تسود الأوساط الشعبية والسياسية حالة من التوتر والقلق بعد الإعلان عن استقالة الرئيس هادي، وهي استقالة جاءت تحت ضغوط حوثية، ما يعني أنها كانت انقلاباً عسكرياً هو الأغرب من نوعه في تاريخ الانقلابات العسكرية، فبدلاً من أن يتم عزل الرئيس، تم إجباره على الاستقالة، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو بفرض مطالب تعجيزية دفعته إلى الاستقالة! وبما أن آخر الأنباء تفيد بأن عبدربه منصور هادي رفض التراجع عن استقالته بعد لقاء جمعه بالمبعوث الأممي في اليمن جمال بن عمر، وكذلك تأكيد حكومة بحاح بأن استقالتها لا رجعة عنها، فإن ذلك بلا شك قد أحدث فراغاً حكومياً ودستورياً هائلاً، من شأنه قلب الطاولة على جماعة الحوثي، التي بات من المؤكد أنها أكبر الخاسرين بعد استقالة هادي وحكومة بحاح، لا سيما وأن ردود الأفعال المختلفة من قبل مختلف التيارات السياسية والتكوينات القبلية وغيرها حمّلت جميعها ميليشيات الحوثيين مسألة ما وصلت إليه البلاد من فراغ دستوري وحكومي هائل. وفي الواقع، يمكن القول إن استقالة عبدربه منصور هادي جاءت في التوقيت الملائم، فمن ناحية، لقد ذهب الرجل غير مأسوف عليه من قبل الشعب، بسبب سياساته الفاشلة التي أوصلتنا إلى هذا الوضع، ومن ناحية ثانية، فإن الاستقالة جاءت كرد فعل على "عربدة" جماعة الحوثي، ومن هنا كان التعاطف الشعبي المحدود مع هادي، خاصة وأن الاستقالة جاءت بعد أن وضعت الجماعة أمام الرئيس هادي قائمة كبيرة جداً من المناصب الحساسة والمستحدثة لتكون من نصيبها، من بينها نائب للرئيس، ونائب لمدير مكتب الرئيس، وهيئات للرقابة والتفتيش في جميع الوزارات، ومناصب برتبة نائب وزير في غالبية الوزارات المهمة، كل ذلك رغم أن أعضاء الجماعة كلهم بلا مؤهلات دراسية، وأغلبهم قدموا من أسواق القات ومزارع الطماطم والبطاطا ومراعي الأغنام في جبال مران. ستكتشف جماعة الحوثي أن سنوات حكم الرئيس هادي الثلاث كانت أزهى مراحل تاريخها، فخلال هذه الفترة حققت مكاسب سياسية وعسكرية لم تحلم بها أي جماعة مسلحة وإرهابية لا تحظى بقبول اجتماعي أو قبول في المجتمع الدولي، لكن هذه المكاسب ستتبخر بعد استقالة الرئيس هادي، خاصة وأن الجماعة باتت معروفة لدى الأوساط الشعبية والسياسية أنها ليست حركة سياسية أو حتى دينية، ولكنها عبارة عن عصابة تبحث عن الفيد والمغانم والأموال، تنهب المعسكرات والشركات التجارية والدولة وتريد مناصب لأعضائها غير المؤهلين، وتتعامل مع مفهوم الدولة بعقلية حكام القرون الوسطى المظلمة، حيث كان الحكام يفرضون الضرائب والإتاوات على المواطنين دون أن يقدموا لهم أي خدمات أو حماية. خلال الفترة الماضية، اتخذ الحوثيون من الرئيس هادي مظلة لتحركاتهم الشاذة والمنافية للدستور والقانون ومطالب الثورة الشعبية السلمية التي اندلعت في فبراير 2011، وباستقالته، فقد الحوثيون هذه المظلة، وأصبحوا الآن مكشوفين أمام الشعب، ومن هنا ستكون المواجهة المباشرة مع الشعب، خاصة وأن المؤشرات الأولية تؤكد أن معظم قطاعات الشعب لن تقبل بجماعة الحوثي حاكماً منفرداً بشؤون الدولة، فهناك حالة رفض متراكمة، وهناك سخط شعبي عارم تأجج مؤخراً بعد استقالة هادي وحكومة بحاح معاً، وحالة الرفض والسخط هذه تراكمت بسبب التحركات الحوثية القائمة على الطائفية والهوية المذهبية البغيضة، والمتحركة في الفضاء الاجتماعي والعسكري الموالي للرئيس المخلوع على صالح، الذي امتطى الحوثيين لينتقم من خلالهم من جميع خصومه السياسيين الذين دعموا وساندوا الثورة الشعبية السلمية التي أطاحت به، كما استفاد الحوثيون من هذا الدعم ليرسخوا نفوذهم السياسي والاجتماعي، على الأقل في المناطق التي وجدوا فيها حاضنة اجتماعية. لا شك أن المرحلة الحالية صعبة وحساسة، ولا شك أن الكرة أصبحت الآن في مرمى على صالح والحوثيين، وما لم تبادر الأحزاب السياسية وشباب ثورة فبراير 2011 للنزول إلى الساحات واستعادة وهج الثورة وقطع الطريق على جماعات العنف والإرهاب وعصابات النهب والسرقة، فإن الفراغ الحالي سيكون من نصيب على صالح والحوثيين على الأقل لفترة مؤقتة، وعلى ضوء هذه الفترة وما سيرافقها من تطورات، يمكن التنبؤ بمآلات الأوضاع وإلى أين ستتجه، وهي لن تخرج عن نطاق الثلاثة الاحتمالات التالية: الأول، تدخل وسطاء دوليين، بمن فيهم إيران، لوضع خارطة طريق جديدة وإجراء مصالحة وطنية شاملة، يمكن التأسيس عليها لمستقبل خالٍ من الصراعات والحروب الأهلية، أو يبادر اليمنيون أنفسهم إلى إجراء هذه المصالحة دون الحاجة إلى وسطاء دوليين. الثاني، أن تحكم جماعة الحوثيين وعلي صالح قبضتهم على السلطة، وأمر كهذا سيدفع إلى نشوء تكتلات شعبية مناوئة، وقد يعلن الجنوب الإنفصال بشكل عملي، وقد تتمرد بعض المحافظات، وهذا سيدفع علي صالح والحوثيين للمواجهة العسكرية من أجل الثروات النفطية في محافظاتحضرموت وشبوة ومأرب، ومن هنا ستشتعل ثورة شعبية مسلحة تطيح بالطرفين، وبعدها ستبدأ اليمن مرحلة جديدة من تاريخها بعد رحيل محور الشر. الثالث، إجراء مصالحة هشة، من شأنها تهدئة الغضب الشعبي بشكل مؤقت، في وقت سيحكم فيه علي صالح والحوثيون قبضتهم على السلطة، وستنشأ بينهم خلافات على بعض المناصب، وستبدأ مرحلة جديدة من الصراع فيما بينهم تفضي إلى حرب قوية تضعف الطرفين، وسيترتب على ذلك ظهور طرف ثالث قوي يخلط الأوراق ويعيد صياغة المشهد السياسي من جديد. وفي كل الأحوال، يبقى الرهان على الشعب، فهو من سيحدد مصيره، وهو يعرف أين تكمن مصلحته، خاصة وأن القوى السياسية تمر بحالة من توازن الضعف، وحتى جماعة الحوثي المغرورة بانتصارات وهمية حققتها، حيث سُلّمت لها العاصمة والمعسكرات دون مواجهات وحروب حقيقية، ستكتشف أنها نمر من ورق، مثلما اكتشف على صالح في ثورة فبراير 2011 التي أطاحت به أن قوات الحرس الجمهوري التي كان يراهن عليها بأنها ليست سوى "نمر من ورق"، ويبقى الشعب هو الحر الأبي، الذي وإن طال صبره وسكوته، سيأتي اليوم الذي يتحول فيه إلى ماردٍ عملاق، لن يرحم من ظلموه وخذلوه وخانوه. يقول أحد المفكرين الغربيين، وهو "ناديزدا مانديلستام": "إن الشخص الذي يتمتع بالحرية الذاتية وقوة الذاكرة، والذي يعتريه شعور الخوف، هو تلك القصبة، أو بالأحرى، هو ذلك الغُصين الذي يغيّر مجرى نهرِ جارف".