1- كلما أنْبت الزمان قناة.. ما أروع ما قال المتنبي يصور ما نحن بصدده من صراع القوى، وصراع الدكتاتوريات مع الشعوب، وصراع الشعوب لنيل حرياتها. وإن كان المتنبي قاله مطلقاً كالعصفور يطير في كل اتجاه، ولكني وجدته مصوراً للحال أدق تصوير، وذلك قوله: كلما أنبت الزمان قناة ركّب المرء للقناة سنانا. فالطبيعة تنبت القسي والعصي وهذا هو معنى القناة، عمد الإنسان فركّب للقناة سناناً وأطرافاً حادة تخترق وتقتل.. في جدلية كونية لا تنتهي. وبدل أن توظف القسي والقنوات في الإعمار والبناء، استخدمت في القتل وإراقة الدماء. نعود إلى الديموقراطية.. ملتهم وبدعتهم وصنعتهم وفخرهم ونظام سياستهم ومنهج حياتهم.. فقد اخترعها البشر ليقلموا أظفار المتألهين والمتفرعنين والمتسلطين والمتسلطنين والمستضعِفين الخلق والمستعبدين الناس، فماذا جرى؟ الذي توقعه المتنبي: ركّب المرء للقناة سناناً. لقد عمدت مراكز القوى لاحتواء ما اخترع لاحتواء القهر والظلم، فاحتووه، واحتوشوه. فاخترعوا الدعايات الانتخابية التي تتطلب من المرشح أن يكون مالكاً لمئات الملايين، أو مستقوياً متحزباً متحزماً بمن يملكون الثروة، فرجعت الإنسانية إلى الدائرة الجهنمية من جديد. وكأنه لا اخترعت ديموقراطية ولا ابتدع أو أبدع هذا النظام الإنساني. ثم كانت الحكومات العميقة الخفية المستترة كالضمير الغائب المستتر.. فهي تحكم في الحقيقة، والحكام الظاهريون كابن حزم الظاهري.. له ظاهر القول، وهؤلاء لهم ظاهر الأبهة والحكم. وقديماً تسلطت مراكز القوى على الخلفاء العباسيين. فصار حتى الخدم يحكمون الحكام، مثلما قال الشاعر: خليفة في قفص بين وصيف وبغا وآخر اثنين هما من أسماء خدم القصور الذين كانوا يتلاعبون بالحكام. وكالخلفاء العثمانيين في أواخر العهد فصاروا ليس لهم من الأمر شيء، فيصدرون الأمر بتعيين «س» فيعين بدله «ص»، وعزل «ع» فيثبت.. ومحاكمة «ل» فيكافأ ويرقّى. هذه الحكومات العميقة كانت منذ قديم الأزمان لكنها الآن أصبحت أشد ضراوة وفتكاً وبأساً وبطشاً وتحكماً وهيمنة وتنظيماً. 2- عسكر وحرامية! كان الأطفال يلعبون لعبة يسمونها: عسكر وحرامية فينقسمون فريقين يمثل دور العسكر مجموعة منهم مرة، ويمثل دور الحرامية مجموعة أخرى ثم يتبادلون الأدوار وفق قانون اللعبة. الآن اختلفت اللعبة، فصار الاثنين شيئاً واحداً. أعني العسكر والحرامية. يعني العسكر صاروا هم الحرامية. لقد ذاقوا حلاوة المال الذي لا يأتي إلا من الطرق الخطأ.. فاشتغلوا في تجارة المخدرات، واشتغلوا في سمسرات صفقات السلاح، واشتغلوا في بيع المعلومات الأمنية.. واشتغلوا في وضع اليد على الأراضي واستملاكها، يحميهم في ذلك أن القوة بأيديهم، والشعار المرفوع، أن الجيش لا مساس. وجيش أكتوبر ونصر أكتوبر.. وأشهد ويشهد التاريخ وكل منصف أن العسكري المصري، وحتى الضباط، وحتى بعض القادة قد قاموا بعمل أكثر من مشرف.. ولا مجال لاستعراض بطولاتهم فهي فوق الحصر. ولكن كانت تلك كما قال كبيرهم الذي علمهم النصب والاحتيال أعني السادات كانت تلك آخر الحروب.. وخلا الميدان لإسرائيل تعربد على كل المنطقة وتجتاح من العواصم ما تشاء، وتفرغ كبار الضباط للاستثمار والانتفاع وتكوين الثروات. لكن أخطر سرقاتهم سرقة الحكم. فقاموا بانقلاب على فاروق بحجة فساده وهو كما قيل وأكثر مما قيل، فهل انصلح الحال عما كان؟ لا بل زاد فساداً واستحكم وصار محمياً بقوة الجيش والعسكر والبسطار. وكان المفروض أن يعودوا إلى حياتهم العسكرية بعد الثورة.. وتعود السياسة إلى حياتها، لا أعني الفساد السياسي، ولكن للسياسة رجال وللمال والاقتصاد رجال، وللعسكرية حياة ومحترفون ورجال.. وخلط الأوراق وخلط المواقع وتداخل الخطوط هذا يربك الحياة. لقد استهوتهم لعبة الكراسي. واستمرؤوها فاستمروا في حكم مصر ستين سنة ونيف. ثم سرق الضباط الثورة من محمد نجيب ووضعوه تحت الإقامة ثم قتلوا بعضهم صلاح سالم وعامر، ثم ورطوا مصر في الاشتراكية الشيوعية (العلمية على رأيهم) ثم نكبة 67. فلما انقلب الشعب على كبيرهم مبارك وهو الفساد في أجلى تجلياته، قامت الدولة العميقة التي شكلت مافيات لامتصاص ثروة البلد.. وذكرت مراراً أن «كاثرين آشتون» مفوضة السياسة الخارجية الأوربية قدّرت المهرب من أموال مصر خلال (15) سنة الأخيرة من حكم مبارك ب (5) ترليون دولار! وهي ثروة لو وزعت على الشعب المصري لكان أحسن حالاً من شعب الإمارات ودبي بالذات التي تتصدق على مصر ببعض المليارات ثمناً لإقصاء الإسلام عن الحياة! أقول: أمريكا والدولة العميقة في مصر طأطؤوا للعاصفة كما قلنا من الأيام الأولى، وما لبثوا أن ضربوا ضربتهم بعد أن شككوا الناس في الربيع العربي وجدوى الثورات العربية. ثم أعادونا إلى المربع الأول أي قبل الربيع بإعادة إنتاج نظام مبارك من تعذيب وإقصاء وتبعية لإسرائيل.. وصنعوا ما لا يخطر ببال. سرق عسكري مقعد الرئاسة وأخفى الرئيس المسروقة رئاسته والمختفية بدورها. ثم نصّب نصاباً من عصابته التي رباها مبارك، من عصابة القضاء الذي جعله مبارك أفسد من شارع الهرم أو شارع «العوالم» شارع محمد علي! أقول نصّبه رئيساً، وألغى رئاسة منتخبة من شعب بعشرات الملايين. وألغى دستوراً كتبته عقول وجاء بدستور لا يصلح علفاً للعجول، بعد أن قالوا عن الدستور الأول الذي أعد في أكثر من نصف سنة من السهر حتى مطلع الفجر قالوا عنه: الدستور المسلوق! وهذا أعد في ليلة واحدة لا ضوء فيها.. والسيسي ينفي الترشح لمنصب الرئيس أو أي منصب رئيسي! وهل قَسَم اللصوص يعتبر شيئاً إلا حبْل نجاة؟ فمتى كان لسراق السلطة وحرامية الثورات عهد وميثاق ووفاء وخلق وذمة؟! وحديث العسكر الحرامية وديموقراطيتهم ديمقراطية البسطار متصل.