة، بل يروقني الزحام والسوق والناس والمقاهي والبحر انظره عن قرب او بُعد، لكني اختنق داخل المباني الأثرية. وخرجتُ بذكريات جميلة ذات صور لن انساها. اجمل ما في غوزو احياؤها ذات البيوت والمباني المشرقية. بعضها ذكّرني ببيوت الباشوات والأثرياء العراقيين. تذكرتُ منطقة العيواضية وكورنيشها حيثُ بيوت مولود مخلص وجعفر العسكري واغنياء بغداد، البيتُ ذو واجهة عريضة يمكن الصعود الى الباب الكبيرعبر بضع درجات. وعلى جانبي الدرج بضع شجرات برتقال أو ليمون وربّما معها نخلتان، والنخلُ هنا / وما أكثرها / ذات عذوق كثيرة صفراء حباتُ تمرها صغيرة، بل خاوية. يبدو أنْ لا أحدَ يُعنى بها ويقوم بتلقيحها، أمّا الجذعُ فمشوّهٌ ووسطه منتفخٌ ومتشابك، ولا تشبهُ نخلة ُ مالطا سواها مما يزهو ويعلو في بلادنا العربية الّا في سعفاتها الكثيفة. عادت بي ذاكرتي الى بغداد الخمسينيات من حيث لا ادري....قبل ان تتسع مساحاتها اضعافاً أضعافاً. حيثُ كان للبيت البغدادي / أوالعراقي / طرازٌ خاص لا شبيه َله في ايّ مكان. ما زالت بقاياه البالية والمُتداعية ماثلة في الفضل والحيدرخانة وجديد حسن باشا والعاقولية والعباخانة والبتاوين.هنا بغدادُ اخرى تتنفس، لكنْ نظيفة ٌانيقة وآمنة لا خوفَ من موت كامن في زاوية ولا عدوان من احد على احد. مرّة ثانية بكت عيناي حزناً على ما آلت اليه مدائنُنا العراقية بعد الانقلابات الدموية والغزو الامبريالي الذي مسح من الذاكرة الجمعية ماكان يُسمّى / العراق /.............................
ونُغادر غوزو عائدين الى العاصمة / فالّيتّا / ويُضيّفنا فندق على البحرفي منطقة / سليمة /. والبحرُ على شكل لسان كبير حيثُ يربضُ قبالة نافذتنا /في الطبقة السادسة / ساحلٌ آخر طويل مكتظ ٌ بالقلاع والأبراج والأسوار التراثية العالية توشك أن تلامس الغيوم البيضاء. بين اللسان البحري وبين المباني رصيف عريض يزدحم بمصاطب عليها اناس جاءوا يتنسمون رائحة الماء ويُجيلون نواظرهم في المرأى البانورامي العريض، وثمة اكشاك تبيع بطاقات لركوب القوارب المائية التي ترسوعلى الرصيف وتغادرُه ثانية ًلتدور خلل اللسان البحري وتمتّعَ الركّاب بمشاهدة معالم المدينة الأثرية. وبين الرصيف والبحر شارعان عريضان مكتظان بالسيارات الصغيرة والحافلات التي تنطلقُ من هنا الى احشاء الجزيرة واقاصيها البعيدة. في يومنا الأول جلنا في الكورنيش/ وثمة مقاه وحانات شرب ومكاتب سياحة ودكاكين تبيع كلّ لوازم الحياة اليومية / ثمّ توغلنا في الأفرع الصاعدة من جهة والنازلة من جهة اخرى. وهي ايضاً زاخرة بالمحلات والناس اغلبهم من السواح. هنا المدينة مزدحمة، تُصرَفُ خلالها اموالٌ ووقت. ونعود مُتعبين الى مثوانا. في اليوم التالي حملنا الباص الى الجهة الثانية ننتقل من حيّ الى آخر، وكأني بها هي نفسُها ممّا راينا في غوزو مع فارق أن ليس هنا فراغات وافضية قاحلة. بل بيوت ودروب متداخلة، حتى وصلنا الى / مدينة / هكذا اسمها باللغة الانجليزية. حط ّ بنا الباص في ساحة وعبرنا مشيّاً على الأقدام مجتازين حديقة تنطوي على نخل واشجارغريبة ثمّ دخلنا ممرّاً اشبه بجسر افضى بنا الى بوّابة كبيرة ادخلتنا الى ساحة مربعة. وثمة هنا وهناك ازقة ضيّقة تلجها سيارات. هنا لاشيء سوى ابواب تراثية مغلقة وجدران عالية وتماثيل. كنتُ ضجراً بالمكان فلا شيء يُغريني، وجرى بنا الوقتُ في أزقة ودروب تنطوي على دكاكين صغيرة لبيع التحف والصور، ومقاه قميئة تعششُ فيها العتمة. بعد لأي ٍ خرجنا وكدتُ اختنق , وارخينا اتعابنا في مقهى تحت سماء الظهيرة. لكن ما استوقفني كان غريباً لا يليق بدولة في الإتحاد الأوروبي. فقد رأيتُ طالبات صف من صفوف مدارس البنات وحدهن من دون بنين. بعد ذلك صفٌّ آخر من البنين وحدهم. تُرى لم يُمنع الاختلاط بين طلبة المدارس الإبتدائية هنا ؟ بينما دخلتُ المدرسة الشرقية الابتدائية المختلطة في كركوك في عام 1944. نعم، في كركوك كان طلابُ بعض الإبتدائيات من بنات وبنين. عدنا في الثانية بخفي حنين. أمضينا جُلّ رحلتنا الدرامية في الحافلة. لكن فضيلتها انّها ارتنا الدروب والأحياء الشعبية. وأن انسّ لا أنسى مرأى ذلك الحمار الصغير بصحبة صاحبه، / لونه الغريب وشكله الأشبه بحيوان اللامة / التقطنا له صورة.
ليالي فالّيتّا مفعمة بالسهر حتى بعد منتصفها. شارعُ الكورنيش عاجٌّ بضجيج السيارات والموتورسايكلات العشوائية وصياح السكاري. فيما البحر الى الجوار ساكن ساج تستقر على صفحته السفائن والقواربُ. بعض السفن شراعية طويت اشرعتها وظلت الصواري تنطحُ السماء.
البحرُ
رحلة ُ البحر ماتعة ٌ في نظر البعض ومُملة في نظري. هي دورة ٌ أمدُها تسعون دقيقة تجري بنا مركبتنا على حواشي الماء نتملّى خلالها مرأى شواخص المدينة المطلة على الخليج. هي ايضاً قلاع وكاتدرائيات وابراج واسوار وسفائن راسية / منها يخوتٌ كبيرة اشبه ببجعات عملاقة / واخرى تقطع طريقها الى مكان ما. كاميراتُ السياح تومض تلتقطُ المشاهد الغريبة. عدنا متعبين لا من المشي وانما من الدوخة التي عرتنا. وكنا بصعوبة نقف على ارجلنا. متعة ُ البحر محبطة بالنسبة اليّ وحسب.
محصلة ُالرحلة الى مالطا أنّي تمتعتُ بالدفء الذي افتقدناه في السويد، وبمشاهد حلمية عن الحارات والدروب المشرقية. وربّتما ولج بي خيالي الي بيت من البيوت. ارتقيتُ درجاته الحجرية نحو الباب، وطرقتُ عليه بالمطرقة البرونزيية على شكل كف. وانفتح / ولا يهمني مَن ِ الذي فتحه / بل ولجتُ الصالة وانسللتُ الى غرفتي نازعاً ثيابي ولابساً بجامتي، كانوا ينتظرونني في غرفة الطعام، وما ان فرغنا من تناوله حتى صعدتُ الى غرفتي لأتصفح الصحف والمجلات التي جئتُ بها، ولأنامَ حتى الرابعة عصراً. حين ولجتُ فراشي انقطع شريط الحلم ووجدتني على مقعد الطائرة عائدين الى ستوكهولم: مثوى الأمل والأمان.
كانت النافذة على يميني مغمضة العينين / بل عمياء / ففي الليل المكتظ بالغيوم لا يمكن ان ترى شيئاً. لكني فجأة رأيت خلل لحظات صحو عاجلة الهلالَ الممتليء، هلالاً لم ار مثله من هذا العلو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.