الإطاحه بقاتل شقيقه في تعز    صافرات الإنذار تدوي في ''إيلات'' .. جيش الاحتلال يعلن تعرضه لهجوم من البحر الأحمر    خبير آثار: ثور يمني يباع في لندن مطلع الشهر القادم    وفاة ضابط في الجيش الوطني خلال استعداده لأداء صلاة الظهر    محلات الصرافة في صنعاء تفاجئ المواطنين بقرار صادم بشأن الحوالات .. عقب قرارات البنك المركزي في عدن    إعلان قطري عن دعم كبير لليمن    جماعة الحوثي تفرض اشتراط واحد لنقل المقرات الرئيسية للبنوك إلى عدن !    خمسة ابراج لديهم الحظ الاروع خلال الأيام القادمة ماليا واجتماعيا    حلم اللقب يتواصل: أنس جابر تُحجز مكانها في ربع نهائي رولان غاروس    قرارات البنك المركزي لإجبار الحوثي على السماح بتصدير النفط    تعرف على قائمة قادة منتخب المانيا في يورو 2024    7000 ريال فقط مهر العروس في قرية يمنية: خطوة نحو تيسير الزواج أم تحدي للتقاليد؟    أرواح بريئة تُزهق.. القتلة في قبضة الأمن بشبوة وتعز وعدن    فيديو صادم يهز اليمن.. تعذيب 7 شباب يمنيين من قبل الجيش العماني بطريقة وحشية ورميهم في الصحراء    فضيحة: شركات أمريكية وإسرائيلية تعمل بدعم حوثي في مناطق الصراع اليمنية!    انتقالي حضرموت يرفض استقدام قوات أخرى لا تخضع لسيطرة النخبة    صحفي يكشف المستور: كيف حول الحوثيون الاقتصاد اليمني إلى لعبة في أيديهم؟    إنجاز عالمي تاريخي يمني : شاب يفوز ببطولة في السويد    المجلس الانتقالي يبذل جهود مكثفة لرفع المعاناة عن شعب الجنوب    عن ماهي الدولة وإستعادة الدولة الجنوبية    الوضع متوتر وتوقعات بثورة غضب ...مليشيا الحوثي تقتحم قرى في البيضاء وتختطف زعيم قبلي    مسلحو الحوثي يقتحمون مرفقًا حكوميًا في إب ويختطفون موظفًا    الدبابات الغربية تتحول إلى "دمى حديدية" بحديقة النصر الروسية    حرب وشيكة في الجوف..استنفار قبلي ينذر بانفجار الوضع عسكرياً ضد الحوثيين    حرب غزة.. المالديف تحظر دخول الإسرائيليين أراضيها    عن الشباب وأهمية النموذج الحسن    - الصحفي السقلدي يكشف عن قرارات التعيين والغائها لمناصب في عدن حسب المزاج واستغرب ان القرارات تصدر من جهة وتلغى من جهة اخرى    بحضور نائب الوزير افتتاح الدورة التدريبية لتدريب المدربين حول المخاطر والمشاركة المجتمعية ومرض الكوليرا    شرح كيف يتم افشال المخطط    بدء دورة تدريبية في مجال التربية الحيوانية بمنطقة بور    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و439 منذ 7 أكتوبر    "أوبك+" تتفق على تمديد خفض الإنتاج لدعم أسعار النفط    ولي العهد الكويتي الجديد يؤدي اليمين الدستورية    رصد تدين أوامر الإعدام الحوثية وتطالب الأمم المتحدة بالتدخل لإيقاف المحاكمات الجماعية    الملايين بالعملة الصعبة دخل القنصليات يلتهمها أحمد بن مبارك لأربع سنوات ماضية    5 آلاف عبر مطار صنعاء.. وصول 14 ألف حاج يمني إلى السعودية    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا    بالصور: اهتمام دبلوماسي بمنتخب السيدات السعودي في إسبانيا    من لطائف تشابه الأسماء .. محمود شاكر    مصرف الراجحي يوقف تحويلاته عبر ستة بنوك تجارية يمنية بتوجيهات من البنك المركزي في عدن    تاجرين من كبار الفاسدين اليمنيين يسيطران على كهرباء عدن    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    الوجه الأسود للعولمة    الطوفان يسطر مواقف الشرف    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل من حدود فاصلة بين الأنواع السردية؟
نشر في الجنوب ميديا يوم 31 - 12 - 2012

لا يخلو السرد من تماس مع سيرة ذاتية، كما لا يخلو سرد من حكي، ولا يخلو حكي من استخدام اللغة في الكشف عن مساراته . هل في الإمكان تصور قصة من دون تدخل للحكي عن الذات، سواء أكانت هذه الذات حاضرة تكشف عن نفسها، أم كانت ذات متحولة في شخوص الحكاية؟ وماذا عن الراوي السارد؟ أليست الشخوص المسرود عنها هي بعض من تحولاته، إذ مهما حاولت التعبير عن كيانها هي، لكن مصيرها مرهون بيد السارد يتحكم فيها تبعاً لمردودات ذاته هو .
هل كل حديث عن النفس في الرواية يحيل إلى الذاتي بالمفهوم النفي؟ وهل كل ما هو ذاتي يرقى لأن يدخل في إطار السرد بمقتضياته الجمالية؟ وهل تحقق رواية السيرة الذاتية المتطلبات الجمالية للرواية بما يجعلها تقف على مستوى خط الإبداع الروائي؟
لا شك في أن اللغة، وطرائق الحكي، والقدرة على الحبك والسبك والنظم (بالمفهوم الشعري) هي دلائل أولية للعمل الروائي، وهي المتحكم في صنع الجماليات التي تستطيع تحقيق الحد الأدنى من الإبداعية، أو على أدنى تقدير تقترب من تحقيق هذا الحد، إذ إنه سيظل حداً مرناً ومنفتحاً قابلاً ليس لتجاوزه، وإنما لمحاولات الاقتراب منه .
ثمة خلط يحدث بين رواية السيرة الذاتية، والسرد الذاتي، والسيرة الروائية، وهو خلط ناتج عن تداخل الأنواع الأدبية وهدم الحدود الفاصلة بين الأنواع من جهة، وذائقة التلقي التي لم يعد في الإمكان إغفالها في تحديد جماليات النوع، والتي قبلت هذا التداخل واعتبرته مكملاً وليس عيباً في النوع .
إن المتحكم الأول في تحديد ملامح الرواية أو السرد الذاتي، وتمييزه عن رواية السيرة الذاتية، والسيرة الروائية إنما هو الضمير السارد، وموقع الراوي، وهو أحد العناصر الرئيسة التي يعمدُ السرد إلى الكشف عنها من خلال رصد موقف الراوي من شخصياته، والذي لا يخرج عن أن يكون واحداً من مواقف ثلاثة (1)، هي:
* الرؤية من خلف، ويستخدم الحكي الكلاسيكي غالباً هذه الطريقة "ويكون الراوي عارفاً أكثر مما تعرفه الشخصية الحكائية، لأنه يستطيع أن يصل إلى كل المشاهدين عبر جدران المنازل، كما أنه يستطيع أن يدرك ما يدور بخلد الأبطال، وتتجلى سلطة الراوي هنا في أنه يستطيع مثلاً أن يدرك رغبات الأبطال الخفية، تلك التي ليس لهم بها وعي هم أنفسهم (2)، وتستخدم الرؤية من خلف صيغة ضمير الغائب "هو" .
* الرؤية المشاركة (الرؤية مع): وتكون معرفة الراوي هنا على قدر معرفة الشخصية الحكائية، فلا يقدم الراوي أية معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها، ويستخدم الكاتب في هذه الرؤية ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، والراوي على هذا الأساس إما أن يكون شاهداً على الأحداث، أو شخصية مساهمة في الحكاية نفسها (القصة) .
* الرؤية من الخارج: ولا يعرف الراوي في هذا النوع إلا القليل مما تعرفه إحدى الشخصيات الحكائية، حيث يكون الراوي هنا موضوعياً لا يستطيع أن يقتحم قرائه نفس شخصياته فهو يعتمد على الوصف الخارجي، أي وصف الحركة والأصوات والمشاهدة الحسية .
وعلى هذا الأساس يمكن رصد مظاهر حضور السارد في نصه، بالبحث عنه وتتبع صوته، وللسارد عادة طريقان: إما أن يكون خارجاً عن نطاق الحكي، أو أن يكون حاضراً بذاته داخل نطاق الحكي ومشاركاً فيه . وقد كان السارد في الخطاب النثري القديم، الخطاب الشعري الشعبي يأخذ شكل القول: قول الراوي، ولكنه مع المداخلات الحديثة للأدب اختفى الراوي لأنه لم تعد الحاجة ماسة إلى افتراض وجود شخصية تروي النص، ومن جهة أخرى فقد اختفى الراوي الذي تطغى معرفة شخصياته .
فإذا كانت السيرة الذاتية هي سرد سيرة حياة إنسان، ورصد منجزاته، وكأن الرواية فناً أدبياً سردياً له مقوماته الفنية وسماته الجمالية المعروفة، فإن هناك تداخل واضح بينهما، وتبعاً لما يحدده فيليب لوجون عن مفهوم السيرة الذاتية، فإنها تعني:
- تاريخ إنسان (مشهور عموماً) مروي من طرف شخص آخر، وهو المعنى القديم والأكثر شيوعاً .
- تاريخ إنسان (غامض عموماً) مروية شفوياً من طرفه لشخص آخر آثار هذا التاريخ من أجل دراسته (منهج السيرة في العلوم الاجتماعية) .
- تاريخ إنسان، مروي من طرفه لشخص أو أشخاص يساعدونه عن طريق سماعهم، على التوجه في حياته (السيرة في تشكلها) . (3)
ويحدد معجم لاروس مفهوم السيرة الذاتية على أنه: حياة فرد ما مكتوبة من طرف، أما فابيرو في "المعجم الكوني للأدب" فيحدد مفهومه للسيرة الذاتية على أنها كل نص يبدو أن مؤلفه يعبّر فيه عن حياته وإحساساته، حيث يرى أن "السيرة الذاتية عمل أدبي، رواية، أم قصيدة، أم مقالة فلسفية . . إلخ، قصد المؤلف فيها بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره أو رسم إحساساته، وسيقرر القارئ بالطبع ما إذا كانت مقصدية المؤلف ضمنية أم لا" .
ومن هنا فإن توسيع مفهوم السيرة الذاتية، ومفهوم الذاتي في السرد يعد أمراً مقبولاً من الوجهة الجمالية ومن منظور التلقي، ومن ثم يمكن رصد كل ما هو ذاتي داخل العمل الأدبي على أنه ينتمي إلى ذات المؤلف السارد، وإن كان البحث وراء مطابقة الواقع من عدمه أمراً لا يدخل في إطار الأدبية ولا تاريخ الأدب، وإنما ينتمي - أو يجب أن ينتمي - إلى غير الأدبي، حيث يخرج إلى إطار عمل التحقيق والتاريخ المحض، فرواية السيرة الذاتية ليست وثيقة تاريخية يتم الاحتكام إليها لمعرفة سيرة حياة إنسان، وإنما تخضع لمنطقها الداخلي لمعرفة سيرة حياة فنان، وهذا هو الأهم، إذ إن كثيراً من الكتّاب الكبار يشيرون إلى أن الحقيقة التي لا يستطيعون قولها في الواقع يمكن قولها عبر العمل الروائي، وهو ما تذكرنا به بعض مواقف كتاب "الأيام" طه حسين، والسرد الذاتي بعنوان "من لهو الصيف وجد الشتاء"، وكذلك أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، فبعض المواقف التي يعبّر عنها طه حسين من فساد بعض المعلمين ولهوهم مع التلاميذ وذهاب بعضهم إلى منتديات اللهو، كل هذا ما كان له حسين أن يتحدث عنه في الواقع، ولكنه استطاع من خلال السرد الروائي أن يتحدث عنه .
هل كل ما يرد من السرد الروائي من سيرة ذاتية أو سرد ذاتي ينتمي إلى الواقعي، أم أن الخيال شرط من شروط الإبداعية لا يمكن تجاوزه أو التخلي عنه؟
ولا شك في أن الإبداعية شرط أساسي في شروط العمل الأدبي السردي والشعري، وترتبط بهذه الإبداعية شروط ومتطلبات لا يمكن قبول العمل الأدبي الجيد من دونها، ومنها:
1- الإبداعية:
يعني الإبداع القدرة على إنتاج الجديد غير المحتكم إلى نموذج سابق تم إقراره والتوقف عنده، ويعني الإبداع في الدراسات المعاصرة، العمليات العقلية والمزاجية والدافعية والاجتماعية التي تؤدي إلى أفكار وتصورات ومنتجات فريدة وجديدة لم تكن موجودة من قبل، وليست تطويراً لأفكار سابقة عليها .
2- الأصالة:
حيث يجب أن تنبع الفكرة/ الأفكار في الأساس من صاحبها وتنتمي إليه، أي تكون أصيلة في إنتاجيتها، وفي طريقة التعبير عنها، وفي انتظامها عبر النوع الأدبي الذي تتلبسه، وبقدر درجات هذه الأصالة بقدر إمكانية قياس درجة تحقق الإبداعية، فأعلى مراتب هذه الأصالة الجدة والتفرد وعدم التداول من ذي قبل، وأدنى مراتب الأصالة إعادة تدوير فكرة قديمة على نحو جديد وبآليات جديدة، وفي سياق موضوع جديد، وتأتي بينهما مراحل، منها، نقل أفكار من حقول معرفية إلى حقول معرفية أخرى، وهكذا .
3- المرونة:
وهي القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغيير الموقف، وهو ما يتجلى لدى المبدعين والعباقرة الكبار، والذين يستطيعون الإبداع في أكثر من مجال أو شكل أو فن في آن واحد، أمثال الفنانين والأدباء الذين ينجحون في مجالات إبداعية متنوعة، ومنهم على مر التاريخ: ديستويفسكي بين الرواية والموسيقا، ومارك توين بين الكتابة الإبداعية الساخرة، والاختراع العلمي، وجبران خليل جبران بين الشعر والرواية والنثر الفني الرفيع، والعقاد بين الشعر والرواية والنقد والدراسات العلمية، وصلاح جاهين بين الشعر والرسم، وغيرهم كثير .
4- الطلاقة:
وتعني القدرة على توليد عدد كبير من الأفكار والبدائل بسرعة وسهولة، وهي في جوهرها عملية تذكر واستدعاء اختيارية لمعلومات أو خبرات أو مفاهيم سبق المرور بها، أو توليد أفكار جديدة من سابقة، ومن أشكالها، الطلاقة اللفظية وطلاقة المعاني، والطلاقة الفكرية، وطلاقة الأشكال .
وهذه الطلاقة هي التي تسمح للعمل الأدبي آن تشكله أن يتفرع في اتجاهات ومسارب قد يبدو بعضها بعيد الصلة، ولكن القدرة على الإبداعية هي التي تنظمه في سياق ذلك السلك .
5- الإثراء:
ويعني القدرة على إضافة تفاصيل جديدة ومتنوعة للفكرة بما يعمل على تطويرها وإغنائها وتوسيع مساحتها، تماماً كما يحدث في العمل الروائي الذي يبدأ بحدث صغير، ولكنه يعمل على تطويره وإضافة التفاصيل والتقاطعات إليه، وضم المتشابه وغير المتشابه إلى نسقه، وتكفي مطالعة لأعمال ماركيز "مئة عام من العزلة"، و"الحب في زمن الكوليرا"، ونجيب محفوظ "الثلاثية"، و"حديث الصباح والمساء"، و"قشتمر"، وخيري شلبي "الوتد"، و"وكالة عطية"، للوقوف على القدرة في إضافة التفاصيل لموضوع الرواية وصولاً به إلى هذه المساحة، وذلك العمق .
6- الحساسية للمشكلات:
وتتعلق بالقدرة على الوعي والإحساس بمشكلة ما، أو معالجة قضية، أو فكرة ما، حيث لا يتوافر ذلك لغير المبدعين، إذ إن اكتشاف المشكلة والإحساس بها يمثل جوهر الإبداع، فهو يدفع بالضرورة إلى البحث والتفكير والتحسين والتعديل، ويرتبط بهذه القدرة ملاحظة الأشياء غير العادية أو الشاذة أو المحيرة في محيط الفرد أو إعادة توظيفها أو استخدامها وإثارة التساؤلات حولها .
البناء الفني
لكل عمل أدبي مقتضياته، وأسسه الجوهرية التي لا يمكن الاستغناء عنها، فعلى سبيل المثال: هل يمكن أن تكون هناك رواية من دون أحداث، أو شعر من دون تصوير، أو مسرح من دون شخوص؟
ربما قد ينتفي في الرواية مفهوم الحكاية على النحو التقليدي، ولكن لا ينتفي مفهوم الأحداث، وقد يتخلخل البناء الزمني في الرواية والقصة والشعر والمسرح، ولكن لكل منطقه في خلخلة هذا الزمن وإعادة تشكيله، أي أنه قد يختلف التداول لكن الأساس لابد له من وجود وبمنطق التطور الذي وصل إليه منجز النوع الأدبي .
معنى ذلك أن هدم نظرية الأنواع الأدبية لا يعني على الإطلاق هدم أسس ومرتكزات النوع الواحد قصة، رواية، مسرح، وشعر، وإنما يعني هدم الفصل التام والقطعي بين الأنواع، وطرح إمكانية تبادل تقنيات وعناصر هذه الأنواع في ما بينها، وكذلك إمكانية تطوير نسق تناول هذه التقنيات داخل النوع الأدبي، تماماً كما حدث في التطور الذي لحق عناصر بناء الرواية، والقصة، والشعر، فلم يعد على الرواية أن تحدد الأبعاد النفسية والجسمانية والاجتماعية للشخصية، وإنما أضافت علوم السرد أبعاداً أخرى تطورية في طرائق رسم الشخصية ومنطق تحركها في الخطاب الروائي، غير أن الأمر في نهايته يظل مرهوناً بضرورة الانطلاق من عناصر البناء الفني للنوع الأدبي، وإن كان اعتماداً ليس على كلاسيكياتها الأولى، وإنما على ما لحق البناء الفني لهذا النوع من تحديث يكشف عنه قراءة المنجز الأدبي .
ويتعلق بالبناء الفني وتحقق العناصر، القدرة على نسج هذه العناصر في نسق مترابط يصنع منطقه الداخلي الذي يمكن الاحتكام إليه، ويكتسب القدرة على التواصل مع المتلقي، وهو ما يمكن تسميته "الاتساق" .
الاتساق
الاتساق بنية يمكن تقريبها بمفهوم النظم الأدبي، ودوره في بناء النص في التراث العربي بدءاً مما طرحه عبد القاهر الجرجاني في سياق معالجته لنظرية النظم البلاغي . ويعد الاتساق بهذا المعنى هو المنتج للنص والمانح إياه صفة الصيرورة، وهو أيضاً منتج جمالي تتحكم فيه آفاق التلقي واتفاقاته الجمالية، وتتحدد به فرادة النوع (قصة - شعر - مسرحية)، لتفرقه عن غيره من بقية الأنواع، غير أن الاتساق لا ينتمي بهذه الكيفية إلى حقل الماهية (الديمومة والثبات) ولكنه ينتمي إلى حقل السمات المتغيرة بتغير الزمن والنتاج الثقافي ومن ثم الاتفاقات الجمالية .
ففي الشعر مثلاً، كان الاتساق يحسب بجودة النظم وحسن السبك وطلاوة العبارة وحلاوة المعنى، وعبر تاريخ الشعرية العربية استقرت بعض هذه السمات وتخلت عن مكانتها سمات، وظهرت سمات جديدة تضافرت مع قديمها لإكمال منظومة الاتساق . فما الذي يمنح العمل الأدبي الاتساق؟ هل هو المطابقة مع العالم أم صناعة العالم الافتراضي؟
بالنظر إلى التصنيفات التي ظهرت عبر تاريخ الأدب من قبل "الأدب الكوزموبوليتاني" - مثلاً - أي الأدب التغريبي، الذي لا تستطيع تخيل فضاءاته في الكون المحيط بك . فإنه يمكن رصد المرجعيات التي كان الأدب يتكئ عليها لإصدار هذا الحكم، إذ يتضح أن الإحالة تكون إلى الشيء من الواقع، في ارتباطات ما على نحو أو على آخر، مثل الإشارة إلى أماكن بعينها، أو رسم مشاهد مكانية على أقل تقدير قريبة الشبه من الواقع المعيش، حتى لو لم يكن لها موقع جغرافي محدد على خريطة العالم، مثل تصوير مشهد شارع في جو ممطر ومارة يتسارعون للاختباء في مداخل المحال والمنازل .
هذا المشهد له علاقة بالواقع - حتى وإن كان حدد الهوية - وهو ما اتكأ عليه السرد الجديد في مخالفته للسرد الكلاسيكي، حيث لم تعد أهمية الارتباط بالواقع الجغرافي المرتبط بأماكن معينة معروفة هي المسيطرة، وإنما هناك سعي دائم إلى صنع عالم محبوك فنياً، متسق جمالياً، وليس واقعياً .
هنا يتحقق الاتساق، في إبداع العالم: عالم القصة، عالم الرواية، عالم القصيدة، وعالم اللوحة الفنية، وهو أشبه بالواقع الافتراضي الذي تصنعه التكنولوجيا، إذ لا نشعر لحظة بأننا خارج فضاءها، وإنما نحن على الدوام نفترض افتراضاتها، فعندما نشاهد فيلماً، فنحن في الحقيقة نعيش بداخله، فنتجاوز العلاقات الزمانية والمكانية، ونفترض وجودنا هناك، بل عندما نشاهد المسرح الممثل على خشبة، فإننا ننقل زمانياً ومكانياً لنعيش داخل المسرحية .
وهذا ما يصنعه الأدب فينا، وهو ما يصنعه الأدباء في نصوصهم، فما الذي يجبرنا على قراءة قصيدة، أو الاسترسال في متابعة قصة أو رواية ما لم نجد أنفسنا فيها؟
نحن دوماً بداخل الأعمال الأدبية التي نتلقاها، وعلى قدر اتساقها فينا، وعلى قدر تواصلنا مع اتساقها، على قدر شغفنا بها .
بهذا المعنى يكون الاتساق متحكماً في الذوق والذائقة، وعندها يتشكل في موجة يمثلها الاتجاه الأدبي الذي يسود في زمن ما، ثم ينزوي ليتجاور مع اتجاهات أخرى سابقة، وكان لها اتساقاتها الجمالية في زمنها، وبقي اتساقها كامناً فيها وفي جيلها، غير أن الإنتاج عليها قد توقف، اللهم إلا على سبيل التعليم كما يمكن أن يحدث في الدروس والمحاضرات التعليمية، والورش الإبداعية للتدريب على نحو أدبي ما . . وهي على هذا النحو تمثل كلاسيكيات النوع الأدبي .
الاتساق في الأدب شيء أكبر من السرد والتدلال العام، إنه القاسم المشترك بين الأعمال الأدبية، والمنظم لها، وهو القانون الحاكم للتوجه الجمالي، ولأسس الكتابة الفنية، وهو ما يجعل الحديث عن الاتساق ومحاولة تفكيكه أمراً غاية في الصعوبة، فهو سر الإبداع، وحرفية الكتابة، وقمة التخييل .
السرد الداخلي
وهو يمثل أيضاً نمطاً مهماً من أنماط شعرية الرواية، في ما يمكن تسميته بكتابة نص الحالة، وهو نص متعدد التأويلات لالتباس ما هو ذاتي واقعي بما هو تخييلي، غير أن مركز السرد يعتمد في الأساس على رصد مواجع الذات ومعاناتها، وهو ما يدخلها في سياق الشعري استناداً إلى ميراث نظرية الأنواع الأدبية في تصنيفها للشعر بالذاتي واستخدام ضمير الأنا، وهو ما يتناسب مع بعض تأويلات الشعر العربي التراثي في وصفه بالغنائية إشارة إلى الذاتية .
ففي سرد الذات تبدو الحكاية فيه - إن كانت هناك حكاية تحكى على نحو مألوف - تبدو كما لو كانت نصاً شعرياً غنائياً - بمفهوم الذاتية - يعبّر فيه الروائي - الشاعر - عن علاقته بالكون والحياة والأشياء من حوله، ويناقش رؤاه وفلسفته، ويطرح أسئلته، وهمومه الفكرية: يعرض لعذاباته، وأحلامه، وأمله ويأسه، لغضبه وفرحه، لتشكلات حالات الوعي لديه، لانغماسه في حياة يمارسها ربما من دون أن يعرف هويتها .
ففي نص منتصر القفاش الروائي "تصريح بالغياب" يبدأ القص من منطقة بين الوعي واللاوعي، بين الحلمي والواقعي، شيء أقرب إلى الكابوسي أو على شفا حفرة منه:
"لم يكن الدخول سهلاً .
ربما لأنني تعثرت في درجة حجرية من السلم الصغير، لأنني كنت مسرعاً فاصطدمت بأحد يهم بالخروج، أو توهمت أن هناك باباً .
ظننت الأمر كله في متناول يدي . أن أستعيد الرواية وأرحل .
لن يوقفني شيء سوى ملابسهم الميري والبيادات الطواقي وصواني التعيين . سأظل أزيحها، وأدفس يدي بينها حتى أصل إلى رواتي عند أرضية الدولاب الإيديال" .
والأمر برمته وإن بدا سرداً لذات، إلا أن المفردات المركزية فيه تعتمد بنى الشعرية من خيالات وتكثيف في الرؤية، وغموض بمعناه الشعري . فالدخول الذي لم يكن سهلاً غير محدد المعالم ولا يمكن تحديد هويته، يؤكده فعل التوهم بوجود باب، وحتى دالة الباب ذاتها لا يمكن قبولها على دلالة الباب المتعارف عليها بوصفها باباً للدخول، وهو ما يؤكد أنه ليس في هذا السرد - سرد الذات - حكاية تحكى على النحو المألوف في ذلك، حتى لو كانت تقنيات الحكاية هي تقنيات "الحساسية الجديدة" من تشابك الواقعي والحلمي، وتداخل الأزمنة، وشاعرية اللغة الرؤية، وتشاكلها من خلال الأسئلة، وكسر النمطية، وتفتيت الشخوص والأحداث إلى آخر ما أصلت له كتابات "الحساسية الجديدة" من تقنيات وطرائق السرد .
المراجع:
1- مع الوضع في الاعتبار أن الممارسات النصوصية الفعلية سعت إلى كسر هذه المفاهيم في الرواية ذاتها، فمثلاً نجيب محفوظ في رواياته لا يخلص لموقف واحد من جهة موقع الراوي من شخصياته، فمثلاً سعيد مهران في "اللص والكلاب"، ينتنقل معه نجيب محفوظ في موقعه منه، تارة من الخارج، وتارة من الداخل، وتارة مع .
2- د . حميد لحمداني: بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي) - المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت ط3- 1993 - ص45 .
3- فيليب لوجون: السيرة الذاتية - ترجمة علي حلي - المركز الثقافي العربي - بيروت - 1994م .
6- يحيى امقاسم: ساق الغراب (الهربة) - ثقافة للنشر والتوزيع - بيروت - 2009م .
7- منتصر القفاش: تصريح بالغياب - دار شرقيات - 1996 .
8- ياسر إبراهيم بهجة العمى - ميريت للنشر والمعلومات 2003 .
9- أرسو: فن الشعر - ترجمة عبدالرحمن بدوي - دار الثقافة - بيروت - ص 20 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.