أعتذر أولاً عن تأخري في الكتابة إليك. كل هذا الوقت، عام ونصف العام وأنا غارق في محاولاتي لإيجاد كلمات تليق باعتذار كبير لك. اعتذار يليق بحجم قلبك الكبير الذي، للأسف، لم أتعرف عليه عن قرب لكني لمسته في كلمات الناس التي تقاطعت حياتها معك ولم أكن منها. ( هل يصحّ هنا أن أقول باشتياقي لك وأنا لم أرك ولو حتى لمرة واحدة؟ هل أبالغ لو قلت: نعم، اشتاق)؟
وأعتذر ثانية منك وأنت في حياتك الثانية والجديدة عليك. أعتذر منك وأنا خجلان من نفسي ومن الكون كله. هو اعتذار من التّرْك الجماعي الذي حصل لك ولقتلك. ذاته القتل الذي حدث ونسيناه في زحمة أيامنا الفارغة.
انتفضنا، نعم، بعد مقتلك. كتبنا وبكينا كثيرا، وقفنا في الساحات، رفعنا صورك، قفزنا كقرَدة فرحة بنفسها معتقدة أنها ستعمل على تدوير الكون وإعادته إلى وضعه الصحيح والمفترض. تقافزنا، أسبوع، أسبوعان، وأيام بعدها. وخلاص. ارتخينا، داهمنا الكسل الذي تُدار على أساسه البلاد. الكسل الممنهج والذي بعده لا يكون شيء. حيث يقول: افعلوا ماوددتُّم من هيجان ومن صراخ، ففي النهاية ستذهبون إلى الكسل. سنفعل لكم جريمة ثانية لها أن تلهيكم عن السابقة. سنلهيكم بجريمة ثالثة وأفدح. سنبتكر لكم من الجرائم والقصص ما لن تستطيعوا معها صبرا.
وباستثناء أسرتك العظيمة، وقعنا كلنا في الفخ. كعادتنا.
ونسيناك يادرهم ياقدسي.
نسيناك، نعم. ( على الرغم من أني أمقت الكلام باسم الجماعة وأتعمد دائما التحدث بصوتي الفردي). وعليه، نسيتك بعد أن أخذوك من المستشفى الذي قتلوك فيه. ذاته المبنى الذي كنت تخفف فيه معاناة أناس غائبين عن الوعي . أيّ قلب كنت تحمله وله هذه القدرة العظيمة وأنت تجلس طوال الليل مراقباً لذوات تذهب إلى موتها وأنت في تلك الخزانة الباردة، لوحدك بلا أية حماية.
ذاته المبنى الذي كنت حال مروري عليه، وأنت في المشرحة، تقفز دمعة من قلبي عليك. نسيتك بعد أن أخذوك إلى المقبرة "الحمراء". ذاتها المقبرة التي لم أودّ اقترابي منها. لم أكن أصلا راغبا في أن تخرج من مكانك، من السرير الذي غدا، وأنت في موتك السريري، شعاراً وأيقونة. خَذلك المستشفى وأصحابه، وخذلك الناس، وخذلناك.
كانت الدنيا تمطر يومها، صباح الجمعة الأول من رمضان، رمضان الفائت. يااااه، كم تمر الأيام بسرعة ورمضان الجديد على الأبواب.. بدونك مرة ثالثة.
عزيزي درهم: كما قلت لك، هو النسيان الذي يُعدّ مرادفا لمفهوم الخذلان في أتمّ صوره. أن تُنسى أنت معناه الخذل والترك واضحا بلا مواربة. وقد يتوارى النسيان والترك في مقولات كانت تأتي على وزن: "وما نعمل له ، قضاء وقدر . خلاص ، إكرام الميت دفنه ".
تقال بكل برود وقبح وابتذال . وكأنك كنت ميتاً عادياً وراح في ظروف عادية ! كأنك رحت في حادث سير أو واقعة تسمم . وهناك من تبرع بتقديم شيك عليه رقم يقول بتكاليف التشييع والدفن كما وقيمة المقبرة. وهناك وهناك .. قصص كثيرة لا أريد أن أوجع بها رأسك وأنت مقيم في راحتك التامة . لكن لابد أن تعرف .
وكل هذا في زواية وماكان لك من بعض أعضاء نقابة هيئة التدريس بجامعة ذمار التي كنت تنتمي إليها زواية أخرى ، أفدح وأمّر .على اعتبار أنك منهم وما جرى عليك ربما يجري على واحد منهم . لكن لا حياة ولاحياء . كان الاكتفاء بمسيرة إلى مبنى المحافظة ، وثانية لم تبارح سور بوابة الجامعة . وبس. خلاص . يكفي . البلاد تمر بمنعطف خطير ( وكأنها لم تكن كذلك على طول !) . مش عايزين شوشرة أو إثارة زوابع . ( حلوة هذه "زوابع " ذكرتني بما قاله الزميل العزيز مطهر رشاد المصري وزير الداخلية اليمني في مجلس النواب حول مقتلك يا درهم ) .
كما قال لي أحدهم ، من أعضاء النقابة إياها :" بلاش تسييس القضية ياجمال . مش حلو التسييس في حق القضية . أو مش حلو القضية في حق التسييس". وكأنه نظر إليّ فجأة فاكتشف أني أتكلم باسم الإخوان المسلمين أو منظمة الخمير الحمر! (أحيانا لاتملك إلا أن تُظهر على وجهك وبصمت ، أكبر كمية من علامات القرف كرد على كلام كهذا يقال لا خجل أمامك ) . لكن بيني وبينك ، كنت أعذرهم في آخر اليوم.كنت أجد لهم عذراً فيما يقولون ويفعلون ، فلقمة العيش كافرة والانحناء طريقة سهلة للحصول عليها بل وجع قلب ولا سياسة . أما احترام الذات فحكاية أخرى .
عزيزي درهم: لا أكتب لك اليوم كي أقول لك بالحكم الابتدائي الذي صدر في حق عدد ممن تشاركوا في قتلك . ( استوقفتني هنا كلمة " تشاركوا ". ألهذا القدر كنت كثيرا وكبيرا ) . بل أكتب لك اعتذارا، كما قلت عاليه. أو لأي سبب كان . المهم أني وددت الكتابة إليك ، ولو كانت كتابة تأخرت كثيرا . قد تكون كتابة بسبب وربما بلاسبب. المهم أنها كانت . والمهم أني قد ارتحت الآن ،ولو قليلا .
ينشر بالاتفاق مع صحيفة حديث المدينة (خاص بالمصدر اونلاين)