هل قُدر لليمنيين وبعد أكثر من نصف قرن ان يعودوا إلى المربع الأول والبدء من الصفر في محيط إقليمي من حولنا يعيش الألفية الثالثة ويتفرغ للتنمية والتقدم. أكثر من نصف قرن واليمنيون يبحثون عن هوية، منذ (ثورة) سبتمبر 1962 التي هي انقلاب عسكري في بدايته، لكنه قُوبل بترحيب شعبي لا مثيل له، لان اليمن كانت تعيش حتى مطلع الستينيات في عزلة عن العالم الخارجي، وبحكم ملكي عنصري متخلف. في فلسفة الثورة انها تنقسم بدورها الى ثورات عفوية، كالثورات العالمية الشهيرة الفرنسية والروسية والإيرانية، وهناك انقلابات تتحول لثورة فعلا، كما حدث في ثورات منتصف القرن الماضي في كل من مصر والعراقواليمن، ولكنها للأسف تخرج احيانا عن مسارها. ويعتقد علماء الاجتماع ان أي ثورة لابد ان تلازمها حالة وعي بالظلم والفساد، وبما يوصف لدى علماء الاجتماع )بالوضع الذي لا يطاق(، وتأتي بداهة في أجواء حالة من الغليان والاحتقان الشعبي، وتوفر ظروف موضوعية وذاتية، والاهم من ذلك حالة الوعي الشعبي الجمعي هذه هي التي تشعل الثورة، وهذا بالفعل ما حدث في ثورة سبتمبر، اللافت أن نزعة التآمر المحلي والإقليمي والدولي في ابشع صوره، لازم الثورة اليمنية مع أول انطلاقة شرارتها، وبينما كان التحول في كل من العراق ومصر، على سبيل المثال، قد ادى الى تغير النظام السياسي من ملكي لجمهوري، إلا انه في اليمن ادى الى حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس استمرت ثماني سنوات، راح ضحيتها عشرات الالاف من اليمنيين والجنود المصريين، ولاشك أن القائمين على ثورة سبتمبر كانوا في معظمهم وطنيين، إلا قلة ممن كانوا في الخندق المعادي، وهو الذي اوجد ذريعة للتدخل الإقليمي، ناهيك عن أسلوب الثوار أنفسهم، فالبعض لم يكن يدرك مغبة التهور وروح الانتقام، مما جعل البعض يصطف مع الآخر مكرها لا بطل. والراصد لتاريخ اليمن الحديث يجد ان فترة السبعينات مقارنة بما قبلها وما بعدها، كانت من أفضل السنوات، لان النُخب الحاكمة لم تكن تعشق السلطة على النحو الذي تتكالب عليه اليوم، وكانت في الغالب وكما يقال، على قلب رجل واحد، ولم تكن لديها نزعة الإقصاء، فالرئيس الثاني للجمهورية آنذاك القاضي الارياني ضم بعض العناصر الملكية وكسبها إلى صف الثورة، وكذلك الرئيس الراحل الحمدي، رغم انه خرج من المؤسسة العسكرية، بل أتى بطريقة انقلابية، إلا انه كان يحمل مشروعا ورؤية متنورة ولديه نزعة مدنية وبعد حضاري، بدليل انه خلال ثلاث سنوات ترك اثرا كبيرا في قلوب الجماهير. في حين ان الرئيس السابق علي صالح، رغم انه شكليا جاء بصورة تبدو ديمقراطية وليس بانقلاب عكس الحمدي، إلا ان نتاج حكمه الطويل عبارة عن سلسلة من الإخفاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، وفي كل تفاصيل الدولة التي كانت تدار بالتلفون منذ نهاية السبعينيات حتى عشية الربيع العربي. اقترنت فترة حكم الثلاثة العقود الماضية بالنزعة الاقصائية وتقريب الانتهازيين وبعض مراكز القوى، سواء من المؤسسة العسكرية والمتحالفة مع القبيلة، وكذا الإسلام السياسي، ولعل أهم تلك الأخطاء هي إقصاء من شاركوه في صنع الوحدة، وشن حرب عبثية على المحافظات الجنوبية، صحيح انها لأول وهلة تبدو حربا ضرورية، ولكن مسبباتها معروفة ومآلاتها أكثر وضوحا، فقد أخلت الساحة لحاكم مستبد لم يستفد من الدروس السابقة. كانت عقدة الإقصاء والانفراد بالسلطة وحلم التوريث تلازم عقلية الحاكم، الأمر الذي خلق واقعا مُرا وزاد الطين بله انه ساهم في خلق أجواء مسمومة بين أبناء الشعب الواحد، فكان يقوي هذا بذاك ويخلق هذا التيار نكاية بالآخر، ويجيء بحزب إسلامي نكاية بجماعة أخرى، وانتهى الأمر بتطور تلك الكيانات وتفريخ الأحزاب، والنتيجة ما نشهده اليوم من نشاط ملحوظ للإسلام السياسي من جهة، وتفقيس وتفريخ أحزاب وكيانات منقسمة، البعض تسمى حلفاء الحزب الحاكم (الحزب القائد) على غرار الأحزاب الكلية الشمولية في أوروبا الشرقية ابان الحرب الباردة، وتصبح بقية الأحزاب مجرد ديكور وشكل بلا مضمون. الشعب اليمني اليوم يتكبد شظف العيش وندرة الخدمات وتدني الاقتصاد والبطالة، وفقدان الأمل بإصلاح هذا الوطن الذي انزلق في سلسلة من النكبات والمحن والحروب والتطاحن على السلطة، الأمر الذي جعل الكثيرين يميلون للتيار الإسلامي الصاعد مع انه لن يقدم بديلا حقيقيا، اذ ليس هناك إجماع عليه، فاليمنيون ليسوا على مذهب واحد وهم شعوب وقبائل.. لا جدال ان المشهد السياسي اليمني يزداد غموضا وضبابية، فقد تداخلت المشاريع وما ان نتجاوز أزمة حتى نلج إشكالية أكثر تعقيدا، فمرحلة انتقالية تلد أخرى وحوار يفرز حوارات، ولجان تتشكل ووساطات تستجدي من يتمرد على الدولة فكيف يراد بفيدرالية في وضع مهلهل كهذا؟ أساليب ما سُميت بالمرحلة الثالثة من تصعيد من يسمون أنفسهم بأنصار الله، التي ابرز مؤشراتها العصيان المدني الذي بشر بها مؤخراً المسؤول الأول لديهم، اتضحت طبيعتها في مفاصل ومخانق العاصمة، صحيح انه يبدو سلمياً ولكنه مستفز ومزعج، ليس للفاسدين كما كان يقولون بل للمواطنين الذين عُطلت أعمالهم ومصالحهم.. لا نجافي الحقيقة عندما نقول بأن اليمن اليوم يمُر بأصعب مراحله، وقد تذرع محاصرو العاصمة اليمنية بالجرعة في زيادة أسعار المشتقات النفطية، ولا شك أنها صعبة، ولكن الأصعب والأخطر التصعيد الذي قد يقلب الطاولة على الجميع وتغرق السفينة بمن فيها، ورغم ان القيادة استجابت لكل مطالبهم، بالتخفيف من السعر السابق للمشتقات النفطية وتشكيل حكومة جديدة يكون الجميع مشاركا فيها، إلا انه يمكن القول بأن المجتمع اليمني اليوم انقسم طائفيا وسيزيد الطين بله إقرار الفيدرالية في هذه الأجواء المسمومة وفي ظل دولة منهكة ومركز ضعيف. ولكن تلك هي إفرازات الربيع العربي، التي كان يفترض إنها ثورة ضد الاستبداد وتدني الاقتصاد، فتحولت من خلاف بين الحاكم والمحكوم الى خلاف بين الشعب والأرض. ولعل المستفيد الأول من الفيدرالية هم أنصار الله أنفسهم الذين يضغطون اليوم ليس لوزارتين او ثلاث فقط، بل يريدون تعديل الفيدرالية على مقاسهم بحيث يصبح لإقليم (أزال) منفذ على البحر الأحمر ويتمدد شرقا لمحافظة الجوف الموعودة بالثروات النفطية. منذ الربيع العربي واليمن مهموم بثلاث قضايا، رابعها تدني الحالة الاقتصادية أما الثلاث فهي قضية (الجنوب) وقضية (الحوثيين) و(القاعدة)، وهذه الأمور هي الظاهرة وصوتها مسموع، ولكن في اليمن كله قضية تهامة التي تعاني فقرا مدقعا وبؤسا لا نظير له ومع ذلك لا يسمع لها صوت والحكومة تنصاع لمن عصاه طويلة وصوته مرتفع.. منذ نحو عقد مضى والقضية الحوثية التي تحولت من حالة المظلومية إلى الظلم بعينه عشرات المساجد فجرت باسم الله، والله اكبر وآلاف الابرياء هجروا من ديارهم في (دماج) و(عمران) وغيرها، حوصرت صنعاء وساحة التغيير أصبحت لصنف واحد، صوت القوة هو الصوت المسموع. النظام بأكمله يجابه أكثر من بؤرة فليس لدينا (دولة عميقة) بل لا توجد دولة أصلا فقط نظام متعدد الولاءات يعارض نصفه النصف الآخر. يتشدق الكثيرون (بمخرجات الحوار) وهم ضده، فأنصار الله شاركوا في الحوار والعملية السياسية، وهم الآن حجرة عثرة أمامها، العاصمة صنعاءالمدينة المنهكة بخلافات الساسة منذ سنوات دخلت الأسبوع الثالث من الحصار الخانق، في محاولة لتهييج الرأي العام وعرقلة العملية السياسية، هذه الأساليب بداهة تنفع لإثارة سخط المواطنين ونقمتهم ضد الدولة، ولكن اليمنيين رغم انتشار الجهل، يعرفون أبجديات المواطنة ومن يقف حجرة عثرة أمام بصيص الأمل الذي كاد ينبلج، فالأسابيع الماضية كشفت طبيعة وأهداف وطموحات هذه الجماعة التي لا تقل ضررا عن الحركات الإرهابية، ومن شأنها أيضا أن تزيد من الاستياء والكراهية ضد هذه الجماعة والإسلام السياسي برمته. اليمن يحتاج دولة مدنية، الجيش اليمني يقوم بواجبه ببسالة تجاه ما يحدث في المحافظات الجنوبية لما عرف بالإرهابيين، ولكنه يقف مكتوف الأيدي تجاه من يسمون أنصار الله وفي أحسن الأحوال الحياد! بل وأطراف في الدولة تتعاون معهم، والفارق بين متطرفي الجنوب ومتطرفي الشمال ان الأخيرين واضحين ومعروفين ولديهم وسائلهم الإعلامية ويشاركون في العملية السياسية، ومع ذلك يقلقون حياة الناس. السلطة اليوم منقسمة بين الرئيس السابق واللاحق، لأنه لازال يتشبث بحزب المؤتمر، والإشكال في النخب السياسية التي لا تدرك مغبة اقتسام السلطة فعليا فلا يجتمع سيفان في غمد واحد، فالدولة برأسين رئيس يفترض انه خارج اللعبة السياسية، وآخر قذفت به الأقدار لسدة الحكم، وميدانيا محافظات شمال الشمال خارج سيطرة الدولة المفترضة الهشة، وغدت بيد من يسمون بأنصار الله، ومن هنا فلا غرابة ان نقول بأن اليمن لن يخرج من مشاكله المتصاعدة إلا بمعجزة وقد ولى عصر المعجزات. ولعل الشهور المقبلة حبلى بالمفاجآت وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود! ٭ كاتب يمني