إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    الدوري الاوروبي .. ليفركوزن يواصل تحقيق الفوز    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    لملس يفاجئ الجميع: الانتقالي سيعيدنا إلى أحضان صنعاء    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة المثقف العربي المستقل
نشر في الجنوب ميديا يوم 07 - 01 - 2013

تدور حالياً، وفي ظل الربيع العربي أسئلة كثيرة حول مواقف المثقفين الذين يتم تصنيفهم بعيداً عما يدورمن حوارات وسجالات ساخنة في المشهد الثقافي، وهل إن هؤلاء على صواب أم هم على خطأ؟ وما المطلوب منهم؟ وكيف عليهم أن يكونوا فاعلين في قلب المشهد الثقافي، لاسيما في ظل مايدورمن أحداث هائلة، دراماتيكية، تدفع بكل صاحب موقف لكي يخرج عن صمته، ويبدي رأيه في مايدور من حوله، لأن الأمرلا يتعلق بمجرد آراء متضاربة، بل متصارعة، كصدى لإيقاع مايجري؟
والمثقف المستقل، على ضوء كل هذ الحديث أو سواه، هو ذلك الذي يسجل مواقفه، ولو في الحدود الضمنية، المضمر غير المعلن، على من يكون موالياً للأنظمة، أو معارضاً لها، ليتموقع في المنطقة الوسطى، إشكالياً، كما يبين ذلك د .عامر الأخضر في كتابه "المثقف والسلطة: وئام أم خصام؟" .
وإذا كان المثقف الموالي، تسهو عينه وفق الباحث الأخضر، عن المآخذ التي يمكن ملاحظتها بجلاء على أداء الأنظمة التي يعلن ولاءه لها، فلا يتطرق إليها- بشيء من النقد- كما يفعل المثقف المعارض لهذه الأنظمة، فإن المثقف المعارض-بدوره- قد يفعل الأمر نفسه، عمن يمثل خطهم الفكري، حيث يصب جام نقده على الأنظمة ومثقفيها، ويتجاهل تلك الملاحظات التي يمكن أن تظهر هنا وهناك على أداء المعارضة ومثقفيها .
نحن-هنا- أمام إشكال حقيقي، حيث هناك مايمكن وصفه ب"الجبهة الثقافية" الثالثة، التي قد تنظرإلى كل مايدورمن حولها- بحياد- بعيداً عن أي انحياز لهذا الطرف أو ذاك، ومن الممكن التعويل عليها في استخلاص الرأي الصائب-عادة- بعيداً عن الآراء التي تتولد نتيجة الفعل وردة الفعل . حول هذه الفكرة التي أشرنا إليها أعلاه، يستطلع الخليج الثقافي آراء عدد من الكتاب والمثقفين والباحثين، كي يشخصوا واقع المثقف المستقل، مقومين أداءه ودوره ووظيفته .
** يرى الناقد د . محمد عبد الوهاب أن المثقف المستقل في الوطن العربي لم يعد له وجود الآن، فالمثقف بشكل عام أصبح واقفا على الأطلال، على أطراف عالم على وشك الانهيار، سواء على المستوى القومي أو الاجتماعي أو الثقافي، وإذا تدخل في قضية ما فإنه يتدخل إما لمصلحة شخصية دون أن يكون له هدف قومي حقيقي، وإما أن يتدخل كي يكون ظاهرا في الصورة الإعلامية، فنحن في عالم تسيطر عليه ضبابية لا تتكشف فيها الحقائق .
ويضيف: نحن الآن في مجتمع يسيطر عليه أمران: البلطجة والفوضى، والمثقف واقف في موقف المتفرج لا يصنع شيئا ولا يقدم وصفة لعلاج تلك الأمراض الاجتماعية المستعصية، خاصة في دول الربيع العربي، وهذا ينافي الدور الحقيقي للمثقف، فالمثقف الحقيقي هو الذي يعمل لخدمة مجتمعه، الآن كثير من المثقفين همهم الأول هو الظهور الإعلامي، وهذا ما يمكن أن أسميه ب"ثقافة التصنيع المزيف" .
ويؤسفني أن أقول: إنني توقفت عن متابعة ما يكتبه هؤلاء- الكلام لعبد الوهاب- فكتاباتهم مائية وهوائية وبهلوانية، وهذا يجعلني في حالة حزن لما وصلت إليه الثقافة العربية، وقد لعب الإعلام دورا كبيرا في ذلك، فقد حولت المثقفين إلى طالبي شهرة ومال .
** ويتفق معه في هذه الرؤية الشاعر محمد سليمان، موضحاً أن المثقف المستقل لم يعد موجودا في ظل الصراعات المتأججة التي تهدد وجود المثقف بشكل عام فنحن الآن أمام هجمة يشنها الماضي البعيد من خلال تغول خرافات العصور الغابرة، ومحاولات إقامة دولة بالغة التشدد قائمة على إهدار دم أي رأي مخالف لها .
وهنا لنا أن نتساءل يقول سليمان عن المثقف الذي بإمكانه أن يدافع عن المنجز الثقافي والحضاري لمصر الذي أنجزته في مئتي عام عبر الدولة المدنية المصرية، التي أسسها محمد علي، حيث رأينا في تلك العهود الكثير من هوامش الحرية، ورأينا مصر تضم الكثير من المثقفين الذين فروا من الشام من طغيان الدولة العثمانية، والذين جاؤوا إلى مصر فأسهموا في تأسيس الصحافة مثل أسرة تقلا وأسرة زيدان (جورجي وإميل) وغيرهم، كذلك المبدعون الذين أسهموا في تأسيس المسرح والسينما، فقد كانت مصر خلال مئتي عام تسعى إلى نهضة ثقافية حقيقية، مع كونها دولة دينية وسطية من خلال منهج الإسلام المتسامح الذي يحتضن الجميع، فقد احتضنت التربة المصرية كل التيارات الفكرية على اختلاف مشاربها، من خلال هامش الحرية المتاح، وكذلك من خلال انفتاح الثقافة المصرية على الغرب من خلال حركة ترجمة واسعة بدأت بما قدمه رفاعة الطهطاوي ومن بعده علي مبارك .
** ويؤكد الناقد د . جابر عصفور أنه لا مانع من أن يعمل المثقف مع أي جهة من الدولة في مؤسسة من المؤسسات، المهم أن يكون في ذاته مستقلا فكريا عن هذه المؤسسة بحيث يكون عنده القدرة على نقدها ونقد مواقفها .
ويضيف: إن المثقف إذا كان مطلوبا منه أن يؤثر في الناس فبالأحرى تكون عنده القدرة على التأثير في السلطة، فمن خلال تفكيره المستقل يخلق رأيا عاما، وهذا الرأي العام بالتأكيد سيتحول إلى قوة ضاغطة على الدولة إذا كانت تمشي في الاتجاه الخطأ .
إلا أننا يمكن أن نقول إن هناك أزمة حقيقية في ثقافة النخبة ذاتها، وهناك أزمة أيضا في علاقة هذه النخبة بالجمهور يمكن بسبب الأزمة الداخلية في ثقافة النخبة، لأن النخبة المثقفة لم تستطع أن تصل في تفاعلها الذاتي لأن تكون مثالا لغيرها أو منارة تشع على غيرها، ومن هنا تظل عاجزة إلى أبعد حد، والأزمة الداخلية لثقافة النخبة تكمن في أنها تفتقر أولا إلى التسامح، ومن ثم تفتقر إلى احترام الآخر، ومن ثم تضيع منها لغة الحوار، ولهذا السبب نحن نعيش في معارك شخصية في الغالب الأعم وتحركها أهواء شخصية ذاتية، لا تتحرك على أسس فكرية أصلية، لا تنشأ بينها حوارات قائمة على حق الاختلاف .
فلو أن مثقفا اختلف مع مثقف آخر في الرأي فسيكون هذا المثقف من وجهة نظر الآخر "كافرا وملعونا"، ولا يستطيع الطرفان أن يقيما حوارا حقيقيا أصيلا يعمق ثقافة كل منهما ويرتقي بالثقافة إلى أعلى، يقول عصفور: هذا هو العيب الجذري لثقافة النخبة وعدم قبول الاختلاف في داخلها فما بالك بأي قوى أخرى مغايرة، وهذا يجعلهم كبنية ثقافة هشة وضعيفة، لأنه لا يوجد حوار بين عناصرها وأطرافها، ومن ثم تفتقر إلى القدرة على أن تكون نموذجا يستطيع أن يشع على ما حوله، فتنقطع الصلة ما بينها وبين الجمهور .
كذلك هناك سبب آخر هو أن هذه النخبة المثقفة مقموعة بفعل ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية متعددة، وهذا يجعلها غير مستعدة للنقاش العقلاني الهادئ، إلى جانب هذا، وبما أنهم مجموعة قليلة، فطبيعي أن يعكسوا القمع مثل المرايا حين تعكس الضوء المسلط عليها فيعيدوا إنتاج القمع على أنفسهم كأنهم هؤلاء "المقتولون القتلة" كما قال صلاح عبدالصبور .
ويضيف د . عصفور: إن ما يتم من صراع بين المثقفين هو صراع الفرقاء، صراع الإخوة الأعداء إذا جاز لنا بأن نستخدم تسمية "كازتنزاكس"، فالصراع قد يكون مفيدا بشرط أن يأخذ شكلاً حوارياً، فما الذي يمنع أن يكون "الليبرالي" في علاقة حوارية محترمة مسالمة مع "ماركسي" مثلا، لماذا لا يكف الماركسي عن استخدام لغة التحريف والخيانة، بحيث يتحول إلى أصولي يباري الفعل الأصولي في جوهره، الذي مارسه المتعصب الديني، فإذا كنت أنت كمجموعة مثقفة مهمشة ومضطهدة لا تستطيع أن تقيم حوارا ذاتيا في داخلك فكيف تستطيع أن تؤثر في الآخرين والمجتمع؟
وعن وضعية المثقف الآن يؤكد د . عصفور أن المثقف عليه أن يعيد ترتيب أوراقه، بحيث يكون له دور مؤثر في ما يحدث أمامه من تغييرات جذرية في بنية وعي الجماعة الشعبية بعد الثورة، وهذا يتطلب منه أن يترك لغة الحياد جانبا، وأن يكون مثقفا عضويا يمارس الثقافة فعلاً يومياً من خلال تحريك وعي الشارع ما وسعه ذلك، وعلى قدر طاقته، سواء كان هذا المثقف مستقلا عن الأحزاب السياسية أم عاملاً في مؤسسات الدولة، وعليه أن يدرك جيدا أن هناك رسالة حتمية عليه أن يؤديها، لأن تلك المرحلة ليست مرحلة تخاذل أو تقوقع حول الذات .
** ويشير المؤرخ د . عاصم الدسوقي إلى أن المثقف المستقل هو الذي لا يعمل وفق أجندة مؤسسية تابعة لأحد، لذا كان على مدار التاريخ هناك نماذج لمثقفين بارزين في هذا المجال على مستوى الوطن العربي، وهم أصحاب مواقف صلبة وآراء تنويرية، وبفكرهم المتحرر المنطلق نحو قيم العدالة الاجتماعية ونشر الوعي بين الجماهير كانوا أكثر تأثيراً، لأنهم كانوا أكثر صدقاً، ومن هؤلاء عباس محمود العقاد وطه حسين، حتى بعد أن أصبح وزيرا للمعارف، إلا أنه كونه مثقفاً مستقلاً لم تستطع المؤسسة الرسمية استدراجه، بل هو الذي غيّر من نمط تفكيرها ووضع مشروعه الرائد "مستقبل الثقافة في مصر"، وحاول تحديث بنية التعليم المصري من القاعدة .
ويضيف: "المثقف بطبيعته مستقل عن أي توجه إلا توجهه الفكري، فالسياسة تحتاج إلى المثقف، والمثقف لا يحتاج إلى السياسة، لكن للأسف نجد كثيرا من المثقفين ينضوون تحت عباءة السياسة وينسون أن دورهم الأهم يكمن في تنوير العقول .
يقول د . الدسوقي: للأسف الشديد نجد كثيرا من المثقفين ينجرفون في تيار الشهرة الإعلامية، تاركين الخطاب الثقافي الرصين، متخلين عن دورهم المنوط بهم، وهو إعادة الاعتبار للثقافة المصرية في ظل الصراع الدائر، فالحرب المقبلة هي حرب ثقافية بالأساس .
** الشيخ لحبيب كاتب وإعلامي موريتاني يقول "لا يمكن البحث عن المثقف بعيدا عن ميادين السياسة إلا في حالات نادرة، ذلك أن المثقف والسياسي ارتبطا منذ عهد جمهورية أفلاطون النظرية الفاضلة .
ومن المبرر منهجياً أن يكون المثقف بحكم ملكاته الناتجة عن معارفه، وقدراته على التحليل والاستنباط واختراع الحلول، الأقدر من غيره على صناعة الوعي والتأثير في الجمهور، لذلك يبدو مطلوبا مرغوبا من قبل السياسيين ظهيراً قوياً ومفاهيمياً .
لا ينبغي إذا عند الكثيرين الحديث عن حياد ما للمثقف واستقلاليته عن المعارضة أو الموالاة للسلطة، ولعل جولة سريعة في التاريخ الإنساني تكشف لنا بجلاء أن وراء كل سلطة حاكمة أو مناهضة مثقفاً جبار العقل أو مثقفين عدة من الشاكلة نفسها .
وسيبدو عندئذ ذلك الحراك المثقف مجرد ممارسة لنظرية المثقف العضو التي تحدث عنها غرامشي، غير أن ما يمكن أن يخرق ذلك الالتزام هو الاستبداد .
لطالما كان الاستبداد في تاريخ البشرية بحاجة لتبرير نظري متماسك لتمريره، وبالتالي ظهرت أنماط ما يسميه جوليان بيندا "المثقف الخائن" .
ولقد تحدث غابرييل ماركيز في مقال له إبان الحرب الأهلية في أمريكا اللاتينية عن إشكالية مهمة تمثلت في السؤال التالي: هل يجوز للمثقف أن يصمت عن الجرائم التي يرتكبها حزبه (أو مجموعته) بحجة الالتزام داخلها؟، إنه هو السؤال الفاصل الذي قد يجيبنا بدوره عن سؤال المثقف المستقل ووجوده .
يرى ماركيز أن المثقف الذي يصمت عن كل التجاوزات الممارسة من طرف فريقه، سواء كان معارضاً، أو موالياً، يمارس بإصرار ما يسميه: "إباحة القتل الفلسفية"، ويشرحها كالتالي: "عندما تقرر السلطات الزمنية أن حياة مجموعة من الناس، لا قيمة لها فإن الرجال الآخرين يقتلونهم بكامل الصراحة ودون خوف من عقاب" .
وفي مجتمعاتنا العربية نتوفر على كم هائل من إباحة القتل الفكرية النظرية تلك، وفي بلادي تحديدا يسود شعور قديم خمسيني، أي منذ نشأة الدولة بأننا نفتقر إلى المثقف الطليعي الذي يتخذ مواقفه السياسية دون أن ينحاز بشكل مطلق لأخطاء ممارسيها من رفاقه أو مجموعته، ودون أن يمارس القتل فينا .
حتى بعد عصر الثورات والربيع العربي، ما زلنا لا نرى في أفق حيواتنا العربية، ذلك النموذج الزاهر الذي يرفض أي سلطة سوى سلطة الضمير والمنطق الصواب .
قد يقول قائل إن المثقف لا يكون مستقلا وقويا في وجه إغراءات وإكراهات كل السلطات، إلا بعد اكتمال النسق الثوري وتحققه، لكني أعتقد أن المسألة برمتها، هي مسألة أخلاقية أولا وأخيرا، وهي ذاتية، تعتمد على رغبة المثقف من عدمها في تنميط وتحجيم فكره وممارساته ضمن قالب أيديولوجي أو حزب أو مجتمعي .
** أحمد ولد نافع، باحث وأستاذ جامعي موريتاني يقول . . . إنه سؤال إشكالي بامتياز، أن نتصور "استقلالية!" المثقف عن دوائر السلطة ليكون في الطرف المقابل لذلك في المعارضة مثلا . . فأهل الحكم والحاكم، غالبا، لا يريدون إلا المثقف المصطف إلى جانبهم ليبرر سلوكهم السياسي للرأي العام والدهماء مهما كان ذلك السلوك شاذا وغير مقبول دينيا أو سياسيا أو أخلاقيا .
أما جماعات الرفض والمناوأة التي تعارض كل سياسات الحاكم أو بعضها، فإنها هي الأخرى لا تقتنع بدور مثقف لا يجاريها في أفعالها الحادة والمتوترة غالباً، وبالتالي فإن هذا الموقف هو ما يجعل المثقف في موقف لا يحسد عليه، إذ يصعب عليه التوفيق بين طرفي النقيض .
ولا يرمي ذلك التوصيف تنقيصا من شأن المثقف الأيديولوجي، أو الحزبي، لأن ذلك المثقف أيضا هو صاحب فكرة ومبدأ قد يضحي في سبيلها بالغالي والنفيس .
وهذا ما يثير جدلا حول الوجود بالفعل لذلك النوع من المثقف المستقل في مواقفه وآرائه واجتهاداته، ولعل إطلالة راجعة على التاريخ الثقافي العربي الإسلامي تدلل على محن كبرى تلقاها المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، كانت برهانا على أن هناك نفرا من المثقفين الذين قدموا حياتهم ثمنا لاستقلالية مواقفهم وآرائهم، وتمترسوا ضمن خندق الاستقلال (الذي قد يتقاطع في بعض جوانبه مع المعارضة) رفضا واستدراكا على خندق السلطة . .
ومع ذلك يبقى المثقف المستقل عن الدولة والحزب، والحكم أو المعارضة، هو البديل المفترض والمأمول الذي قد يوقد شمعة الأمل من أجل مستقبل أفضل يكون بلسما لمشكلات الحاضر وعذاباته التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد في حلقة مفرغة تعيد إنتاج ذاتها بشكل تلقائي . سلاحه في سبيل ذلك التجرد والصدق مع الذات والآخر والتضحية وتقديم النموذج الأمثولة .
** الدكتور عبد السلام ولد حرمة مثقف وأكاديمي موريتاني يرى أن الثقافة لا يمكن أن تكون مستقلة عن هموم مجتمعها لأن هذه الهموم هي مضمونها ومحتواها ومبلغ مقاصدها ومن غير ذلك تكون الثقافة وعيا عبثياً، عدميا فاقد الإحساس والنبض والجوهر وذاهبة إلى أقصى ما يستطيع صاحبها من قلة الإحساس بالمسؤولية اتجاه ذاته والمجتمع أو الأمة التي تحتضنه، وحشدت كامل قواها فأنجبته .
ويضيف ولد حرمة "الثقافة وعي إنساني وإحساس بهموم الذات والمحيط وقوانين الطبيعة والكون التي تحكم مساراتها حركة الأمم والشعوب وإذا لم تكن انعكاسا لهذا كله في مجتمعات تعيش في المدارات المحمومة من محطات حياتها مسكونة بوجيب الغضب واختلاج المعاناة وأنات الحزانى والمحرومين فهي ليست ثقافة وإنما "سيرك" ذهني أو لغوي، وخطل واضح في فهم قيمة الإبداع والفكر" .
ويرى ولد حرمة "أن الثقافة إذا لم تكن ثورة اجتماعية ونضالية ودعوة للتضحية والإيثار في عقيدة وممارسة أصحابها والمنتسبين إليها فهي مفهوم عدمي يثير السأم والغثيان ولن توصل فرداً ولا مجتمعاً إلى الشاطئ، وليس بمقدورنا وصف أصحابها بالصدق لأن الصدق مفهوم يحيل إلى الجرأة في اتخاذ المواقف والاستعداد للتضحية وتحمل المسؤولية، وهي أمور بعدها من الحياد والصدق هو بعد المشرق من المغرب . . إن المثقف إذا لم يكن صوت مجتمعه وأمته، إذا لم يكن جزءا من هذا المجتمع فهو خارج الواقع وخارج الزمن، وهذا هو العدم بعينه" .
الشاعر الموريتاني حسني ولد شاش يرى أن صيغة السؤال هذه المر ة أكثر دقة وتحديدا، بل وتتناول موضوعاً مهماً، كثيرا ما يتم تجاوزه، فالمجتمع بنخبه السياسية والاجتماعية والمعرفية، كثيرا ما لا يعير المثقف المستقل الاهتمام اللائق، حتى لا أقول الازدراء والمحاصرة، لأن أغلب السياسيين ينظرون إلى ذلك المثقف عير الحزبي وغير المؤدلج على أنه بقعة أخرى من الكون لا تدور في مجموعتهم الفلكية وهو حري بالإهمال والتجاهل والنسيان ما دام بعيدا من شأنهم السياسي، هم أي السياسيون مشغولون بالترويج لمثقفهم الذي يقوم بدور المحارب الخاص، أو الحارس الفكري الشخصي، أو مشغولون بالرد على المثقف المضاد لهم سياسياً أو طائفياً أو مذهبياً .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.