النماذج الأدبية والأدب المقارن بقلم د. يسري عبد الغني عبد الله باحث وخبير في التراث الثقافي [email protected] عنوان المراسلات : 14 شارع محمد شاكر / الحلمية الجديدة / بريد القلعة (11411) / القاهرة / مصر . هاتف : 0223176705 محمول : 011146565 يمكن لنا تقسيم هذه النماذج الأدبية إلى طوائف :- الطائفة الأولى : وهي النماذج الإنسانية ، وتتصل بالأدب المقارني إذا انتقلت من أدب إلى آخر . والنماذج الإنسانية العامة أنواع ، فمنها : نماذج الشعوب أو السلالات البشرية : الفرنسي ، أو الإنجليزي ، أو الألماني ، الإيطالي ، أو الأمريكي ، أو المصري ، أو المغربي ، أو الفلسطيني ، ... إلى أخره . ونماذج المهن أو الوظائف أو المراكز ، مثل الوظائف أو المراكز الدينية : الحبر أو الراهب ، الكاهن أو القسيس ، الشيخ .. ومثل المهن : العامل أو الفلاح أو الحرفي ، المعلم أو الطبيب أو المحامي أو الصيدلي ، أو التاجر أو حفار القبور ، الجندي أو الشرطي أو الضابط أو الحارس ... ومثل : الجلاد أو الطاغية أو المخبر السري أو الجاسوس ، ومثل : البغي أو اللص أو قاطع الطريق أو المرابي .... وكذلك المنازل الاجتماعية والأخلاقية ، مثل : الرجل الفظ أو غير المتحضر ، أو الرجل الجينتلمان ، أو الرجل المنحرف ، كذلك نماذج المشوهين بدنياً أو سلوكياً أو المبتلين ، مثل : الأعمى ، المجنون ، المعتوه ، الأحدب ، الكسيح ، المقامر ، السكير ، مدمن المخدرات ... والباحث المقارني يدرس هذه الشخصيات في مختلف الآداب ، يدرس تصوير الأدباء لهذه النماذج الاجتماعية والإنسانية . ويتأتى ذلك عن طريق تتبع الباحث المقارني للصفات المشتركة التي رآها الأدباء في هذه الشخصيات ، ومدى تأثر بعضهم ببعض ، أو رد بعضهم على بعض .. مثال على ذلك : الفلاح ، تناوله عدد كبير من الأدباء ، وصوروا حياته وأعماله ، وكثيراً ما صوروا آلامه ومعاناته ، ويذكر هنا أن الكثير من الأدباء المصريين والعرب تأثروا بالأدب الروسي في تصوير الفلاح في بلادنا. ويمكن أن ندرس جوانب التأثر والتأثير بين الكتاب الذين تناولوا شخصية المومس أو البغي ، حيث اختلفت هذه الصورة في تناول الكتاب ، في مختلف الآداب ، وعلى مر العصور . بعض الكتاب اعتبر المرأة المنحرفة أو الساقطة امرأة فاضلة ، بل هي في صورة ملاك ، يساعد ويعطي دون أي مقابل ، وهذا ما لا يفعله من يتشدقون بالتدين أو بالأخلاق الفاضلة ، ولعل خير مثال على ذلك مسرحية (غادة الكاميليا) للفرنسي (الكسندر ديماس) ، التي عربها المنفلوطي بعنوان (الضحية) ، وضمنها كتابه(العبرات) ، ومثال آخر من الأدب العربي ، شخصية (نور) في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب) ، وشخصية (ريري) في (السمان والخريف) لمحفوظ أيضاً . وبعض الكتاب صور الساقطة في صورة ضحية مغلوبة على أمرها ، ضحية لا ذنب لها في سقوطها ، بل المسئول عن ذلك مسئولية كاملة المجتمع الذي قد يكون دفعها إلى الرذيلة أو الهاوية دفعاً . وبعض ثالث اعتبرها آفة اجتماعية ، لا سبيل إلى إصلاحها ، بل هي خطر داهم على المجتمع الذي تعيش فيه . ومما لا شك فيه أن مسرحية (غادة الكاميليا) كان لها أثر كبير على الكتاب العرب الذين تناولوا شخصية المومس أو البغي الفاضلة . ونحب أن نذكر هنا أن الكاتب / نجيب حداد كان من الكتاب الذين قلدوا الرواية الفرنسية موضوعاً وشكلاً ، وخاصة في روايته التي أسماها (إيفون مونار أو حواء الجديدة) ، التي تدور حول فكرة رد اعتبار العاهر ، وتأثر فيها بأفكار كل من : رومان رولان ، والكسندر دوماس ، وغيرهما في الأدب الفرنسي ، ونجيب حداد ليس غريباً عن الرواية الفرنسية ، فقد قرأها وترجم بعضاً منها ، وبذلك يعد نجيب حداد أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث . ومثال آخر على الموضوعات أو النماذج التي يتناولها الأدب المقارن ، موضوع الحب المحرم في التراث المسرحي أو القصصى العالمي ، وعلى صعيد الأدب العربي ، فشخصية (فيدرا) التي يمكن أن نعتبرها امرأة في ملتقى الآداب العالمية ، حيث يمكن تتبع قيمة كسر التابو أو التقليد في العلاقات الأسرية بنشوء عاطفة آثمة في داخل الأسرة ، وذلك بدءاً من مسرحية (هيبو ليت) للشاعر التراجيدي الإغريقي / يور بيدس ، ثم المعالجة الفرنسية لنفس الموضوع في القرن السابع عشر الميلادي بقلم الكاتب المسرحي / راسين ، تحت عنوان ( فيدرا ) ، ومعالجة نفس القيمة مع تغير الأدوار في الرغبة المحرمة في مسرحية (تحت أشجار الدردار) للأمريكي / يوجين أونيل ، ومسرحية (اللص) لتوفيق الحكيم . ومن النماذج العامة نموذج (البخيل) الذي دارت حوله مسرحية الشاعر اليوناني / ميتاندر ، وهذه المسرحية لم تصل إلينا ، ولكن الشاعر الروماني / بلوتوس قام بمحاكاتها في مسرحية له ، عنوانها : (أولولاريا) أو (وعاء الذهب) ، وجرى تصوير هذا النموذج في مسرحيات أخرى في بعض الآداب الأوربية من أشهرها مسرحية (البخيل) للشاعر الإيطالي / كارلوجولدوني ، ولا ننسى بالطبع أشهر مسرحية عرفت باسم (البخيل) للكاتب الفرنسي / (موليير) ، وكان لهذه المسرحية أثر كبير على الأدباء العرب الذين تناولوا شخصية البخيل . وعلى دارس الأدب المقارن أن يتناول موضوعاً من هذه الموضوعات من جوانب التأثر والتأثير . الطائفة الثانية : الطائفة الثانية من النماذج الأدبية ، هي النماذج الأسطورية الخيالية ، وهي تعود إلى حكايات قديمة أو موغلة في القدم ، تحورت أو تشوهت ، أو فقدت معناها الأصلي ، ومن هذه النماذج نموذج الشيطان ، وله تاريخ طويل وعريض في جميع المعتقدات الدينية ، مثل مسرحية (فاوست) لجوته ، ومسرحية (منفرد) لبيرون . وكذلك نموذج الساحرة الشريرة أو الساحرات ، وخير مثال على ذلك الساحرات في مسرحية (ماكبث) لشكسبير ، وكذلك نماذج الغول ، والعفريت ، والشبح ، وكلنا مازال يذكر شبح (هاملت) في مسرحية شكسبير . وهناك شخصيات أسطورية قد تتحول إلى رمز فلسفي أو اجتماعي ، ويتناولها الأدباء من وجهات نظرهم الخاصة ، أو من وجهة آرائهم المختلفة ، في إطار نظرتهم الخاصة ، والتي تتفق مع عصورهم أو مع واقعهم المعاش . ومن هذه الشخصيات انموذج بجماليون ، وهو فنان من جزيرة قبرص ، هاما عشقاً أو حباً بجمال تمثال صنعه بيده . وهذا الموضوع نفسه نجده في الأدب الروماني القديم عند (أوفيد) الروماني ، والذي عاش بين عامي 43 قبل الميلاد ، و17 ميلادية ، في قصته (المسخ) . وعرض لنفس الفكرة كتاب وشعراء من مختلف الآداب ، وتأثر بها من الكتاب العرب ، توفيق الحكيم في مسرحيته (بجماليون) التي نشرها عام 1943 م ، وإن كان الحكيم يطرح فيها مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة . ويجدر بالذكر هنا أن للكاتب الإنجليزي برنارد شو مسرحية بعنوان (بجماليون) ، وفيها يركز على مشكلة اجتماعية هي مشكلة الطبقة في المجتمع الإنجليزي . ومما لا شك فيه أن الحكيم تأثر بكل المصادر الأدبية التي عالجت شخصية (بجماليون) . نقول : إن فكرة أننا نقدر ونحترم ونحب من نصنع أو نربي أو نعلم ، أكثر مما نقدر ونحترم ونحب من صنعنا أو علمنا أو ربانا ، هذه الفكرة نجدها عند توفيق الحكيم في مسرحيته (شمس النهار) التي نشرها سنة 1965 م ، وبالطبع هي نفس الفكرة التي نجدها في بجماليون التي كتبها (أوفيد) الروماني ، وتأثر بها العديد من الفنانين والأدباء والشعراء . ومن تلك النماذج الأسطورية (برومثيوس) ، وهو من الأساطير اليونانية القديمة ، تدور حول إله من آلهة النار . وقد تناوله العديد من الشعراء في شعرهم ، وكذلك بعض كتاب المسرح في مسرحياتهم ، وبالذات في بلاد اليونان القديمة ، ثم انتقل هذا التأثر إلى الكتاب الأوربيين مع عصر النهضة الأوربية . وكذلك تأثر بهذه الأسطورة بعض الشعراء العرب ، مثل الشاعر التونسي / أبي القاسم الشابي ، في ديوانه (أغاني الحياة ) ، كما تأثر به الشاعر / عبد الرحمن شكري ، وكذلك عباس محمود العقاد ، وغيرهم . ونعود إلى شخصية أو رمز الشيطان فنقول : إنه نموذج دخل إلى الأدب ، وابتعد عن المصدر الديني ، وقد اتخذه الشاعر الإنجليزي / جون ميلتون ، الذي عاش بين عامي 1608 م و 1674 م ، عماداً لعمله المهم (الفردوس المفقود) . والرومانسيون يعبرون على لسان الشيطان عن آرائهم فيما يعتريهم من قلق وشك وبؤس وحزن وخوف وضيق . ويبدو واضحاً جلياً أثر هذه الشخصية في الأدب الروسي الرومانسي عند (ليرمنتوف) في قصيدته الغنائية التي عنوانها (الشيطان) ، وهو في ذلك متأثر إلى حد كبير بالشاعر الإنجليزي / بيرون . وقد جعل الأديب الفرنسي / فيكتور هوجو الشيطان ممثلاً للإنسانية كلها ، في حالة ابتعادها عن الله تعالى ، وإنه الحاسد لبني آدم لأن في عيونهم الأمل ، وفي قلوبهم الحب والصفاء . عباس محمود العقاد تأثر بهذه الشخصية ، فكتب قصيدة عنوانها (ترجمة شيطان) ، تحدث فيها عن شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين ، وتاب عن صناعة الإغواء . والقصيدة في مجملها تضم الكثير من آراء العقاد وتطلعاته الفلسفية التي ساقها على لسان الشيطان ، وهو فيها متأثر إلى حد كبير بالرومانسيين الأوربيين . ونشير إلى موضوع آخر في مجال دراسة الشخصيات المتميزة أو التي لها معالم أو ملامح معينة ، وهذا ميدان يهتم به الأدب المقارن ، ومثال على ذلك شخصية جحا الأسطورية التي تعود إلى المصادر الشعبية ، وقد أصبحت موضوعاً تتناوله الآداب العالمية بمختلف ألوانها ، فجحا هذا نجده في الأدب الشعبي المصري ، وكذلك في الأدب الشعبي التركي ، وفي الأدب الشعبي القوقازي ، والأدب الشعبي الفارسي .. وهو في كل هذه الآداب رمز للإنسان البسيط خفيف الظل ، والذي يعبر عن رأيه في شجاعة منتقداً أوضاع السلطة الحاكمة الفاسدة أو المستبدة ، حاملاً ملامح وعادات وتقاليد وأعراف كل أمة ينتمي إليها ، أي أنه على الإجمال خير معبر عن الوجدان الشعبي وموقفه من عصور القهر والظلم . وشخصية (شهرزاد) التي تعود إلى قصص ألف ليلة وليلة أو الليالي ، ونقلت إلى الآداب الأوربية وأصبحت رمزاً للاهتداء إلى الحقيقة عن طريق القلب والعاطفة . وعن الليالي انتقلت فكرة (علاء الدين والمصباح السحري) ، ومن الليالي أخذ توفيق الحكيم مسرحيته (شهر زاد) التي نشرها سنة 1934 م ، وكذلك أخذ طه حسين (أحلام شهر زاد) التي نشرها لأول مرة بالقاهرة ، سنة 1942 م . ومن ذلك شخصية (دون جوان) التي ظهرت سنة 1887 م ، ولا نستطيع دراسة البلد أو الموطن الذي نشأت فيه هذه الشخصية أو أسطورتها ، وما نعلمه أن أقدم مسرحية تناولت هذه الشخصية الأسطورية (ساحر إشبيلية) التي ألفها ترسو دي مولينا (1584 م 1648 م) ، وتبعه جمع من كتاب أوربا وشعرائها ، منهم : موليير الفرنسي ، وبيرون الإنجليزي ، وجولدوني الإيطالي ، وهوفمان الألماني . ويرمز دون جوان إلى الإنسان المستهتر المخادع الذي لا هم له ولا هدف إلا مغازلة النساء ، وتحطيم قلوب العذارى ، من أجل أن يفتنهن ثم يهجرهن دون عودة . ويصور بعض الكتاب دون جوان بصورة التائب الذي يلاحقه عذاب الضمير على ما فعل من خطايا ، إلى غير ذلك من الصور التي صورتها أقلام عدد من الكتاب والشعراء لهذه الشخصية وفقاً لوجهات نظرهم ، ولرؤيتهم الخاصة . هكذا استلهم كثير من الكتاب شخصية دون جوان محطم قلوب العذارى ، والذي لا نعرف له وطناً ، ولا نعرف في أي وقت ظهر ، استلهموا فيه أشياء شتى بهذا الاسم وبغيره ، وقد تعرضت لأسطورة دون جوان العديد من الأبحاث التي تمتاز بالغنى والدقة ، منها البحث الذي كتبه / جاندرم دي بيجوت ، وهو أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب ، والتي كان عنوانها (أسطورة دون جوان من أصولها إلى الرومانسية) . وكليوباترا كان لها حظ موفور في الآداب العالمية التي تناولتها في مختلف البلاد ، وقد برزت في بعض المسرحيات الفرنسية ، ومنها مسرحية ( كليوباترا الأسيرة) ، التي كتبها الشاعر الفرنسي / جوول (1532 م 1573 م) ، وظهر بعدها مسرحية (كليوباترا) للشاعر الإنجليزي / صموئيل دانيال ، المتوفى (1594 م) . كما تناول كليوباترا الشاعر الإنجليزي الشهير / شكسبير في مسرحيته (أنطونيو وكليوباترا) التي تأثر بها العديد من الأدباء في مختلف العصور ، حيث تناولها بعد شكسبير عديد من الأدباء في فرنسا وانجلترا وغيرهما من البلاد الأوربية . وفي مصر نجد مسرحية (مصرع كليوباترا) لأحمد شوقي ، وقد دافع فيها دفاعاً مستميتاً عن كليوباترا ، وجعل منها ملكة وطنية ، تحب مصر وتعمل على صالحها ، وتضحي بحبها من أجل مصر . ومن الشخصيات التاريخية في الأدبين العربي والفارسي ، نجد شخصية ليلى العامرية وحبيبها قيس بن الملوح العامري ، أو مجنون ليلى ، ولقصة حبهما حديث طويل بما نسب إليهما من أحداث تعرفها كتب الغزل العفيف ، وكتب التصوف . والمعروف أن أحمد شوقي له مسرحية عنوانها (مجنون ليلى) ، كما أن للشاعر / صلاح عبد الصبور مسرحية من الشعر الحر هي (ليلى والمجنون) . و تناول هذه النماذج والشخصيات بالبحث والدرس يعد من الموضوعات التي يدرسها ويهتم بها الأدب المقارن ، وهذا ما نجده كثيراً في الآداب الأوربية المختلفة ، ولكنه لا يزال حديث العهد والنشأة في الأدب ، وفي النقد العربي .