نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير .. (2)
نشر في الجنوب ميديا يوم 02 - 12 - 2012

"الشرق الأوسط في ما وراء الأساطير"، كتاب جديد للصحافي والدبلوماسي الفرنسي اريك رولو، يتحدث فيه عن مراحل مهمة في حياته المهنية، وتجاربه ولقاءاته، خصوصاً أنه عاصر مراحل بالغة الأهمية في المنطقة العربية وكان شاهداً على معظمها ومراقباً لها من خلال عمله في صحيفة "لوموند" الفرنسية، ثم من خلال عمله في السلك الدبلوماسي، حيث أقام العديد من العلاقات والصداقات مع الكثير من القادة والسياسيين وزعماء الأحزاب .
في هذا الكتاب إطلالة على مرحلة من مراحل التاريخ العربي، يكشف فيها أسراراً ومعلومات لم تكن معروفة من قبل من خلال لقاءاته وقراءاته .
"البروسيون" يتغلبون على "اليهود"
الفصل الخامس:
على الصوت المُصم للمدافع المضادة للطائرات، استيقظتُ في ذلك الصباح من يوم الخامس من يونيو/حزيران 1967 في القاهرة . كانت تلك هي "بداية حرب الأيام الستة"، التي سماها الجنرال ديان بذلك الاسم، لا بسبب المدة التي استغرقتها فحسب، وإنما أيضاً للتذكير بأن الرب قد خلق العالم في مدة زمنية مماثلة، فيما يشي بنزعة روحانية، لا تخلو من جنون العظمة . فبالفعل، احتل الجيش اليهودي في غمضة عين أراضي عربية شاسعة، تضم سيناء المصرية، وقطاع غزة، الذي كانت تديره حكومة القاهرة، والضفة الغربية التابعة للمملكة الهاشمية، إضافة إلى القدس الشرقية وهضبة الجولان السورية . ولم يكن أحد يدري بعدُ أن تلك الحرب الخاطفة ستغير بصورة عميقة من طبيعة الدولة اليهودية، وأنها ستخلق شعوراً بالهوية داخل الأوساط اليهودية، وأنها ستضعف من الأنظمة القومية العربية والتنظيمات العلمانية اليسارية لصالح البلدان المحافظة، وأنها ستحدث انطلاقة غير مسبوقة للحركات الإسلامية، وستسجل بدايات الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، الأمر الذي سهله أفول الاتحاد السوفييتي .
وهو ما يفسر أهمية تلك الحرب الخاطفة التي لم تكن محليةً إلا ظاهراً . وهو ما يفسر أيضاً ذلك الحشد الكبير من الأساطير، والأباطيل، والألغاز، التي خلفتها تلك الحرب وغذتها جزئياً إلى يومنا هذا . وفضلاً عن الوقائع الأكيدة التي كشف عنها مؤرخون، من بينهم مؤرخون "إسرائيليون"، استناداً إلى السجلات الرسمية الخاصة بالقوى المعنية وإلى شهادات الشخصيات الفاعلة في الأحداث أو الشاهدة عليها، سأضيف شهادتي المتواضعة، المبنية على تحقيقات أجريتها في "إسرائيل"، وفي العديد من البلدان العربية، قبل النزاع وفي أثنائه وفيما بعده .
كان الخامس من يونيو/حزيران 1967 أول يوم إجازة آخذها منذ وصولي إلى القاهرة، حيث ظللتُ طوال أسابيع عدة، أطلعُ قراء صحيفة "لومون"، يوماً بيوم، على تطورات الأزمة الناشبة بين "إسرائيل" وجيرانها، والتي كان من المحتمل أن تفضي إلى نزاع مسلح . وكان يوم الراحة ذاك قد بدا ممكناً نظراً لما لاح من احتمال التوصل إلى تسوية بالتراضي، وهو ما كان يعني استبعاد أي مواجهة عسكرية وشيكة . وقد بنيتُ آمالي على المعلومات التي أمدني بها في الثالث من يونيو (حزيران)، أي قبل يومين من بداية الحرب، تشارلز يوست ((Charles Yost مبعوث الرئيس جونسون لإدارة الأزمة بالتعاون مع السفير الأمريكي المعين حديثاً في منصبه . وقد وافق يوست على منحي هذا اللقاء بناءً على وساطة أندريه فونتين، (André Fontaine) ، رئيس تحرير صحيفة "لوموند"، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة . وكنا قد اتفقنا على أن تصريحاته ستظل سرية تماماً إلى اليوم الذي يمكن نشرها فيه بغير خسائر .
وقد فاجأتني صراحةُ تشارلز يوست، ذلك السفير المحنك، الذي سيصير فيما بعد ممثلاً للولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة . إذ عرض علي ما تم خلال محادثاته مع وزير الخارجية المصري آنذاك، محمود رياض، وخلال الحديث- الأكثر حسماً- الذي تم عشية اليوم السابق، بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والمبعوث الخاص للرئيس جونسون، روبرت أندرسون (Robert Anderson) ، الذي كان يعمل وزيراً في السابق، وتربطه علاقة صداقة بالريّس .
وكان الأخير قد أعرب له عن رغبته في تفادي نزاع مسلح واقترح أن يرسل إلى واشنطن يوم الأربعاء الموافق السابع من يونيو/حزيران نائب رئيس الجمهورية، زكريا محيي الدين، لاستكشاف إمكانيات التوصل إلى تسوية مُرضية للطرفين، مع موشي ديان الذي كان قد عُين لتوه وزيراً لدفاع "إسرائيل"، مع وساطة الأمريكيين عند الاقتضاء . وإلى أن يتحقق ذلك، فسيغمض عينيه عن عبورِ سفن الشحن "الإسرائيلية"، ذي الطبيعة غير الاستراتيجية، باتجاه ميناء إيلات "الإسرائيلي" عبر مضيقي تيران، على حدود سيناء، وهما المضيقان اللذان تسبب إغلاقهما، الذي نددت به الدولة اليهودية، في اشتعال الأزمة "الإسرائيلية" - المصرية .
وقد أكد عبد الناصر، في خطاب أرسله في اليوم التالي إلى الرئيس جونسون، على فحوى المقترحات التي قدمها إلى المبعوث الأمريكي، مضيفاً أنه مستعد لاستقبال نائب رئيس الولايات المتحدة، هبرت همفري Hubert Humphrey، لكي يعرض عليه وجهة النظر المصرية في الأزمة الحالية، بل لكي ينظر أيضاً في تسوية شاملة للنزاع "الإسرائيلي" - العربي . وقد أكد بقوة على اعتزامه تسويته سلمياً . وفي اليوم نفسه، بعث روبرت أندرسون بتقرير إلى الرئيس جونسون يؤيد فيه أقوال عبد الناصر . (وقد تم نشر هذين النصين اللذين كانا محفوظين ضمن سجلات وزارة الخارجية بعد ذلك بعشرين عاماً، كما يقضي القانون) . وعلى سبيل التهدئة، انتقد عبد الناصر تصريحات أحمد الشقيري، الذي كان في ذلك الوقت رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي التصريحات التي دعا فيها إلى تدمير "إسرائيل"، وكان عبد الناصر قد حرمه قبل ذلك من قيادة الوحدات الفلسطينية المسلحة، التي وضعها تحت إشراف ضباط مصريين حصرياً .
تواطؤ جونسون مع "إسرائيل"
في ذلك الوقت،كنتُ أجهل أمر الحيلة التي أقدم عليها الرئيس جونسون، الذي طلب من الرئيس عبد الناصر عدم المبادرة بالنزاع المسلح بينما كان قد أعطى"إسرائيل" موافقته على شن هجوم ضد مصر . هكذا، خول عنصر المفاجأة للدولة اليهودية تفوقاً حاسماً على خصومها العرب . ووفقاً للأعمال المتميزة التي قدمها مختلف المؤرخين، مثل أعمال الأمريكييْن ويليام ب . كوانت (William B . Quandt) ، والسفير ريتشارد باركر (Richard Parker)، فضلاً عن أعمال المؤرخيْن "الإسرائيلييْن"، مايكل ب . أورين (Michael B . Oren)، وتوم سيجيف (Tom Segev)، كان الرئيس الأمريكي قد أعطى قبل ذلك بأيام الضوء الأخضر (أو البرتقالي) لحكومة القدس، شريطة ألا تكون الولايات المتحدة طرفاً فاعلاً في النزاع . وقد بلغ التواطؤ بين البلدين حداً كبيراً حتى أن الرئيس جونسون قد أدخل بعض التعديلات في خطاب كان قد عرضه عليه رئيس الوزراء "الإسرائيلي" ليفي أشكول ( Levi Eshkol) قبل أن يلقيه في التاسع والعشرين من مايو/أيار في البرلمان .
يبقى أن النتائج الغالب عليها التفاؤل التي خلص إليها تشارلز يوست (الذي كان يجهل بالطبع حقيقة الخطاب المخادع الخاص بالبيت الأبيض) كانت تبدو مقبولة ظاهراً لاسيما وأنها كانت تتفق مع قناعاتي . وكنت مقتنعاً أن مصر كانت راغبة- حتى أكثر من "إسرائيل"- في تفادي الحرب .
إن محادثاتي السابقة مع عبد الناصر، والكلام الذي كنتُ أسمعه من أفراد في محيطه المباشر، لاسيما محمد حسنين هيكل، والمواقف الرامية إلى التهدئة التي اتخذها الريس في مؤتمرات "القمة" العربية التي نظمها في عامي 1964 و،1965 والهدوء الذي حافظ على استتبابه طوال أحد عشر عاماً على الحدود المصرية - "الإسرائيلية"، التي منع تسلل رجال الكوماندوز الفلسطينيين إليها، كل ذلك كان يؤيد رأيي: وهو أن الرئيس المصري، إدراكاً منه لتفوق "إسرائيل" عسكرياً، كان يرى- وفقاً للمقربين له - أنه لا يمكن تحقيق توازن بين القوى قبل مرور عشر سنوات . ففي الخطاب الذي ألقاه في 23 ديسمبر/كانون الأول ،1963 ندد عبدالناصر بالتصريحات العنترية والمزايدات الكلامية التي أطلقتها الدول "الشقيقة"، فهتف قائلاً: "إحنا النهارده ما نقدرش أبداً نستخدم القوة، وحنقول لكم بالصدق، ما نقدرش النهارده نستخدم القوة لأن ظروفنا لا تناسب، يعني إن أنا لا أستحي أبداً إذا كنت ما أقدرش أحارب إن أنا آجي أقول لكم ما أقدرش أحارب، إذا كنت ما أقدرش أحارب وأطلع أحارب أبقى باوديكم في داهية . . وأودي البلد بتاعتي في داهية" .
هكذا نجح عبد الناصر في تهدئة حمية الأصوات الداعية للحرب بين نظرائه العرب الذين كانت ديماغوجيتهم لا يعدلها سوى عجزهم . وفي الفترة ذاتها، كتب هيكل في صحيفة "الأهرام"، مستلهماً رأي الرئيس على الأرجح، أنه يجدر التحلي بالواقعية وتفهم أن مهاجمة "إسرائيل" إنما تعني إعلان الحرب على الولايات المتحدة وبريطانيا، حليفتي الدولة اليهودية . وفي جميع الأحوال، كان لمصر أولويات أخرى: مثل إدارة علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة، والتحديات الناجمة عن تعثرات المشروع الوحدوي العربي، والإصلاحات الكبرى المتخذة على أثر فشل الوحدة بين سوريا ومصر في ،1961 وتشييد السد العالي العملاق بأسوان . إضافةً إلى ذلك، لم يكن عبدالناصر ليسمح لنفسه بسحب صفوة قواته من اليمن حيث كانت تدافع منذ عام 1962 عن الجمهورية المؤسسة في العام نفسه، والتي كانت تتهددها القبائل الموالية للملكية . وكانت تلك الوحدات تمثل ثلث مجموع القوات المسلحة المصرية . وهكذا، طوال عشر سنوات، منذ عام 1956 وحتى ،1966 توارت المشكلة "الإسرائيلية" - العربية من على الساحة السياسية المصرية .
كان مما يدعو للدهشة أن يُرى الرئيس المصري، رغم طبيعته الحذرة والمتحسبة للعواقب، وهو يرتكب أثناء أزمة 1967 سلسلةً من الحسابات الخاطئة، ويتخذ إجراءات في غير موضعها، ويلقي خطابات عدوانية، اعتبرت بمثابة أعمال استفزازية في "إسرائيل" . بل إن بعض معاوني الرئيس المقربين قد أسروا إلي بأنهم لم يعد بإمكانهم فهم مسلكه . صحيح أنه كان لديه ما يؤرق خاطره منذ بدايات العام بشأن نوايا "إسرائيل" إزاء سوريا . ألم يعلن الجنرال إسحق رابين، رئيس أركان حرب القوات المسلحة "الإسرائيلية"، أنه سيشن هجوماً خاطفاً لاحتلال دمشق والإطاحة بالحكومة القائمة فيها إذا لم تكف هذه الأخيرة عن التحرش بالدولة اليهودية؟
وقد كشفت السجلاتُ الخاصة بمجلس الوزراء "الإسرائيلي" بالفعل أن رابين قد طلب عدة مرات موافقة الحكومة للانتقال بنواياه إلى حيز التنفيذ، من دون أن يحصل عليها .
استفزازات "إسرائيلية"
وقد تعددت الإشكالات بين البلدين، بل انتهت إحدى المعارك الجوية بتدمير عدة طائرات سورية . وقد دأبت الجماعة الحاكمة في دمشق، المكونة من الجناح الأكثر تطرفاً في حزب البعث، على إعلان نيتها "تدمير الكيان الصهيوني"، وعلى المناداة لذلك "بحرب تحرير وطنية"، وعلى السماح بتسلل المسلحين الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية، ومن أولئك أعضاء الحركة السرية التي يقودها ياسر عرفات، والمسماة بحركة "فتح" . إضافةً إلى ذلك، دأب حرس الحدود السوريون على إطلاق النار على المزارعين "الإسرائيليين" الذين يجازفون بالدخول إلى المنطقة المنزوعة السلاح بين البلدين . لكن لم تكن التوترات المتصاعدة منذ يناير/ كانون الثاني 1967 تُعزى إلى السوريين وحدهم، مثلما كان يعتقد الجميع ثقةً منهم في المعلومات التي كانت تُبث في القدس، والتي كانت تعتبر أجدر بالثقة من تلك التي كانت تبثها دمشق . كان لابد أن تمر سنوات طويلة قبل أن يفضي الجنرال ديان باعتراف جسيم، فقد أقر بأن الدولة اليهودية كانت مذنبة في "أكثر من 80% من المواجهات المسلحة" بإرسالها جرارات لحرث الأراضي في المنطقة المنزوعة السلاح، فيما يمثل خرقاً لاتفاقات الهدنة . وكان الجنود الذين يرتدون أزياء مدنية ويقودون الجرارات يتلقون الأوامر بمواصلة تقدمهم إلى أن يقرر السوريون، من فرط الغيظ، فتح النار، ليأتي من ثَم الرد الانتقامي من قبل مدفعية الدولة اليهودية وطيرانها . وأضاف الجنرال ديان قائلاً: "كنا نعتقد بسذاجة أن تلك المعارك المتكررة ستؤدي في النهاية إلى إرغام دمشق على الإقرار عملياً بالسيادة "الإسرائيلية" على المنطقة المنزوعة السلاح" .
وقد اعتقد جمال عبد الناصر أن التهديدات "الإسرائيلية" تعد جزءاً يتجزأ من مؤامرة أوسع نطاقاً . وإذ نبهته أجهزة مخابرات كل من دمشق وموسكو حول تركز القوات اليهودية على الحدود السورية - وهي معلومة تبين أنها عارية من الصحة - كان الرئيس يخشى هجوماً على سوريا من شأنه جر مصر إلى حرب خاسرة من البداية، ويتبعها سقوط النظامين الحاكمين في دمشق والقاهرة، طبقاً لما ترجوه واشنطن وتتمناه .
كانت الولايات المتحدة تتهم العاصمتين العربيتين بالتبعية للاتحاد السوفييتي، وبالسعي إلى تقويض الحكومات الموالية لأمريكا في المنطقة، وكانوا يعتبون بخاصة على ناصر لمساعدته حركات التحرر الوطني في العالم أجمع، وتنديده بالتدخلات العسكرية الأمريكية في كل من الكونغو، وسانت دومنجو، وفيتنام، ودعمه المتعدد الأشكال لجمهورية اليمن، التي كانت تهدد استقرار دول الجوار .
كانت واشنطن قلقة أيضاً من إقرار "الاشتراكية العلمية" في وادي النيل، ومن الإفراج عن جميع الشيوعيين المعتقلين، ومن سلسلة عمليات التأميم التي نهبت المؤسسات الغربية . خلاصة القول، كانت الحملة المناهضة للاستعمار التي شنتها القاهرة قد وصلت إلى أبعاد تتجاوز طاقة الاحتمال، على حد ما اعترف به محمد حسنين هيكل ببصيرة واعية في سلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة "الأهرام" مع بداية الأزمة .
من جانبه،كان عبد الناصر يندد بمكائد الإمبريالية الأمريكية ضد التنظيمات القومية والتقدمية العربية لمصلحة الحركات الإسلاموية التي ترعاها الحكومات المحافظة . وكان يرتاب في تمويل واشنطن، للإخوان المسلمين، الذين دأبوا باستمرار على حياكة المؤامرات الرامية للإطاحة به . وكان قد فسر قرار واشنطن بالامتناع في 1965 عن تقديم المعونة الغذائية التي كانت قد أتاحت لمصر طوال عشرة أعوام اقتصاد مليار دولار من العملة الصعبة، على أنه إعلان للحرب . فلقد كانت تلك العقوبة تزعزع استقرار اقتصاد البلاد وهو ما كان يخلخل بالتالي نظام الحكم نفسه . وقد اكتسبت فرضية المؤامرة معقولية متزايدة بعد الانقلاب الذي قاد في إبريل/نيسان 1967 مجموعة من الضباط الموالين لأمريكا إلى سدة الحكم في اليونان . إذ لم يكن ثمة شك في أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C .I .A .)، ما كانت لتتردد في التخلص من حكومات أو اغتيال حكام أجانب يُستشف عداؤهم للولايات المتحدة .
كما دفعت أسبابٌ أخرى بعبد الناصر إلى اتخاذ إجراءات غير مناسبة: إذ لم تكن وسائل إعلام الدول المحافظة تكف عن اتهامه بالسلبية إزاء "إسرائيل"، بل كانت أحياناً تتهمه بالتواطؤ معها: إذ كانت تُنكر عليه عدم رغبته "تحرير فلسطين" بالقوة، وعدم الإقدام على أي فعل لمساعدة سوريا رغم اتفاقية الدفاع المشترك التي كانت تربط بين البلدين، وبالسماح بعبور السفن "الإسرائيلية" عبر مضيقي تيران، رغم كونهما يقعان في المياه الإقليمية المصرية . وفي واقع الأمر، كانت "إسرائيل" قد اكتسبت حق العبور في مقابل انسحاب جيشها من سيناء عقب حرب ،1956 وهو الاتفاق الذي كانت الأمم المتحدة قد أقرته .
إضافةً إلى ذلك، كانت تساور عبد الناصر شكوك عميقة إزاء سوريا البعثية التي كان يخشى مسلكها المتهور الذي قد يجره إلى الحرب راغماً . وكان قد أبرم اتفاقية الدفاع المشترك مع دمشق وفي ذهنه هدفان: من ناحية، ردع "إسرائيل" عن العدوان على سوريا، ومن ناحية أخرى، حمل سوريا على انتهاج مسلك معتدل كي لا تكون عرضة لمخالب "صقور" الدولة العبرية . وقد وقع عبد الناصر الاتفاقية بعد أن طلب من دمشق الكف عن أي تعاون مع المقاتلين الفلسطينيين، ومنعهم بكافة الوسائل من التسلل إلى "إسرائيل" .
في تلك الفترة، كان عبد الناصر يعتبر ياسر عرفات بمثابة شخص مستفز وخطير، شغله الوحيد الشاغل هو إشعال الحرب بين "إسرائيل" والعرب . ولتفادي أي انفلات، اقترح ناصر إخضاع الجيشين لقيادة مصرية ؛ لكن السوريين واجهوا المطلبيْن برفض قاطع . وأخطأ هو إذ تنازل عن مطلبيه .
وقد أدت الإجراءات التي اتخذها لاحقاً بغية تخويف "إسرائيل"، إلى نتيجة عكسية لتلك المرجوة . فما كان إرسال "الريس" لفرقة المشاة - التي استعرضها جهاراً نهاراً في شوارع القاهرة!- ليؤخذ على محمل الجد، لو لم يكن قد طلب بعد ذلك بعدة أيام "إعادة انتشار" قوات الطوارئ الدولية التابعة للأمم المتحدة (UNEF)، المرابطة بين البلدين منذ نهاية حرب 1956 . لكنه مع ذلك احتاط بالامتناع عن طلب انسحاب تلك القوات من شرم الشيخ التي كانت تتحكم في مدخل مضيقيْ تيران . فقد كان لاريب يأمل في أن يعرض المسؤولون في الأمم المتحدة وساطتهم لكي يقنعوه بالعدول عن موقفه . لكن حساباته كانت خاطئة: فعلى عكس المتوقع، أخبره الأمين العام للأمم المتحدة، "يو ثانت UThant، مباشرةً وبدون عرض المسألة على مجلس الأمن، على عكس ما كان يجدر به أن يفعل، بأنه لن يعيد نشر القوات التابعة للمنظمة الدولية وإنما سيسحبها جميعا . فإما كل شيء أو لا شيء، هكذا كان قوله له باختصار . وما من تفسير حتى الآن لتعجل مدير الأمم المتحدة، ولاسيما أن "إسرائيل" رفضت استقبال "قوات حفظ السلام" على الجانب الخاص بها من الحدود . فرأى عبد الناصر عندئذٍ -كي يحفظ ماء وجهه - أن استعادة الوضع السابق يجبره على استعادة السيطرة على مضيقي تيران، بعد أن أُجبِرت مصرُ على التخلي عنها في ،1957 تحت ضغط كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة . وكان إغلاق المضيقين، الذي يخرق الاتفاق المبرم تحت رعاية الأمم المتحدة، يضع "إسرائيل" أمام خيارين: إما السعي إلى تسوية ترضي الطرفين، أو الرد بإعلان الحرب . وقد عمدت هيئة أركان الدولة العبرية العامة إلى حشد المئات من الآلاف من جنود الاحتياط حتى قبل أن يتم إغلاق المضيقين .
رغم كل شيء، لم تكن تلك هي النتيجة الظاهرة، على حد ما لاحظتُ أثناء تحقيق أجريتُه في "إسرائيل" في نهاية عام 1965 وبداية عام 1966 . كان الهدوء يخيم على كامل الحدود، وبدأ نجم "معسكر السلام" في الصعود منذ فشل الهجوم الذي شنته الدولة العبرية على ميناء السويس في عام ،1956 بالتواطؤ مع فرنسا والمملكة المتحدة . لم تتم الإطاحة بعبد الناصر، ولا تم ضم سيناء إلى الدولة اليهودية، وتحت ضغط الرئيس أيزنهاور، اضطُر الجيش اليهودي إلى العودة إلى دياره بخفي حُنين، وقد مُنح ترضيةً لا قيمة لها، تتمثل في التصريح للسفن "الإسرائيلية" بالإبحار عبر مضيقي تيران، الواقعين بداخل المياه الإقليمية المصرية .
كان ذلك "النجاح" الرمزي، الذي مُنح بن غوريون إياه ليُحفظ له ماء وجهه، يعد تافهاً نظراً لأن 2% فقط من تجارة "إسرائيل"كانت تتم عبر ذلك الممر المائي للوصول إلى ميناء إيلات المتواضع . إذ ظلت حيفا هي الرئة الأساسية للدولة اليهودية . من جانب آخر، ندد معلقون "إسرائيليون" بالتواطؤ العسكري الذي أُرسي في تلك الواقعة مع اثنتين من القوى الغربية التي يُنظر إليها عبر العالم العربي على أنها قوى إمبريالية .
كان على المرء أن يقطع شارع ديزنجوف (Dizengoff) - الذي يعد بمثابة شانزليزيه تل أبيب- ليلحظ اتساع مدى الانفراجة . كانت كثافة ارتياد المحلات، المكتظة بالبضائع القادمة من شتى أنحاء العالم وبالكماليات الفاخرة، وزحام المطاعم والمقاهي التي لا تكاد تفرغ من روادها، تشهد بميلاد مجتمع استهلاكي جديد، في بلد كان التقشف فيه هو القاعدة التي واكبت تدفق المهاجرين صبيحة حرب عام 1948 . في ذلك الشارع، كان هناك بار ومطعم، يسمى "كافيه كاليفورنيا"، يرتاده بانتظام البوهيميون والمشاهير، من صحفيين، وكتاب، وفنانين، وسينمائيين، ورجال سياسة، بالإضافة إلى أولئك الذين كانوا يطمحون في الانضمام إلى النُخب . كان يتسيّد المكانَ مالكُ المطعم، أبببي ناتان، وهو أحد أكثر رجال البلد شعبيةً . كان هذا السفرديم الودود، الذي ولد في إيران ونشأ في الهند، يمر بين رواد مطعمه، بقامته المتوسطة، وبشرته البرونزية، وابتسامته الجذابة على شفتيه، فيقترح عليهم أطباقاً خفيفةً شهية، كان يطهوها لهم أحياناً بنفسه، ناشراً بينهم البهجة بنوادره المضحكة، الممتزجة أحياناً بأحاديث السياسة .
أنيري دابي ناثان
كان بين رواد مطعم "كاليفورنيا" رجلان متألقان بفضل رفضهما الامتثال للأعراف: أولهما هو الأشكنازي يوري أنيري المنحدر من أصول ألمانية، أما الآخر فهو السفرديم شالوم كوهين، وكانا يديران معاً مجلة "هاعولام هازيه الأسبوعية (ومعنى اسمها "هذا العالم")، التي كان يكرهها المحافظون الذين كانوا يصفونها بأنها مطبوعة "إباحية" . وفي الواقع، كانت صور النساء العاريات التي تنشرها تلك المجلة مخصصة لاجتذاب فئة الشباب غير المسيسين، المحسوبين على أيديولوجية النظام القائم وسياسته . كانت مجلة "هاعولام هازيه" قد ساندت الشعب الجزائري في كفاحه من أجل تحقيق الاستقلال، كما عارضت منذ البداية العدوان على السويس عام ،1956 ونددت بتواطؤ الحكومة "الإسرائيلية" مع "الإمبريالية"، وبتحالفها مع نظام جنوب أفريقيا المنتهج لسياسة الفصل العنصري، كما دعت إلى التحاق "إسرائيل" بحركة دول عدم الانحياز في العالم الثالث، وطالبت بتقديم تنازلات تمكن من إقرار السلام بين "إسرائيل" والعرب، ونادت بالمساواة في الحقوق بين اليهود الشرقيين والفلسطينيين من ذوي المواطنة "الإسرائيلية" . ورغم اتخاذ المجلة تلك المواقف غير التقليدية فقد تجسد نجاحها عبر انتخاب يوري أنيري في الكنيست في خريف عام ،1966 وهو الذي استمر منذ ذلك الحين في تحذير الحكومة من مغبة "المماحكات" التي تستفز بها سوريا، والتي ستفضي بالضرورة إلى الحرب، كما قال .
لم يكن أبيبي ناتان تجمعه أشياء كثيرة مع مالكيْ مجلة "هاعولام هازيه" . كان أحد المتطوعين الأوائل في سلاح الطيران الخاص بالمملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان يتحدث بلغة إنجليزية منمقة، هي لغته الأم، أو بعبرية تشوبها لكنة بريطانية واضحة . أما شغفه الوحيد فكان السلام، ولا شيء سوى السلام، لم يكن ينتمي إلى أيٍ من الأحزاب، ولا كان متأثراً بأي أيديولوجية خاصة . كانت مثاليته المطلقة تجر عليه مشاكسات ودودة من قِبل زبائنه، الذين لم يأخذوه على محمل الجد إلا يومَ استقل بمفرده طائرة صغيرة بمحرك واحد وانطلق بها صوب القاهرة "ليمد يد السلام إلى جمال عبد الناصر" .
عاد ناتان إلى "إسرائيل" عودة الأبطال بعد أن استقبله محافظ بورسعيد بترحاب، إذ اعتذر الرئيس المصري عن عدم التمكن من استقباله . وقد تغيرت صورة "الريّس"، الذي كانت الدعاية الرسمية تصوره عادةً بمثابة "هتلر جديد"، تغيراً واضحاً، على الأقل بالنسبة لجزء من الرأي العام، في الوقت الذي صنع فيه طيران أيببي ناتان وحيداً عناوين الصحافة الدولية .
وقد اتخذت مبادراته النضالية صوراً عدة . إذ باع مطعمه، واشترى سفينة، وكي يفلت من أي رقابة، رساها خارج المياه الإقليمية "الإسرائيلية"، على مقربة من ضفاف تل أبيب، وثبت فوقها محطة إرسال سماها "صوت السلام"، راح يبث عبرها طوال أعوام أخبار، ومقابلات إذاعية، وتعليقات، تهدف جميعاً للتصدي للدعاية الرسمية التي كان يرى أنها لا تتفق مع السعي إلى تسوية سلمية . ولما تعرض للإفلاس بسبب المعلنين الذين حرموا إذاعته تماماً من الإعلانات، أغرق سفينته في احتفالية مؤثرة ليكمل من ثم نضاله بصور أخرى . فأثار ضجة حين شن حملة ضد التعاون الوثيق بين "إسرائيل" ونظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا . وقدم ألعاباً للأطفال في مقابل تدمير ما يمتلكونه من أسلحة حربية صغيرة . وخرق القانون بالقيام مرتين بزيارة ياسر عرفات، الذي كان يعد في نظر النظام القائم بمثابة "إرهابي خطر"، ودفع ثمن جرأته بقضاء عدة عقوبات بالسجن .
وإذ التقيتُه عدة مرات على مر السنين، تمكنتُ من سبر يأسه المتزايد أمام مجرى الأحداث، لاسيما بعد حرب الأيام الستة . لكنه بقي كعادته محتفظاً بتفاؤله على المدى الطويل . وقد مات فقيراً معدماً عام 2008 . وكان حضور المئات لجنازته، ومقالات الرثاء والتأبين التي امتدحته بالإجماع في الصحافة "الإسرائيلية"، والتكريم الذي أسداه له مسؤولون سياسيون، من بينهم شمعون بيريز، صاحب القانون الذي يحظر أي اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي سُجن بسببه، كل ذلك كان يظهر التقدير الذي حظي به الرجل لدى الرأي العام . وكان قبل وفاته بقليل قد جاءه صحفي يسأله عما قد يكتبه على شاهد قبره، فأجاب: فلتكتبوا: "لقد حاولت" .
العين على الضفة وغزة ودمشق
لا شك في أنه من الطبيعي أن يسعى مسؤولو الأمن في بلد من البلدان إلى التفكير في جميع الفرضيات . ولكن في تلك الحالة على وجه الخصوص، كانت جميع الخطط المعتمدة ذات طبيعة هجومية، مزمِعةً احتلال الضفة الغربية، التي كانت تعد منذ 1949 جزءاً من المملكة الهاشمية، واحتلال سيناء المصرية وضفاف قناة السويس، بل واحتلال العاصمة السورية ذاتها- إذا ما دعت الضرورة . كانت تلك التحضيرات تهدف مبدئياً إلى القضاء على هجمات حركة فتح التي كانت قد نجحت، رغم معاداة غالبية الحكومات العربية لها، في اقتراف المئات من محاولات الاعتداء على مدار عام ،1966 وذلك بفضل تواطؤها مع سوريا . وقد كانت الخسائر كما الضحايا متواضعة نسبياً - إذ قُتل أحد عشر "إسرائيلياً"-، لكنها بدت لا تطاق بالنسبة للرأي العام، وأكثر منه بالنسبة للمسؤولين في الجيش، الذين عزموا على القتال .
وفيما يعد تجاوزاً لتوجيهات رئيس الوزراء بتوخي الحذر، أقدمت وحدة، في نوفمبر/تشرين الثاني عام ،1966 على شن غارة انتقامية على قرية "السموع" الأردنية، لتدمر مشفىً طبياً، ومدرسةً، ومكتب بريد، ومقهىً، ولتحول مئات المنازل إلى أنقاض بدون منح سكانها الوقت اللازم لأخذ أمتعتهم الشخصية . وكان المقرر أن تقوم هذه العملية مقام تحذيرٍ لسوريا، المسؤولة الفعلية عن تسلل المسلحين الفلسطينيين، وهو ما حدا بليي أشكول، الغاضب على القائمين بتلك العملية وإن احتفظ بمرحه، أن يهتف باللغة اليديشية قائلاً: "كنا ننوي قرص الحماة، فما كان منا إلا أن أوسعنا العروسَ ضرباً" .
هكذا بدأت تبزغ بوادر المواجهة بين رئيس الوزراء وهيئة أركان الجيش . ولم يكن قرار إشعال الحرب الوقائية سهل الاتخاذ، وذلك أقل ما يمكن أن يقال . إذ اتخذ صراع القوة بين هيئة أركان الجيش، العازمة على ابتدار الحرب، وبين حكومة أشكول، المرحبة بحل سلمي، عدة أشكال: من ممارسة ضغوط، وعمليات ابتزاز، إلى رشق بالسباب، ونصب تحديات، وتهديدات مستترة بالانقلاب .
تضليل "إسرائيلي"
كان الجنرال ياري (Aharon Yariv)، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (آمان (AMAN- ، يرسل، يوماً بعد يوم، تقارير تنذر بأعلى مستويات الخطر، فتارة يكتب أن طائرات مصرية تحلق فوق المنشآت النووية في ديمونا استعداداً لقصفها، وتارة يكتب أن القوات المصرية المرابطة على الحدود، المتزايد عددها يوماً بعد يوم، قد أعلنت حالة التأهب بعد أن تم تحديد موعد الهجوم . وأن تلك القوات مزودة بأسلحة كيماوية وإشعاعية . وأن الكارثة على الأبواب .
ونظراً لمساورة الارتياب لليي أشكول ووزرائه، فقد ظلوا متشككين في موثوقية المعلومات التي كان يزودهم بها رجالٌ عُرفوا باتقاد الحمية القتالية . ولم يكن رجال الحكومة مخطئين في شكهم، فقد تبين لاحقاً أنهم كانوا مستهدفين بحملة تضليل . وقد أكد ذلك الجنرال رابين بنفسه في حوار صحفي أدلى به إليّ في فبراير/شباط ،1968 بعد الحرب بثمانية أشهر، وأحدث صدىً كبيراً في "إسرائيل" وفي الخارج . ففي الحوار، الذي نُشر على الصفحة الأولى من صحيفة "لوموند" (Le Monde)، أقر رئيس أركان الجيش "الإسرائيلي" بصراحة مثيرة للعَجب قائلاً: "لا أعتقد أن عبد الناصر كان راغباً في الحرب . إذ لم تكن الفرقتان اللتان أرسلهما إلى سيناء يوم 14 مايو (أيار) تكفيان لشن هجوم على "إسرائيل" . كان كلانا يعلم ذلك، هو ونحن كنا نعلم أنه يتظاهر" . في حقيقة الأمر، كانت مدافع الدبابات مدفونة في الرمال، ولم تكن في وضعية الضرب، وهي طريقة تقليدية لإفهام العدو غياب أي نية في القتال .
كما أكد رابين أيضاً، رغم دفاعه عن حرب "إسرائيل" الوقائية، أن عبد الناصر لم يكن لديه النية أصلاً لإغلاق مضيقي تيران، لمعرفته أن "إسرائيل" ستعتبر ذلك الفعل بمثابة ذريعة للحرب، لكنه ظن نفسه مضطراً لذلك حين سحب يو ثانت " U Thant" جميع قوات الأمم المتحدة من سيناء، بما فيها تلك المتمركزة عند مدخل المضيق . وقد تأكد هذا الرأي بعد الحرب على لسان العديد من المسئولين الكبار في تلك الفترة .
تهديد ديغول
من جانبها،كانت حكومة أشكول مدفوعةً بشواغلَ أخرى ذات طابع جيوستراتيجي . فقد كان الوزراء مجمعين على أن مبدأ ابتدار حرب يعد أمراً خطراً على المستوى الدولي، وبخاصة حين لا يكون هناك ما يُثبت أن العدوَ يوشك على شن عدوان . فقد تجد "إسرائيل" نفسها معزولةً لاسيما أنها لم تكن تحظى بمساندة أي قوة غربية . وقد أكدت مهمة الاستكشاف الأولى الموكلة إلى أبا إيبان رأي ليفي أشكول ورفاقه . فقد اصطدم وزير الخارجية "الإسرائيلي" بدايةً باستقبال بارد من قبل الجنرال ديجول . بالطبع أعلن هذا الأخير تأييده لإعادة حرية الملاحة في مضيقي تيران، لكنه أنذر المبعوث "الإسرائيلى" بجفاء أن فرنسا ستعاقب الدولة التي "ستطلق أول عيار ناري" . كما أنه قد قرر حظراً على إمدادات السلاح ل"إسرائيل" منذ بدء الحرب . وكان رئيس الدولة الفرنسية بعيد النظر، إذ كان يبصر ما يتجاوز بمراحل النزاع "الإسرائيلي" -المصري، فكما شرح لقادة ألمانيا الغربية، بعد الحرب بشهر، تخدم هزيمة مصر الناصرية أول ما تخدم مصالح الولايات المتحدة، التي اتهمها ديغول بإضمار طموحات تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط .
أما الرئيس جونسون، الذي كان يقدر مدى التهديد الذي يمثله عبد الناصر على المصالح الأمريكية، فما كان على الأرجح ليعارض رأي الجنرال ديغول، لكن الغريب هو أنه هو أيضاً لم يكن مؤيداً لهجوم "إسرائيلي" "وقائي"، على الأقل مبدئياً . وكانت تحفظاته تعود إلى ثلاثة أسباب على الأقل: فهو لم يكن - بعدُ- متأكداً من أن "إسرائيل" ستكسب الحرب، كما أنه كان حريصاً على التزام موقف محايد خشية استثارة العالم العربي الذي يمتلك سلاح النفط، وإضافة إلى ذلك، لم يكن جونسون يريد إعطاء السوفييت ذريعة للتدخل لصالح حلفائها في المنطقة . وأخيراً وليس آخراً، ما كانت الولايات المتحدة لتسمح لنفسها التورط في نزاع بينما كانت جيوشها غارقةً في حرب يتنام .
هكذا إذن عاد أبا إيبان بخفي حنين إلى القدس، مبرراً بذلك حذر الحكومة . لكن، الجنرالات، الذين أبدوا عناداً نادر الوجود، استمروا بلا هوادة في حض السلطة المدنية على إعطائهم الضوء الأخضر لتنفيذ مشروعهم . وإذ تمت دعوتهم لحضور اجتماعات مجلس الوزراء، تحول الحوار الدائر بين المعسكريْن إلى حرب كلامية، راحت تزداد عنفاً أكثر فأكثر .
وعلامةً على الاحتقار، أطلق الجنرال رابين وزملائه في القيادة العسكرية العليا على ليفي أشكول ورفاقه اسم "اليهود"، وهو ما يشير في أعينهم إلى أشخاص وُدعاء، وجبناء، ومترددين، على شاكلة يهود الشتات الذين "استسلموا للإبادة على يد النازيين بلا مقاومة"، وفق رأي شائع للغاية . أما جنرالات هيئة أركان الحرب العامة، البالغة أعمارهم الأربعين عاماً في المتوسط، فكانوا في معظمهم من اليهود "الصابرا" (sabras)، المولودين في إسرائيل والذين كانوا يدعون أنهم "يهود جدد" أنجبتهم دولة "إسرائيل"، ليكونوا شجعان، ومقاتلين في مواجهة الخصم . ولم يكن ليي أشكول بأقل تحقيراً لهم وهو يشير إليهم، أثناء اجتماعات الوزارة، ملقباً إياهم ب"بروسيينا" ("nos Prussiens") . وكان قد هتف في أحد الأيام أثناء مخاطبته محدثيه العسكريين قائلاً: "إلى متى سنظل نحيا بحد السيف؟" .
مواجهة "البروسي" و"اليهودي"
وبدءاً من 20 مايو/أيار، زاد اسحق رابين والجنرال ياري، رئيس الاستخبارات العسكرية، من حدة نبرتهما وهما يطالبان بأن يتم فوراً شن ما سموه، بمنتهى الجرأة، ب"الحرب الوقائية"، مؤكدين أنها ستسمح، بفضل أثرها المفاجئ، بتدمير سلاح الطيران المصري أرضاً . ويوم الرابع والعشرين من الشهر نفسه، لم يتردد الجنرال عزرا وايزمان (Ezer Weizmann)، مساعد رئيس أركان الحرب وابن شقيق حاييم وايزمان (Haïm Weizmann)، زعيم الحركة الصهيونية، في اتهام الوزراء ب"تعريض وجود "إسرائيل" ذاته للخطر" . وفي يوم السادس والعشرين، هاجم رابين بفظاظة زورا وارهافتيج Warhaftig Zorach ، وزير الشؤون الدينية، المنادي دوماً بالسلام .
وبدت الصورة المترائية طافحة برمزية المواجهة ما بين "البروسي" و"اليهودي" . فقد كان وارهافتيج، الناجي من جيتو وارسو، الذي يتكلم العبرية بلكنة يديشية واضحة، أحد مؤسسي دولة "إسرائيل" . كان مقيماً لواجباته الدينية، معتمراً الكيبا، وراح في ذلك اليوم يتظاهر بتجاهل صفاقة محدثه الشاب المحتد، بينما تمسك بمعارضته للحرب . وفي يوم الثامن والعشرين، كان اجتماع مجلس الوزراء، الذي دُعي إليه الثمانية عشر جنرالاً المكونين للقيادة العليا، اجتماعاً حامي الوطيس . إذ تهجم بعض العسكريين بالسب والقذف على الحكومة وليفي أشكول على وجه الخصوص، متهمين إياهم باقتياد عشرات الآلاف من "الإسرائيليين" إلى مذبحة، وبإضعاف معنويات الرأي العام والجيش (كان مائة ألف جندي احتياطي قد استدعوا للانخراط تحت الألوية)، وبقصم وحدة الأمة، وباقتياد البلاد إلى "محرقة جديدة" . وعقب أحد تلك الاجتماعات العاصفة، خط "إسرائيل" ليور (Israël Lior)، المستشار العسكري الوفي لرئيس الوزراء، ملاحظةً كتب فيها: "لقد تساءلتُ إذا ما كانوا يسعون لتركيع الوزراء أم لحملهم على الإجهاش بالبكاء" . مع ذلك، لم يفقد ليفي أشكول رباطة جأشه، رغم أن كل حججه كانت محط السخرية بانتظام، كما لم يطلب من منتقديه الوقحين الانسحاب، ولم يبرح هو الاجتماع على سبيل الاحتجاج .
ظل يردد بهدوء قائلاً: "لن نعلن الحرب طالما أننا لا نحظى بتأييد إحدى القوى الغربية الكبرى" . وكان قد تلقى في اليوم نفسه خطاباً من الرئيس جونسون يوصيه فيه بعدم بدء الأعمال الحربية . ومن المثير للاستغراب أن اثنين من "الصقور" البارزين، هما بن غوريون ومناحم بيجن، كانا يشاطران ليفي أشكول رأيه رغم معارضتهما لحكومته . بل قطع بن غوريون في ذلك شوطاً أبعد إذ وبخ رابين، حين جاء يستشيره، لكون رابين المسؤول الأول عن الأزمة نظراً لأفعاله العدوانية وتصريحاته المتوعدة . وإذ تعرض رئيس أركان الحرب للتأثيم من قِبل رجل يكن له تقديراً عميقاً، فقد انغمس في حالة اكتئاب دامت يومين .
وقد أسر ليي أشكول إلى المقربين منه أن الجو العام يبدو مؤذناً بعصيان، بل بانقلاب عسكري . ولم يكن مخطئاً في ذلك، فقد اقترح الجنرال أرئيل شارون على رابين، بعد ذلك بيومين، أن يتزعم هذا الأخير انقلاباً وأن يكون حكومة عسكرية . ويبدو أن بن غوريون كان على علم بما يُحاك وراء الكواليس، فقد سارع بالتصريح علانيةً أن "الجيش في بلد ديمقراطي، لا يأتمر إلا بأوامر حكومة مدنية" . وأخذاً في الاعتبار ما يتمتع به بن غوريون من هيبة طاغية، فمن المؤكد أنه أخمد عزم المغامرين الذين كانوا يريدون تحويل "إسرائيل" إلى جمهورية من جمهوريات الموز . إذ لم يكن مؤسس "إسرائيل" يعتقد، هو الآخر، أن عبد الناصر سيبادر بشن الحرب .
جونسون واليهود
في تلك الأثناء، كان الرئيس جونسون يتعرض لضغوط من قبل العديد من اللوبيهات الموالية "إسرائيل" لدفعه إلى الموافقة على مشروع هيئة أركان الحرب "الإسرائيلية" . كان الرئيس الأمريكي يكن محبة صادقة للسامية، وكان قد أثبت ذلك قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان يشغل مقعداً في الكونغرس ثم في مجلس الشيوخ، إذ أدخل خفيةً إلى الولايات المتحدة مئات اليهود الفارين من النازية، بواسطة جوازات السفر والتأشيرات المزورة التي كانت تسلم إليهم . وقد أقدم على ذلك معرضاً نفسه لخطر الطرد من البرلمان وقضاء عقوبة بالسجن . وفي عام ،1934 إذ كان في التاسعةِ والعشرين من عمره، كان بالفعل مدركاً لخطر الأيديولوجية الهتلرية، إذ قدّم لكتاب ضم مجموعة مقالات بعنوان "النازية وهجومها على الحضارة"، ألفته كلوديا تايلور (Claudia Taylor)، البالغة من العمر آنذاك واحداً وعشرين عاماً، والتي تزوجها جونسون بعد ذلك بقليل . وفي عام ،1945 زار جونسون معسكر اعتقال "داخاو" (Dachau)، الذي "عاد منه محزوناً منهاراً من جراء الرعب الذي طالعه هناك"، وفقاً لما قالته زوجته . فهل كان جونسون صهيونياً؟ يمكن الاعتقاد بذلك لو تأملنا التأثير الذي كان لعمته عليه منذ نعومة أظافره . فقد كانت العمة جيسي (Jessie) عضواً نشطاً في المنظمة الصهيونية الأمريكية . وتشير سجلات الأرشيف، التي تم الإفراج عنها في عام ،2008 إلى أن جونسون كانت تربطه "علاقات عاطفية" بالدولة العبرية الفتية .
وفقاً للسفير الأمريكي السابق ريتشارد باركر (Richard Parker)، رغم شعور جونسون بخيبة أمل أليمة إزاء معارضة نصف اليهود الأمريكيين لحرب فيتنام، فقد أحاط نفسه بالعديد من الشخصيات العامة اليهودية، ما بين أصدقاء مقربين أو مؤتمنين على أسرار، كانوا يساندونه تحسباً للانتخابات الرئاسية في العام التالي . كانوا جميعاً من غلاة الصهاينة، وعمل بعضهم سراً كوسطاء بين واشنطن والقدس . كان أحدهم، وهو أبي فينبرغ (Abe Feinberg)، مبعوثه المفضل إلى ليي أشكول . كان فينبرج مصرفياً مليارديراً، وراعياً ذا أيادي بيضاء على الحزب الديمقراطي، وكان قد مول انتخاب الرئيس ترومان، الذي كان صديقه هو الآخر . كان هناك أيضاً دييد ينسبرغ (David Ginsberg)، المحامي الكبير، الذي كان سنداً ثميناً جداً لحل المشكلات القانونية الصعبة . وكان ثمة مستشار آخر، يُلتجأ إليه تحت أقصى درجات السرية نظراً لحساسية المنصب الذي كان يشغله، ألا وهو قاضي المحكمة العليا، آبي فورتاس Abe Fortas ، الذي كان كثيراً ما يُستقبل في البيت الأبيض . كما كان آرثر كريم Arthur Krim ، مالك شركة الإنتاج السينمائي "يونايتد آرتستس" United Artists ، وزوجته "الإسرائيلية" ماتيلدا، يعيشان في كنف الرئيس جونسون . كانت ماتيلد امرأة هيفاء، شقراء، بارعة الحُسن والبهاء، علاوةً على كونها عالمة أحياء نابهة . وكانت كثيراً ما تقيم في البيت الأبيض، حيث خُصصت لها غرفةٌ في الطابق الثالث . فكانت تلتقي بالرئيس أو تحادثه عبر الهاتف عدة مرات في اليوم . وقد كذبت دوماً أنها كانت عشيقته أو أنها كانت عميلةً للحكومة "الإسرائيلية" .
غير أن استحسانها لأطروحات "البروسيين"، وتأثيرها على جونسون، كانتا حقيقتين لا تقبلان المنازعة . هكذا انتهى الأمر بالرئيس إلى التسليم بالاقتناع . وقد أضيفت إلى مرافعات أصدقائه الصهاينة، تقاريرُ البنتاغون وأجهزة الاستخبارات، المرحبة بالحرب، بينما احتفظت وزارة الخارجية بمعارضتها التامة لها، حرصاً على الإبقاء على علاقات طيبة مع الدول العربية . لكن ظل مسؤولو الأمن يؤكدون للرئيس أن "إسرائيل" قادرة على إحراز نصر كاسح وسريع (لن يستغرق أكثر من أسبوع، على حد توقعاتهم) وغير مكلف . وكانوا يستشهدون، بين مرجعيات أخرى، بالأحاديث التي كانوا قد تبادلوها مع مائير عاميت، رئيس الموساد، جهاز مكافحة الجاسوسية "الإسرائيلي"، الذي كان هو نفسه من أشد مناصري الحرب الوقائية . كانت بياناته ذات الطابع العسكري الصارم، والمتوافقة مع مشروعات القيادة العليا للدولة العبرية، لا تترك مجالاً للشك حول نتيجة النزاع . وقد كان مقنعاً للغاية لاسيما وأن وكالة المخابرات المركزية (C .I .A .)، كانت - وفق وثائق الأرشيف- قد انتهت عبر وسائلها الخاصة إلى استنتاجات مطابقة، بالارتكاز على تقديرٍ لتناسب القوى . وكان ذلك هو رأي أجهزة المخابرات الفرنسية أيضاً . مما يفسر، جزئياً، اقتناع الجنرال ديجول بأن مبادرة "إسرائيل" بشن الحرب ستنتهي بالضرورة إلى ازدياد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط . كان الجنرال أوزي نركيس (Uzi Narkiss)، عضو هيئة الأركان العامة، وأحد محرزي النصر في حرب الأيام الستة، لا يكف أثناء مجلس الوزراء عن ترديد قوله: "ولِمَ الانتظار؟ ما العرب إلا فقاعة صابون لن تلبث أن تنفجر مع أول وخزة" .
ولما تأكد للرئيس جونسون أن الولايات المتحدة لن تُضطر للتدخل لمساعدة الجيش "الإسرائيلي" وأن سقوط النظام الناصري كان كله محض فوائد، فقد منح مباركته لل"حرب الوقائية" . فلم ينقض أقل من أسبوع إلا وكان جيش الدولة العبرية قد شن العمليات الحربية .
هكذا تغلب "البروسيّون" على "اليهود" . لا بسبب الضوء الأخضر الأمريكي فحسب، وإنما بخاصة بفضل الضغوط القوية التي مارستها وسائل الإعلام التي ساهمت في إثارة جو من الذعر في البلاد، سواء بإيعاز من العسكريين أم لا . كانت المسألة مفروغ منها: فعبد الناصر ما هو إلا هتلر جديد، والعرب ما هم إلا نازيون، "سيلقون باليهود في البحر" . وقارنت بعض الصحف أشكول بتشمبرلين (Chamberlain)، ولم تنسَ خيانة ميونخ (Munich) . وأما الجنرال ديان، الذي يحظى باحترام لمآثره الحربية، فقد أعلن بثقة العارف المطلع أنه ينبغي "توقع مقتل الآلاف" . وفي الوقت ذاته، كان دايان يطمئن مرشده بن غوريون بقوله أن الأسطول الجوي المصري سيتم تدميره في غضون سويعات .
وقد تأكد استسلام ليي أشكول في الأول من يونيو/حزيران عندما أُجبر على تشكيل وزارة جديدة تضم، للمرة الأولى في تاريخ "إسرائيل"، أعضاء من اليمين القومي، وبخاصة اثنين من أعضاء حزب جاحال (Gahal)، (حيروت سابقاً) (Herout) أحدهما هو رئيس الحزب، مناحم بيجن، إضافة إلى الجنرال ديان . في حوار صحفي نُشر في مارس/آذار ،1969 اعترف لي أشكول أنه قد أذعن أمام "نوع من العمل الانقلابي" .
لقد تعرض رئيس الوزراء إلى جرح مزدوج لكرامته لما تعرضت له وطنيته وكفاءته من تشكيك على يد كل من القيادة العليا للقوات المسلحة ووسائل الإعلام، مما دفعه إلى التخلي عن حقيبة الدفاع الوزارية . كانت تلك هي الإهانة الكبرى، التي لم يتعاف منها حتى وفاته، وقد كان عليه ترك حقيبته الوزارية لرجلٍ كان يحتقره بشدة: هو موشي دايان . ووفقاً لما كتبه المؤرخ توم سيغي، كان دايان يُنظر إليه عامةً على أنه "رجل يركض خلف السلطة، وخلف النساء، وخلف المال، رجل أناني ووقح ومتقلب لأبعد حد . ليس له من ولاء إلا لنفسه" . لكنه يظل مع ذلك "بطل غزو سيناء" . أما ليي أشكول، فيصفه المؤرخ بأنه "رجل دولة ذو أعصاب فولاذية" .
اتُخذ قرار شن العمليات الحربية في الثاني من يونيو/حزيران، وإذ أخبر إسحق رابين الحكومة في الرابع من يونيو أن قوات عبد الناصر كانت في وضعية دفاعية، بدت اللحظة مواتية لمهاجمة مصر صبيحة اليوم التالي . وفي اليوم نفسه، كان سفير المملكة المتحدة لدى تل أبيب، الذي لم يكن على علم بما يجري، يُبرق برسالة إلى حكومته، مفادها أن "الحرب لن تقع"، مستعيداً بذلك نص تصريح أدلى به الجنرال ديان عشية اليوم السابق . وكان ذلك هو أيضاً رأي المشير عبد الحكيم عامر، القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.