المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الحوثيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: 372 قتيلاً خلال 4 أشهر    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    الرسائل السياسية والعسكرية التي وجهها الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    17 مليون شخص يواجهون حالة انعدام الأمن الغذائي باليمن.. النقد الدولي يحذر من آثار الهجمات البحرية    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    آرسنال يفوز على بورنموث.. ويتمسك بصدارة البريميرليج    الرئيس الزبيدي: نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    من يسمع ليس كمن يرى مميز    معاداة للإنسانية !    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة رائعة في شعر عبد الودود سيف لعارف صادق
نشر في الجنوب ميديا يوم 07 - 04 - 2014


احمد صالح الفقيه//
" الشعر عند سيف معجزة كما هي (عصا موسى) الذي فلق بها البحر، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى؛ كما أنها سلاح بيد الضعفاء تدافع وتدحر عنهم كل ضيم؛ فنص سيف هنا يؤسس على توجهات روحية ترفض التورط في الماديات من خلال هذه المواجهة بين المادي هراوات والروحي الشعر، وهي تحمل في مضمرها رؤيا الشاعر وموقفه تجاه الماديات فنجده ينحاز إلى المعنوي الروحي، لأنه يجد فيه نجدة ومآلاً ونصرة للخائفين؛ وهذا أعطى النص اقتراباً من السلطة العلوية باعتبار العصا الشعر إلاهية ينصر بها الخائفين؛ فهنا يتحول الخطاب إلى شيء شبيه بالوحي بما يحمله من مولادات روحية اقتربت إلى التقديس بما تكنه في مضمرها من تناص مع عصا موسى كما ذكر آنفاً؛ وهنا تتعالى شاعرية النص بولوجه إلى العالم الميتافيزيقي، ومن ثم وجدنا سيفاً يدرك أن النصوص الشعرية التي يبدعها لا تعطي مدلولاً مباشراً بقدر ما توحي عبر التواصل الجمالي معها؛ ومن ثم يخاطب قارئه، قائلاً:
إن خمري كبقع الضوء، وضوئي لا يدخل من باب واحد، وإنما يُجتلي من كرمة لمعانه، قطرةً قطرةً"
بعنوان الرؤيا والأداء الفني دراسة في شعر "عبد الودود سيف "نال الأستاذ (عارف قاسم صالح صادق) رسالته لنيل رسالة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من مجلس كلية التربية بعدن. والرسالة قطعة أدبية رائعة استطاع فيها الباحث الغوص في عالم عبد الودود سيف الشعري بسهولة سيحسده عليها كل من أعجب بعوالم الشاعر الكبير واستعصى عليه المعنى وان استمتع بالقراءة. فهناك مستويات عدة لنص عبد الودود سيف ومن البديهي إن أول ما يواجه القارئ هو ذلك الإعجاز النصي في تراكيب عبد الودود سيف وسحر لغته الملحمية الرائعة التي طالما طبعت شعره بطابعها وأفردت له مكان الذروة بين شعراء عصره.
ثم يليه المستوى الدلالي الشديد الكثافة تماما كالنصوص الكبرى التي استهلكت أعمار الشراح والمفسرين. ولست أنوي هنا القيام بقراءة أخرى لنص الشاعر العظيم ولذلك سأحيلكم الى الجزء الموسوم "الرؤيا من دراسة الباحث عارف قاسم صالح لتستمتعوا بالموهبتين الكبيرتين موهبة الشاعر وعطائه المعجز وموهبة الباحث اللامع في سبر أغوار عالم عبدالودود سيف الرحيب والكثيف في آن معا. فإلى النص:
الرؤيا في الخطاب الشعري:
تمهيد: الرؤيا لغة، ومفهوماً:
الرؤيا ما رأيته في منامك جمعها (رؤى) ورأيت عنك رؤى حسنة حلمتها، وأرى الرجل إذا كثرت رؤاه أي أحلامه، ورأى في منامه (رؤيا)([1])، ويقال "رأيته بعيني رؤيةً، ورأيته في المنام رؤيا، ورأيته رأى العين.."([2]) "والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة"([3]). والرؤيا في الشعر"هي نفاذ الشاعر: "ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معان وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها، وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة"([4]) ، وبقدر ما اكتسبت كلمة "الحلم"من معان نفسية وشعرية تتخطى ما يراه المرء في منامه،هكذا اكتسبت كلمة "الرؤيا"معاني تتخطى معنى الحلم حتى بإضافاته المجازية؛ فهي الرؤية بالعين والعقل والقلب معاً، زائداً الحلم، زائداً ذلك التطلع الإنساني الأرحب الذي اقترب في ذهن البشرية بتوق الأنبياء والفلاسفة والشعراء ذلك الماورائي الذي يبدو صوراً لا يعللها المنطق بالضرورة، ولكنها تكتظ بالرموز لما هو في الصلب من الكينونة الإنسانية واندفاعاتها"([5])؛ ويرى أدونيس أن "الرؤيا في دلالتها الأصلية وسيلة الكشف عن الغياب. ولا تحدث الرؤيا إلا في حالة انفصال عن عالم المحسوسات، ويحدث ذلك في حالة النوم، فتسمى الرؤيا عندئذ حلماً. وقد يحدث في اليقظة وعندها يكون الاستغراق في الذات. ففي الرؤيا ينكشف الغيب للرائي فيتلقى المعرفة، كأنما يتجسد له الغيب في شخص ينقل إليه المعرفة "([6]). "إنها اختراق لما هو قائم. وسواء أصاغه الشاعر بشكل مباشر، أم غير مباشر؛ لأن الرؤيا تعني في الأساس النفاذ إلى جوهر الأشياء. وبقدر ما يكون هذا النفاذ واعياً تكون الرؤيا عميقة وقيمة."([7]) "وما دامت الحداثة الشعرية تتجسد في حساسية ميتافيزيقية ترتكز على الحدس للاتصال والتواصل مع عالم خلفي، لا يدركه إلا الشعراء. هكذا تكون الرؤيا الشعرية ذات منحيين: منحى إنساني؛ لأن همها في إنقاذ الإنسان من أزماته الوجودية إزاء العالم المحسوس، ومنحى روحي لأن بواسطتها يمكن تخطي عالم المفارقات من أجل اعتناق عالم موحد. فإذا أضفنا إلى كلمة رؤيا بعداً إنسانياً بالإضافة إلى بعدها الروحي، يمكننا حينذاك أن نعرف الشعر الحديث بأنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفاهيم القائمة. هي إذن تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها"([8])، وإذا كان تجاوز الواقع هو محل اتفاق بين الرؤيا الصوفية والرؤيا في الشعر المعاصر فإن التمايز بينهما يكون من حيث المصدر والقصد؛ "فالرؤيا في الشعر الصوفي تتجه إلى هدف واحد هو الله. وهي ترتكز على دعائم غيبية، كما أنها ذاتية متطرفة لا موضوعية تكرس جلّ اهتمامها في التجريب ولاسيما ضمن الألفاظ والتركيب، وتأخذ الصورة التي تسهم في عكسها سمات اللاتحديد، والاتساع ،واللامعقول والتجريد؛ بينما تتسم الرؤيا في الشعر المعاصر بالموضوعية والوعي، أو ينبغي أن تكون كذلك"([9])، وتكون التجربة الحياتية، والتجربة الشعرية والحدس الموضوعي والأيدولوجيا عناصر تشترك في تثمين قوة الرؤيا ووضوحها إلى جانب وعي الواقع؛ "ويمكن القول بهذا الصدد إنه قد تنحصر الرؤيا على تطلعات الفرد فتمثل أحلامه وفنه وتسمى بذلك بالرؤيا الفردية، وقد تنفتح الرؤيا على المجتمع فتمثل تطلعاته وآماله وتسمى بذلك بالرؤيا الاجتماعية التي تتسم بالموضوعية والواقعية لكون الشاعر يشتقها من الواقع وهي تختلف اختلافاً كبيراً عن الرؤيا المثالية التي يغلب عليها الحدس وتأخذ الوعي مصدراً لها.([10]).
وقد توصل الباحث عبد الله عساف إلى أن الرؤيا تعني" أولاً طموح الشاعر وسعيه لرسم هذا الطموح وتجسيده، وغالباً ما يمثل هذا الطموح بعداً طبقياً يمثله الفرد"([11]). بينما يرى أدونيس بأنها "تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الحديث، أول ما يبدو، تمرداً على الأشكال والمناهج الشعرية القديمة، ورفضاً لمواقفه وأساليبه التي استنفذت أغراضها"([12])، وليس المقصود "بالتجديد" أن يتمرد الشاعر على الشكل التقليدي بوزنه وقافيته الرتيبة فحسب، بل يجب عليه "أن يمتلك رؤيا خاصة به، تختزن موقفه الفكري والجمالي من الحياة والشعر والعالم، رؤيا تجدده من الداخل، وتجعل من عمله الشعري، أو مجموع كتاباته الشعرية، وحدات متفاعلة داخل سياق رؤيوي، متجانس، شديد الفاعلية"([13])؛ فالشاعر سيف هو شاعر حداثي يحمل(رؤيا) إبداعية تجاه الفن الشعري وتجاه واقعه أيضاً بما يفصح عن موقفه من هذا الواقع على أساس أن "الرؤيا تعبر عن الموقف في النص الشعري"([14]).
والقارئ لشعر سيف يجده يمزج ثورته الإبداعية الشعرية بثورته الاجتماعية، على اعتبار أن العادات والتقاليد القائمة على التقديس والتبجيل أمرٌ غير مرتضى به؛ فرأى أن عملية تقديس القيم في الإطار الشعري لا تقل نكراً عن التقديس الطبقي والاجتماعي، فلا بد إذن من تجاوز الحالتين حتى يتسنى للفرد أن يبدع ويتفوق من غير قيد أو أي التزام عرفي، فاستطاع بذلك أن يمزج في شعره ثورته الإبداعية بثورته الاجتماعية مزجاً يتعذر على القارىء الفصل بينهما لما يحملانه من هدف تحرري سامٍ مبتعداً عن الابتذال والسفافة المادية التي تلوث كل جميل، ولما كانت عملية التحرر سامية كان البدء بتطهير الذات هي نقطة الانطلاق، ولعل هذا هو أول ما تعنيه الرؤيا على أنها سفر في الروح والوعي الباطن، وهو ما يعبر عنه سيف بقوله:
وأنا كمن آتي إليّ مسلماً
وأنا كمن أمشي إليّ مبدداً([15])
وقوله:
وأنا أعود إليّ مبتكراً كأبهى ما يكون اليتم([16])
وقوله:
وأنا أسير إليّ محتشداً..
وأدخل في هوايْ.([17])
وقوله:
هذي خطاي تعود بي نحوي، وتجلسني إلي..([18])
وهو سفر يعتمد القلب هادياً وبوصلة للاستدلال على الأماكن التي تندثر فيها الحقيقة واستكشافها، ومن ثَم يقول:
قلبي الذي اشتبكنا هو وأنا، في افتتاح معمعة زهرتنا الواحدة، وأسلنا على أهدابها ضعف ما قدره الله لنا من عتو الشذى، لكي ننطق به في الغناء بفوحها. ([19])
ويقول:
وقد استودعني الخالق بخلق العبد المأمور.. فلا أعصي ما يأمرني به قلبي قط، أنا الناخوذة والقلب بوصلتي. أمرع هنا أو هناك ..أو هناك في أمواه بحري الواسعة، ولكنني لا أعبر من قوس موجة ولا أتظلل في رذاذ موجة ولا أدغل بينهما؛ إلا وقد شابكنا كفَيّنا في راحة واحدة.([20])
وذلك كله لأن سيفاً يرى في الإبداع الشعري كشفاً للمجهول الأزلي أكثر من كونه تعبيراً عن عاطفة أو ترجمة لفكرة، ومن ثَمَّ يقول:
رأيتُ أن أنقر الحجر، وأصعد في دويه أستطلع ما في خبائه من نقوش
الأسماء.([21])
أو قوله:
وأجيء أفتتح البروق بنرجسٍ
وأسير أمسح من بياض الغيم ما كتب الدخانْ.([22])
أو قوله:
هدأت بقاعي الأرضُ. تلك مدائنٌ في الأفق ناكسةٌ.
وأخرى في هُلام الرمل طافيةٌ. وأخرى في مدايَ تجيء بي نحوي، وتسلمني بروج ظنونها.
وأعود من أقصاي أفترع اليقينْ.([23])
أو قوله:
وليكن أني على موعدٍ كي أفض بكارة تاج الغيم، وأجلس موهناً على عرشه.([24])
وبطبيعة الحال فإن الإبداع لا ينشأ من الصفر لكنه في الوقت نفسه لا يتم من دون تجاوز المألوف والمعتاد؛ ومن ثم كانت علاقة شعر سيف بالذات قائمة على النفي وإعادة التشكيل في نسق حداثي جديد؛ ورؤيا سيف لا تتم بانفصال عن الموروث الجمالي والثقافي، كما أنه لا يعيد استنساخه أو الارتباط به ارتباطاً كلياً، بل يستخلص منه المحفزات. "فالشاعر المعاصر لا يقبل التراث كله، ولا يرفضه كله، وإنما تتمثل بينه وبينه علاقة من التفاعل والتجاذب، يضفّي خلالها التراث من منظور العصر.."([25])، وتتجلى نظرة سيف إلى التراث على اعتبارات متعددة تكون قد اشتركت لدى شعراء التجديد، وهي كما يرى الدكتور عز الدين إسماعيل أنها: تتصل "بدعوة إلى ضرورة تقدير التراث في إطاره الخاص، فلا نحمله. وكذلك لا نحمل عليه، مالا يطيق. أن نتمثله من حيث هو كيان مستقل تربطنا به وشائج تاريخية.."([26]). ولذا نجد الشاعر ينطلق من أن التجربة الشعرية هي تجربة معاناة يجب على المبدع أن يبرزها بشكل سليم غير متقيد بأي قيد أو خاضع لأي عُرف. فالإنسان عموماً لا يستطيع مجاوزة معاناته وعقباته ما لم يكن لديه رصيد أو مخزون معرفي يتكئ عليه؛ وكذلك الشاعر لا يستطيع الانطلاق في رحلة كشف جديدة ما لم يكن له رصيد أو مخزون يتزود به في رحلته الإبداعية؛ ويرى سيف أن الرحلة الإبداعية مماثلة للرحلة البحرية الاستكشافية من حيث حاجتها إلى مسلمات أولية تسبق عملية الاستكشاف"الإبحار"، قائلاً:
هذا ابتداء رسوِّ صاريتي على شطٍ،
وأول ما أهشُ بنرجسٍ، أو استظلُّ بزعفران.([27])
فإذا كان الإبحار والكشف عن المجهول لا يتم إلا بوسائله الاستكشافية، "شط وسفينة..." وغير ذلك، فإن الكشف في الإبداع الشعري يقتضي آلياته وخبراته المتراكمة التي حققتها الذات في المجالين: الشعري والإنساني، وهو ما يعبر عنه بقوله: "وأول ما أهش ُ بنرجسٍ، أو أستظلُُّ بزعفران"؛ إذن فرؤيا الشاعر ترى أن تجربة الكشف الإبداعي تجربة "معاناة" ولا تتحقق بمعزل عن الموروث الجمالي التقليدي؛ فعلى كل مبدع أراد أن ينطلق في عمليته الإبداعية أن يتزود بموروثه ليكون له الأرضية والأساس الصُلب لتحقيق إبداعه؛ فالشاعر هنا لا يجافي الماضي أو يتعالى عليه وعلى منجزاته الجمالية التعبيرية بل أستوعبه وجعله منطلقاً لتجربته الإبداعية، وهي نظرة لا تبتعد عن نظرة أدونيس التنظيرية حينما قال: إننا "لا نقدر أن نفهم حاضرنا الثقافي فهماً عميقاً والعمل على تكوين قيم ثقافية جديدة، يفترضان بدئياً، فهم ماضينا الثقافي فهماً عميقاً"([28])، فسيف يرى أن نضوج الفاعلية الشعرية في الذات تأسست على استلهام الموروث الشعري، وهو ما سنكشف عنه عند معالجتنا الأداء الفني.
ومن ثَم نجد أن استلهام الموروث لا يعني سلوك طريق القدامى وتطبيق منهجهم، بل للذات آليات ومسلمات خاصة، فكانت البداية من آخر ما أنجزه الموروث الشعري حتى تستطيع الذات الشاعرة "تأسيس وجودها في أفق البحث/ والسؤال، لم يعد الشاعر، بتعبير آخر، يكتفي بمحاكاة العالم، وإنما أصبح يمارس هو نفسه خلق العالم"([29])، لذا كانت البداية جديدة ومن آخر السطر، وهذا ما عبر عنه قائلاً:
أحاول قتل الفراغ
وأبدأ من آخر السطر
أمحو تجاعيد وجهي
وهذي الرضوض النياشين في القلب
والدمعة المستظلة في سقف اسمي([30])
فالبدء من آخر السطر هو البدء من آخر ما توصل إليه الإبداع الشعري، ومحو التجاعيد هو محو كل القيود والأساليب المتحكمة في نفسية الشاعر والمقيدة لنَفَسه التي تقف حاجزاً أمامه وتمنعه من الاسترسال في القول؛ فالشاعر يريد أن يخلق عالماً جديداً عالماً حراً مثالياً تكون له السيادة والرياسة بعيداً عن التقليد، فجعل من الواقع الميتافيزيقي نافذة ومدخلاً لرؤياه الإبداعية التجديدية، فالشعر الحديث "رؤيا. والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفاهيم القائمة."([31])إنها اليتم الزاهي، أو كما قال سيف:
وأنا أعود إلي مبتكراً كأزهى ما يكون اليتم.([32])
فاليتم من حيث هو انقطاع عن سلطة الأب لا يكون زاهياً إلا لأنه مقترن بالابتكار والإبداع الجمالي؛ وهو ابتكار لا يكون له حضور إلا إذا استطاع الشاعر تجاوز ذاته إلى الذات الكونية الكامنة فيه، التي يتعدى بها حدود الذاكرة والواقع الحسي إلى الجوهر والكلي، الذي تتوحد عنده المتناقضات، وهو ما عبر عنه بقوله:
أحاول إيصال نفسي بنفسي
وتفكيك قضبانها
أحاول تركيب نفسي على هيئة
يتزاوج فيها النقيضان:
أغدو أنا النهر والشاطئين([33])
فالشاعر يعبر عن الحضور الشعري الذي تمتزج به الذات بموضوعها "حضور في "النقطة العليا"* التي هي بمنزلة مكان يتلاقى فيه الكون الداخلي الذاتي، والكون الخارجي الموضوعي... وهي النقطة التي تؤلف بين الأشياء، على تنوعها، وبين الواقع، وما وراء الواقع. وفيها تتجمع الطاقات الإلهية التي حَلُمَ نيتشيه باستردادها والتي عاشها التصوف العربي، أعني استردها في نظرية الحلول، وفي نظرية وحدة الوجود"([34])، وهو حضور يستدعي تجاوز الذاكرة والواقع الملموس؛ ومن ثم يقول سيف:
أغادر آخر الخرائب المتربة في أسمائي([35])
إذن فلابد من مغادرة كل ما هو مادي؛ لأنه منبع الآثام ومجاوزة كل هذه القيود، والانفتاح نحو تغيير مجرى الحياة نحو الريادة وإثبات فاعلية الذات وتعاليها على العالم المادي؛ وهنا تتضح الرؤيا الميتافيزيقية، والرغبة في الانفصال عن الذات "المادية " وإبقاء الروح والنفس في سموها؛ "إنها ضرورة أن يصير الشاعر رائياً ويحول روحه إلى شيء "هائل""([36]). إنها رؤيا سريالية من حيث إن السريالي "قد ألفى نفسه غير قابل للتلاؤم مع المجتمع، فلأنه كان عليه أن يكتشف سر وجوده قبل أن يستطيع اتباع أي نمط مألوف للسلوك "([37])؛ لذا نجده مؤملاً بارتياد الرياسة والتملك، قائلاً:
أريد لنفسي أن تتخطى تضاريسها
وتصير هي الحقل والبذرة والجذر والزهر
والسنبلة.
أريد لنفسي ارتياد مجاهل نفسي..
والسير في صوب كل الجهات
بدون سارية أو دليل
ولا بوصلة.([38])
فالشاعر هنا يريد أن يخلق من ذاته ذاتاً فاعلة بذاتها لا بذات الآخرين "بدون سارية أو دليل"؛ وعالمه هو عالم مفتوح غير محدد؛ لذا عليه أن يخوضه بجميع جوانبه للوصول إلى الحقيقة واكتشافها؛ فإذابة العالم المادي والتحكم فيه وخلقه من جديد؛ ضرورة لانتقال الشاعر من العالم الواقعي الممتلئ بالرتابة إلى عالم الحلم المملوء بالأمل والنبل، فالشاعر يريد مجاوزة هذا العالم الواقعي؛ لأن الواقع الذي يعيش فيه حسب تعبير أدونيس "لا يصح أن يكون غاية للشعراء، وإطاراً لهم. إنه وسيلة لخلق عالم أنضر وأغنى، فما أضيق العالم، وما أكثر ابتذاله إذا كان العالم الواقعي، عالم الحساسية المشتركة، هو العالم كله، ليس هذا العالم إلا بوابة تصلنا بالعالم الكبير الآخر، العالم الذي يفتحه الشعر ويقود إليه"([39]). ولا يتحقق له ذلك إلا بالتجرد من الماضي ونسيانه والخوض في غمار رحلة كشف جديدة، جاعلاً تلك النفس معتمدة ذاتياً في رحلة تمردها في إشارة منه إلى "السندباد" الذي يخوض رحلاته منفرداً من غير رفيق ولا مرشد. إنها رحلات مجهولة للكشف عن عالم مجهول، وهذا الارتياد يعد مغامرة؛ فأضحى تحطيم التقليدي المتعارف عليه والمعروف لدى جماعة ما رغبة للانطلاق نحو التجديد؛ فهذا التحطيم يكون بفعل الخيال "إن العالم الذي يبدعه هذا الخيال الخلاق وهذه/ اللغة المتميزة أصبح معادياً للعالم الواقعي كل العداء."([40]) وهذه الرؤيا تجاه تحطيم الواقع ونسفه هي محل توافق مع العديد من الشعراء، ف" "أورتيجا أى جاسيت "يلاحظ أن "النفس الشاعرة تهاجم الأشياء الطبيعية، فتخرجها أو تميتها". "ودييجو" يقول: "إن الشعر هو خلق لأشياء لن نراها أبداً: "ومارسيل بروست "يكتب قائلاً: "إن عمل الفنان أشبه بتلك الحرارة الشديدة التي تعمل على تحليل التركيبات الذرية وتجميعها في تركيبات جديدة مختلفة عن سابقتها تمام الاختلاف""([41]). لذا نستطيع هنا أن نصف رؤيا سيف التجديدية، أنها تنبع من التعمق النقدي الذي اكتسبه الشاعر مواجهاً به الواقع؛ إلا أن ما يحسب للشاعر ويتفرد به أنه استطاع أن يبرز رؤياه في نص شعري مكسواً بالخيال واللغة المتميزة مما أكسبه تفرداً وتميزاً؛ فقارئ شعره يدرك بأن الرجل ينطلق في شعره من حس نقدي متميز يرى فيه أن على الشاعر أن يخضع العالم وأشياءه لخدمة شاعريته فيضحى مالكاً لهذا العالم متصرفاَ به كيفما شاء، وهو وعي عبر عنه بقوله:
أستطيع إذا شئت أفرد صفحة هذا الفضاء
وأرسم في ملكوت ابتهالاته الرحب لي وطناً..
بمرافقه الكاملة.
وأعدّ له الشعب والجند، والخيل،
أفضض أعناقه ومزاميره
بطلاوة عبق الأغاني
وبالشجو
أبنيه حرفاً فحرفاً إلى أن يصير كعنق الهلال أنيسا ً
فأدخل في قوسه أكمل العزف: عزف أناشيد مملكتي الفاضلة([42]).
فملكوت ابتهالاته "الرحب" توحي بفوضوية هذا الملكوت؛ أي إن لفظة "الرحب" توحي بتحررها "من الزمان والمكان، ومن كل ما يحدد، يمكن للروح الشعرية أن تنطلق عبر أثير بلا تخوم، وتحتضن الكواكب في امتدادها وفي تطورها أن تلتقط الجمال في أشكاله الأكثر مفاجأة، والأكثر عنفاً"([43])؛ فالذات الشاعرة تسعى لتملك العالم والبحث عن الكمال الذي خلق له الإنسان؛ وهو عند ابن عربي "الخلافة، فأخذها آدم بحكم العناية الإلهية وهنا يفرق ابن عربي بين الخلافة والنبوة والملك، أو الرسول عليه التبليغ خاصة. وليس له التحكم في المخالف، فإذا أعطاه الله الحكم فهو الخليفة؛ أما الملك فهو التحكم من غير نبوة. والكمال يمكن السعي لاكتسابه، أما النبوة فلا"([44])؛ فالشاعر حقيقة يبحث عن الملك، ولكن ليس ملكاً مادياً، وإنما الملك الروحي الجمالي، وهو ما عبر عنه سيف بقوله:
أأحلم ؟
هذا الفضاء المدلى نشيد ٌ
وهذي الغمام والبرق والشهب
والشفق الأرجواني
ملك يدي.
بضربة حلم أقول لها أن تكون..
فتصبح للتو كائنة([45]).
فالشاعر اتخذ من العالم الميتافيزيقي منفذاً لمجاوزة العالم وكمدخل لممارسة سلطته حتى يغدو هو المشرع والمالك الذي لا تعلوه سلطة أو ملك كما أوضحنا آنفاً؛ ومن ثم يستطيع أن يفجر طاقاته الشعرية الإبداعية، فهو خالق هذا العالم؛ إذن فلا بد أن تخضع له مكوناته؛ وهو هنا يتداخل مع الذات الإلهية من حيث إن الله خالق الكون بكلمة ..."...وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ "([46])؛ مع أنه لا يخلق عالماً خيالياً محضاً بقدر ما يخلق عالماً يواجه به العالم المادي أو" يخلق الواقع اللائق، حيث تستيقظ طاقات الإنسان للتآلف مع الطاقات الأخرى من أجل بناء عالم جديد، وكل إنساني واحد"([47])، وهو ما عبر عنه، بمثل قوله:
للملوك الهراوات
والأعين الضارعات
وما خبأ الناس خلف جلابيبهم من مواجع
أو فرح مستكين
ولي الشعر..
هذي العصا الإلهية العاشقة
إذا شئت أفلق هام الملوك بها
أو أهش ذبابة المخافة فيها
عن الخائفين..([48])
فالشعر عند سيف معجزة كما هي (عصا موسى) الذي فلق بها البحر، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى؛ كما أنها سلاح بيد الضعفاء تدافع وتدحر عنهم كل ضيم؛ فنص سيف هنا يؤسس على توجهات روحية ترفض التورط في الماديات من خلال هذه المواجهة بين المادي هراوات والروحي الشعر، وهي تحمل في مضمرها رؤيا الشاعر وموقفه تجاه الماديات فنجده ينحاز إلى المعنوي الروحي، لأنه يجد فيه نجدة ومآلاً ونصرة للخائفين؛ وهذا أعطى النص اقتراباً من السلطة العلوية باعتبار العصا الشعر إلاهية ينصر بها الخائفين؛ فهنا يتحول الخطاب إلى شيء شبيه بالوحي بما يحمله من مولادات روحية اقتربت إلى التقديس بما تكنه في مضمرها من تناص مع عصا موسى كما ذكر آنفاً؛ وهنا تتعالى شاعرية النص بولوجه إلى العالم الميتافيزيقي، ومن ثم وجدنا سيفاً يدرك أن النصوص الشعرية التي يبدعها لا تعطي مدلولاً مباشراً بقدر ما توحي عبر التواصل الجمالي معها؛ ومن ثم يخاطب قارئه، قائلاً:
إن خمري كبقع الضوء، وضوئي لا يدخل من باب واحد، وإنما يُجتلي من كرمة لمعانه، قطرةً قطرةً([49]).
فتقدير المدلول الشعري لا يتم إلا بالتواصل الحميم مع النص، أي بالحوار بين النص والمتلقي؛ والمعنى هنا لا يتم دفعة واحدة بل عبر القراءة المتعددة؛ فالتواصل مع النص الشعري لا يتم إلا بالحوار مع القارئ، ولا تحقق ديمومة هذا الحوار إلا إذا ما كان النص محتفظاً بماهيته حيث تدفع المتلقي لبذل الجهد للوصول إلى ذلك؛ وبذلك يخرج النص الشعري عن الآنية ليحقق الاستمرارية.
وبطبيعة الحال فإن النص الشعري لا يكون كذلك إلا لأنه بقدر ما يكشف الحقيقة الجمالية فإنه يكشف اللغة التي تعبر عنها؛ ومن ثم فالقصيدة في وعي سيف عالم لا يشبه إلا نفسه. والقصيدة في رؤيا سيف هي عمل لا يشبه إلا نفسه كذلك، فهي بقدر ما تستخدم إمكانات الواقع المادي وإمكانات اللغة غير أنها تعيد تشكيله في بناء خاص؛ أي تبدعه وهو إبداع يصيب كل مكونات العمل الشعري بدءاً من الواقع وإمكاناته، وكذا الذات الشاعرة وانتهاءً باللغة؛ ومن ثم فهي تبحث (عن سماء ثامنة) كما في قوله:
أدخل بلسماً وأخرج طلسماً، وأمشي بينهما كأسنان المشط: أغنيةٌ تهذي بين الصدى والصوت. تبحث عن سماءٍ ثامنة تنقش في زرقتها اسمها الذي يجمّلها أو يكمّلها أو يحمّلها ذنوب مملكة طروادة. اسمٌ لكل عاصفةٍ ودعاء لكل ناسك. متشعبٌ مثل أفنان السعف، ومتطاول كعنان السنديان.
أنا الذي اتسع فامتنع أن يقبض بعصاه الفهم. قابل للتأويل، وقابل للانفضاض أو الصدارة لا فرق. كأنني عصا. أدفق في نبع وأفتق من حجر. من يسر معي امتلكني، وإلا امتلكته، وإلا زرعنا بيننا غصن آس، يظللنا بالتوبة معاً، ويسدل علينا أحجار المراثي، فنرجع إلينا، كأننا ولدنا ثم نمضي: كلٌ إلى حيث ينتهي بعد الفطام ([50]).
فسيف يدرك أن هذه السماء الثامنة التي تسعى القصيدة إلى امتلاكها إنما تتم باللغة، وهذا لا يتحقق إلا حين "تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام"([51])؛ وهذا ما عبر عنه الشاعر بقوله:
وأكنس ما قد أصادفه من رثي القواميس
أو من رفات المعاني
وما شج من كثرة اللمس والدعس
أو كل ما لوث الكف من فرط تقويم
قامته المائلة ([52]).
فالشاعر هنا يريد أن يخرج على اللغة الصناعية الاستهلاكية التي يتداولها الناس، وأن يبحث عن اللغة الأصلية التي تكمن في الأغوار، والتي تمثل صور التكامل الإنساني في كل زمان ومكان، في الماضي وفي الحاضر؛ "فالشعر قد أصبح بما لا يدع مجالاً للشك لغة التعبير عن عالم من خلق الخيال وحده، عالم يرتفع فوق الواقع أو يحطمه أو يلغيه"([53])؛ فالشاعر استخدم اللغة ممزوجة بالخيال كسلاح فتّاك يدك ويهدم كل قديم ملوَّث. إنه متمرد على التراث "والمتمرد على التراث قد ينجح في تحطيمه أو مقاطعته ولكنه لا ينجو أبداً من تأثيره ولا يستطيع الإفلات منه"([54]) . والبداية بميلاد جديد بأصوله وأساليبه وصوره حتى يتمكن من تجاوز تلك العوائق والانطلاق نحو التجديد؛ وهذا لأن الشعر حين يغدو "معتمداً اعتماداً كلياً على اللغة السائدة في أيامه التي يسهل فهمها في تلك المرحلة، يموت تلقائياً بسبب ما يعتوره من جمود ورتابة"([55]) فنسف الواقع المادي بمولداته من رتابة. وملل يعني نسف التقاليد الشعرية القديمة؛ وهذا ما يستظهره قول سيف:
سأجتز عنق الرتابة من جذعها
وأغوص إلى القاع
أبحث بين الخرائب... أعني الطحالب.
عن جذوة
وفضة
درة مهملة([56])
فالبحث عن عالم جديد "لا يكتفي باستحضار إمكانية التدمير وأدواتها، ثم قدرات التكوين وأدواتها فحسب، بل يحتاج إلى لغة جديدة في معجمها، جديدة في نحوها"([57]) فالثورة الحقيقية" ستبدأ عندما نرفض كل شيء ونبدأ بالولادة من جديد.. أي نبدأ من حيث تبدأ الأشياء"([58]). ونلحظ أن الشاعر يرفض كل مألوف ويسعى إلى ابتكار دوال جديدة للمدلولات والأشياء، كما في قوله:
سأسمي الغمام الذي يتكاثب فوق مشارف أحداقنا أدمعاً
والقصور التي تترامح للأفق: أحداقنا الذاهلة.
سأسمي البساتين أضرحة
وعيون النساء شواهدها الماثلة
سأسمي العصافير زفر هوانا المشرّد في الريح
والنخل طفح فجائعنا الطائلة.
سأسمي الحروف التي دبجوها دمىً
والقصائد صفصافة قاحلة
سأجمع كل المواعظ واللغو والجعجعات
وما يعلق الآن في السمع،
أو في حذائي، من حيث أفعالهم ثم أبصقها دفعة كاملة([59])
فتسمية الأشياء هنا تبدو على سطحيتها في غاية البساطة من خلال الفعل"سأسمي" "إلا إن تحت هذه البساطة والوضوح يكمن الاستعمال السري والسحري للغة، يوم كانت تسمية الشيء تعني امتلاكه والسيطرة عليه بقوة الكلمة، وفرض رؤية الإنسان وفعله على الطبيعة بما يخرجها من التباين إلى التآلف، حيث تضيع التميزات الموضوعية بين الأشياء وتتحمل التأليفات لها منطقها العاطفي، وإن افتقدت مبررها العقلي"([60])؛ "فهذا الجهد لإيجاد لغة قادرة على الحديث إلى الروح ("من الروح إلى الروح" ..، وعلى نقل ما هو أكثر حميمية في التجربة الشعرية، وتحقيق فعل سحري وإبداعي في آن واحد، ليس مجرد"تفسير أورفي" للكون (حسب تعبير "مالارمية ")؛ بل سيطرة على الكون فهذا الجهد يخاطر بفعل العنفوان الروحي، بتفجير الأطر الجاهزة، وبسحق الأشكال المألوفة للغة وللنظم، إلى حدِّ أن هذا الشعر بطموحاته /"الإيكارية " أحياناً ما سيفضي إلى الصمت والعدم،..."([61]). وإذا ما تحقق النص بمثل هذه اللغة التي توحي ولا تبوح وتكون بمثابة "بنية مخلخلة متشظية متشذرة بفراغاتها وغياب روابطها. وصار القارئ وفق نظرية التلقي هو الذي يملأ فراغاتها، ويقيم روابطها، ويمنحها تماسكها."([62]) واستنطاق هذه اللغة "النص" يكون من خلال القراءة القائمة على الجدل بين "الأسئلة التي يثيرها القارئ والأجوبة التي يقدمها النص، وبين المؤلف الجديد ( وهو القارئ) الذي يوجه للنص أسئلة مختلفة حتى يكتب هو نصاً آخر"([63])، وهو ما عبر عنه سيف بقوله:
أيها الداخل في فضاء أعنّتي..
أعنّي على نفسي، كي أعيد ما في ذمتي من دين للمرايا وأسمع ما ألقيه عليك إلى أن أنفضَّ، فإما توليتني، وأعود إلى أدراج رمادي، كأن، لم أكن وإما توليتك، وقسمت رزقي معك بالكفاف([64])
مع أن الشعر لدى سيف ليس ترفاً بل موقف مميز من الوجود ورسالة تسعى إلى تعزيز قيم الفضيلة، فالشاعر لا يبقى في برج عاجي؛ إنه يقوم بدور فاعل ناقد ومصلح ومبادر إلى التغيير، وهذا ما عبر عنه بقوله:
دعوني أصالح بين الرثاء وبين الدعاء
وأطلق في الصمت آخر أعيرتي([65]).
وقوله:
فلا تسألوا الماء من أين جاء ! ولا تسألوا الطين كيف أتى!
اسألونا عن الشجن المتأله في عرش أشلائنا:
هل سنبقيه في شفة الصمت، حتى انهيار جدار الجليد على الأرض؟
أم هل سنلقيه في برق أوّل مرثية قد تحط على سمعنا؟
نحن نسأل من لا يجيب. فكونوا اختصار الجواب الذي يوقظ الطين(4)؛ من كهنوت الخطايا ([66]).
وإذا ما كان الشعر ينتج الجمالي فإنه لا يخلو من النفع؛ ومن ثم يقول سيف على لسان الذات الشاعرة:
كفاي من مطرٍ وطينٍ
ويداي بسملةٌ. وقيل مسلةٌ. وأصابعي ذهبٌ. وبين أصابعي ذهبٌ.([67])
بل اتخذ من الشعر سلاحاً فتاكاً ضد أعداء الإنسانية وأصحاب الماديات، حيث يقول:
للملوك الهراوات
والأعين الضارعات
وما خبأ الناس خلف جلابيبهن
من مواجع أو فرح مستكين
ولي الشعرُ..
وهذي العصاة الإلهية العاشقة
إذا شئت أفلق هام الملوك بها
أو أهش ذباب المخافة فيها
عن الخائفين([68])
مع أن الشعر لا يتخلى نفعه عن صاحبه فهو يعد بمثابة الواقع الموازي الذي تخلقه الذات لتعيش به أو لتحتفظ بتوازنها من خلاله، حيث يقول سيف:
يقولون: إن القصيدةَ ضيّقةًٌ ضيّقهْ
يقولون: إن القصيدة مثل لحاف المسافرِ،
أو مثل غماد الخناجرِ
أو مثل أحبولة المشنقة.
وأقول: بأن القصيدة أرضي التي لا تُحدُّ
وشعبي الذي لا يُعدُّ
وسيفي الصقيلُ الذي ما لحّديه حدُّ
أقول: القصيدةُ دمعي البهيُّ المغنيّ
وأحلاميَ الناطقة.([69])
وكثيراً ما يتبنى سيف الرؤيا الاجتماعية التمردية، وهي رؤيا لا تقبل الواقع لكنها لا تفرّ منه بقدر ما تسعى إلى تغييره عبر تدميره وإعادة خلقه بما تتخذ الذات الشاعرة في مثل هذه الرؤيا موقف الفادي، فيقول واصفاً قريته:
لعينيكِ لون السنابل، حين تماوجها الريح،
لكنني..
أتمعن فيها فأشهد جرحاً
وأمعن فيك فيستفني الجرحٌ
إن المرارة تجتزني من جذوعي
فأهوي بقاعك مشتبكاً في ذهولكِ
أبحث بين القبور الفسيحة عن شاهدٍ
قد يكون بعمق اغترابي
وأبحثُ، أبحثُ
كل الشواهد تومئ:
إن الطريق لعينيكِ يعبر من فتحة الموتِ
سيدتي
بعد هذا الطواف الطويل تكونين مقبرةً!
كيف لي أن أمارس زهوي بعينيكِ
حين يراودني الحلمُ
أو تعتريني القصيدة ؟/
إني أراكِ فأحشد نفسي لموعد حزنٍ جديد
واحتار: هل أبدأ الزحف من مد جرحي
الذي لا يهادنُ ؟
أم أبدأ النزف من حد عينيكِ
إن البكاء صلاة المحاصر
فليسع الدمع نافلتي وجروحي
يا جراحي التي لا يضمدها الطِيبُ
عيناك مقصلةٌ
وأنا جئت من أذرع الموتِ .. كي أرتديها
عناقاً يمازجني فيك حتى الشفاء
فهلا اتسعتِ قليلاً!([70])
وكذا نراه يتحسر من ذلك الواقع المرير وخاصة عندما يتنكر ولاة الوطن على المواطنين وذوي الكفاءات، فيقول:
إذا أنت يممتَ قبلةَ أشلائك اليومَ
شاهدتَ من كان يمشي إلى الخلفِ،
يعشو كمغمضةٍ في الظلام
ومن كان يزقو يساراً،
ينوخ على إليةٍ
ويسّمد فروتها بالضماد.
ومن كان يعجز في المشي،
يختال منتفخاً كذكور الحمام ([71])
إنه ينظر إلى غياب مبدأ تكافؤ الفرص بحسرة وألم بحيث يحل أشخاص في مواضع ليسوا أهلاً لها، وهذا راجع إلى طبيعة النظام القائم على المحسوبية واللانظام؛ فالشاعر ينضم إلى صفوف المناضلين الذين يستحقون كل تكريم، ولهذا وجدناه يتحرق ألماً عند وفاة أحد الرموز النضالية، ويرى أن ذلك مأساة وطنية وليس مأساة شخصية، عبر عنها بقوله:
قبل أن تبزغ الأرضُ من ملكوت الخطى
وتصير القصائد أسئلةً
والأغاني هباءْ
قبل أن ينشب الشكو أظفاره في رقاب البكاءْ
وتصير الحناجر حشرجةً
والسكوت رثاءْ /
فبل أن يشهر الخوف خنجره في الهواء
وتلوذ العنادل بالصمت
والبحر يصبح مشروع مرثية
أو دعاْءْ
أَنَذَاكْ..
كان لي وطن.
أَنَذَاكْ..
كان لي أصدقاء([72]).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخذ الشاعر يتألم عندما رأى وطنه ذا الحضارة العريقة بشارع واحد ترابي، في الوقت الذي يرى فيه بلدان العالم تتقدم ، فيقول:
أتأبط حزني في صمت ..
أعدو بين جموع الزحمة .. كي. أتفرس من حولي
جدران الزحمة لاصقة، كبقايا الصمغ، بموضعها
الأوجه، نفس الأوجه
والوقت، الوقت.. وكالمعتاد
سيلٌ يمضي
سيلٌ يأتي
وعيون الجمع تغور بقاع ثقوب الأحزانْ
من ذا يتحمل عن أكتاف الحزنِ، الحزنَ
ويأخذ بعض حمولته: من هذي الأكفانْ ؟
لكأن الحزن يناديني
فأفر إلى نفسي، ألوذ بها!
أمشي أتأبط وجهي في صمتٍ، أتثاءب في مللٍ
"لعن الله القات"
أتنصت للخطو الممتد على طول الشارع
فأراه يرد بصوت مبلول بالبرد
"لعن الله القات"
وبدون هدىً
تمتد يدي ما بين الفينةِ والفينةِ
"أهلاً ...أهلاً.."
يتماوج سيل الزحمة من حولي في خطو فاترْ
يدنو مني. يتلاصق بي. يتداخل في حزني
حزني حزنان:
أن أهرب من نفسي
أو أعود وأدخل ثانية!
سأطارح حزني وشايته:
ماذا خلف الليل؟
لا يأتي هذا الشارع إلا في الليل.
لايصطاد طيور بشاشتنا إلا في الليلْ
وبرغم الأحزان
أعدو فيه
أتسلق حيطان الليل
أتعلق إعلاناً شمعياً بين الأضواء
وتنهرني الأعين:
من أنت ؟
وأحاول أهرب
أهرب..
لكن لا أدري
الوقت مساء.
والحزن ترى من يحمل هذا الحزن؟([73])
فالمأساة التي صورها الشاعر هنا تمثل رؤيا الشاعر تجاه هذا الوضع القائم عبر عنها بأسلوب ابتعد فيه عن التقريرية والخطاب المباشر، وهذا يفصح عن وطنيته؛ لأن الوطنية غير مقصورة على التغني للوطن ومدحه "بل بالتعبير عن مآزقه، وانكساراته، وتعرية الواقع، والتعبير عن المأزق السياسي عبر المفارقة والسخرية أحياناً، ونقد الذات؛ وقد يتم ذلك كله بشكل مباشر يحتفي بالجمل الحادة التقريرية والوضعية المباشرة، أو بشكل مستتر يطغى عليه الرمز والتجريد"([74])؛ ونلحظه من جهة أخرى يحن إلى العز العربي والإسلامي في الأندلس، ولكن بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال استدعاء بعض الشخصيات التاريخية أو الأمصار الإسلامية، مثل قوله:
دعوني أصالح بين الرثاء وبين الدعاء
وأطلق في الصمت آخر أعيرتي
سأقول الطريق إلى "غرناطة" اليوم، أقصر من أي وقت مضى!
فاثبتوا أيها الشهداء، كأن لم نكنْ.
فإما نصلي هنا فوق سجادة من دم.
أو نصلي هناك،
فنمشي ونمشي إلى "كربلاءْ ".([75])
إنه الحنين إلى العز العربي الإسلامي في الأندلس التي خرج منها المسلمون منهزمين بعد أن حكموها حوالي ثمانية قرون؛ ثم يذكر المأساة الأخرى مأساة كربلاء التي راح ضحيتها حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحسين بن علي؛ ويقول بصدد ذلك:
وأنا متعب(1) ناهض من دم. راكض من دم. من أمامي صدى وورائي عويل(2)([76])
إنه الحنين إلى العز العربي في الأندلس التي لم يبق فيها من ذلك العز الشامخ إلا ذلك "الصدى"، وكذا نرى الشاعر يتألم لمصاب الأمة الإسلامية بالوباء فأصبح العويل يصدح؛ إنه عويل إخواننا في فلسطين الذين مازالوا يقاومون المحتل الصهيوني في غفلة من إخوانهم العرب.
وخلاصة القول هو ما قال هيدجر: "كل فن هو شعر، وكل شعر هو لغة، فإن ماهية اللغة بما هي كذلك تكمن في إحضار الموجودات بما هي كذلك لأول مرة، المجال المفتوح. فاللغة تسمي الموجودات لأول مرة، وبذلك تجليها للظهور؛ ومن هنا فإن الموجودات تكشف عن نفسها للإنسان عن طريق اللغة.../ ومن هنا أيضاً يكون لكل إبداع فني صلة عميقة باللغة؛ والطبيعة الإبداعية للغة هي ممارسة للشعر بمعناه الماهوي، أي إنها تكمن في ماهية اللغة، لأن اللغة تسمي الموجودات، وهي بهذا المعنى تستحضر الوجود، ومن جهة أنها وسيلة الإنسان إلى الكشف عن الوجود المتحجب الذي يحيا فيه"([77]). وهذا ما أدركه سيف وجسده في عمله الشعري كما سنرى.
الجنوبية نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.