جلس رجل قبلي مسن في عقده السابع على صخرة وسط صحراء شاسعة في محافظة الجوف ممسكاً ببندقية يشاهد آلافاً من رجال قبيلته بكيل وهم يحتشدون الأحد الماضي في منطقة الحجلاء لتوحيد قرار القبيلة. غمر الرجل شعور بالزهو وهو ينظر بعينين تتوهجان تحت أشعة الشمس الملتهبة إلى رجال بكيل الممزقة، يخطون الخطوة الأولى لجمع شتات القبيلة الضاربة.
كانت ملامح الرجل ذي اللحية البيضاء تشي أنه قد ظفر بلحظات عزيزة انتظرها طويلاً ليرى قبيلته موحدة قبل أن يودع الحياة.
"بكيل كبيرة ويجب أن تكون كبيرة (...) بكيل لن يهدأ لها بال حتى تأخذ مكانتها"، انطلقت هذه العبارة وأخرى مماثلة لها في القوة والرمزية من فم الشيخ القوي أمين العكيمي على مسامع آلاف من رجال بكيل الذين تقاطروا إلى صحراء الحجلاء ليؤسسوا للحظة فارقة في تاريخ القبيلة التي تمتد على رقعة جغرافية شاسعة، تخترق سبع محافظات في شمال البلاد لكن تاريخها الحديث اقترن بالتمزق.
استحضرت بكيل نشوة مؤقتة ويوماً قد يكون مشهوداً في سجل محاولاتها المتكررة للتماسك واستعادة وحدتها.. آلاف الرجال احتشدوا وكل يحمل سلاحه، أقلهم تسلحاً يحمل بندقية كلاشينكوف ويتمنطق مخازن ذخيرة، وعدد كبير وفد مع رشاشه المتوسط أو قاذفات ال"آر بي جي".
وشكل المحتشدون سلسلة بشرية دائرية ضخمة في مشهد استعراضي له دلالاته بينما كانوا يرفعون أصواتهم بالزوامل التي تمثل إحدى لوازم القبيلة كالبندقية تماماً.
ولإضفاء مزيد من المهابة على الاجتماع القبلي الضخم، أطلقت مجموعة رجال أسندت إليهم مهمة استقبال الوافدين النار في الهواء من مختلف الأسلحة التي بحوزتهم لدى قدوم كل العشائر المشكلة لبكيل. في هذه الأثناء، سيستجمع رجل في السادسة والأربعين كل طاقته ليأتي خطابه حماسياً متوافقاً مع الموقف الذي ظهرت فيه بعض من الروح الكامنة في بكيل.
احتاج النائب البرلماني أمين العكيمي ثماني دقائق فقط ليوصل إلى جهات متعددة ما يعتلج في نفوس رجال بكيل دائمي الشكوى من أن قبيلتهم هدف لتآمرات تتربص بها منذ نصف قرن بهدف إضعافها والإبقاء عليها مشتتة.
وجاء خطاب العكيمي واضحاً واشتمل على رسائل نافذة صريحة، لا تحتاج إلى عناء لتفكيكها وفهم مقاصدها.
تدفق الحماس على نحو مضطرد في خطاب الزعيم القبلي الجديد ليبلغ به إلى أن يخاطب المجتمع الدولي ودول المنطقة للإصغاء إلى صوت بكيل. قال العكيمي: "أدعو المجتمع الدولي. أدعو الدولة اليمنية. أدعو دول المنطقة إلى أن تبذل الجهد والإعانة لتوحيد بكيل وأن تسمح لهذه القبيلة أن تقوم بواجبها بالحفاظ على أمن المنطقة، وأقول لهم جميعاً إن لم تتوحد بكيل وإن لم يسمحوا لبكيل أن تلمّ صفوفها وتوحد كلمتها فإن المنطقة لن تهدأ. "عليهم إذا كانوا يريدون أمن المنطقة واستقرارها وبناء اقتصادها (....) أن يساهموا في جمع بكيل وفي وحدة بكيل.. بكيل كبيرة ومؤثرة، ستؤثر على البلاد، فرقتها ستؤثر سلباً ووحدتها ستؤثر إيجاباً".
ويواصل العكيمي رفد رسالته الأولى بثانية حمالة أوجه: ندعو إخواننا وجيراننا ودولتنا أن تساهم في وحدة بكيل إذا كانت حريصة على أمن البلد واستقراره، إذا كانت حريصة على أمن المنطقة كلها. بكيل لن يهدأ لها بال حتى تأخذ مكانتها التي تليق بها".
عنت هذه الدعوى ثلاث جهات هي مصدر زرع الفرقة في بكيل طبقاً لشكوى رجالها المزمنة؛ "إخواننا وجيراننا ودولتنا" ولو اجتهد العكيمي في إيضاح جهة رسالته لقال إنها حاشد والمملكة العربية السعودية والسلطة الحاكمة. فأحاديث رجال بكيل التلقائية منها والرسمية تنضح شكوى من تربص هذه الجهات بقبيلتهم. ويستمر العكيمي في إنفاذ بلاغاته المباشرة لكن إلى بكيل هذه المرة "أن تسمو بنفسها وأن تسعى للعلا الذي أسسه الآباء والأجداد وأن تفرض سيطرتها كما يليق بها".
وعلى رجال بكيل أن يشاركوا في إصلاح الوطن "وفي رسم سياسته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية".
إنها الشراكة بتعبير السياسة، وهي من أكثر المصطلحات السياسية تداولاً في خطاب الأحزاب السياسية منذ ثلاثة أعوام، وبتعبير العكيمي، الاشتراك في حكم البلاد وأن تفرض قبيلته" سيطرتها كما يليق بها".
ما زال العكيمي يتحدث وسيلقي إعلاناً قد يكون تاريخياً لو تحقق بالفعل: انتهى زمن الشتات في بكيل، انتهى زمن الفرقة في بكيل، انتهى زمن التجهيل والتجاهل لبكيل (..) اليمن ليس ملك أحد دون أحد وليس ملك قبيلة دون أخرى أو فصيل أو مدينة دون أخرى".
عرف عن أمين بن علي العكيمي الذي يقضي عامه السابع عشر في عضوية البرلمان جرأة في مواقفه بدا في بعضها مغامراً والتصدي لمهمة توحيد بكيل سيضاف إلى قائمة مغامراته التي ربح معظمها.
وليس كثيراً على مهمة توحيد بكيل أن توصف بالمغامرة في ظل وضع القبيلة الحالي والتنازع المحموم على تزعم مشيختها، لكن العكيمي الذي افترش الرمال مع رجال قبيلته وأبدى قدراً كبيراً من البساطة والتواضع تصدى لها، وأكثر من ذلك أن مشيخة القبيلة ذهبت إليه؛ لقد عاهد رجالها في نهاية خطابه أن يبذل جهوده للدفاع عن "عزة" بكيل ووحدتها وكرامتها، وذلك قبل أن يزكية الاجتماع "رئيساً لمؤتمر قبائل بكيل العام".
ولا يعني القسم الذي ألقاه العكيمي واختياره رئيساً لمؤتمر بكيل إلا تنصيبه شيخاً لها مع مراعاة الاقتصاد في إطلاق الصفة لتفادي إثارة حفيظة شيخ القبيلة ناجي بن عبد العزيز الشايف المتأهب للدفاع عن مشيخته على الدوام.
لكن ما كان يخشاه المجتمعون في الحجلا وقع في اليوم التالي حين أعلن الشيخ الشايف في بيان مطول عن مؤتمر لشيوخ اليمن في محافظة عمران سيحضر له بالاشتراك مع شيخ حاشد صادق بن عبد الله الأحمر. وأتى البيان متأثراً في مجمله من القرار الذي اتخذه مؤتمر الحجلا.
يثير اللغط الذي يتخلل "مؤتمر بكيل" كما أطلق عليه المجتمعون في الحجلا سؤالاً جوهرياً عن فرص نجاح توحيد بكيل وتنصيب العكيمي شيخاً جديداً لها.
يعتقد أن بطون بكيل المهمة اشتركت في المؤتمر مع شيوخها مثل قبائل حرف سفيان وأرحب ونهم، فضلاً عن قبائل الجوف، وفي هذا دلالة على اقتناع بالإجراء وإمكان الالتفاف حوله وإنجاحه.
بيد أن طبيعة بكيل المتمردة على نفسها قد تبرز في أي لحظة فتبقي الانقسام قائماً بينها.
لم تعرف بكيل الولاء المشيخي الصارم في تاريخها الحديث كما هو الحال لدى غريمتها حاشد التي تغلبت على صغرها بتعاضد وثيق العرى بين رجالاتها علاوة على الانقياد التام لزعاماتها مستفيدة إلى جانب ذلك من امتيازات السلطة المسخرة لشيوخها.
ومرد ذلك إلى عدم استشعار بكيل لأخطار تتهددها بالمقارنة مع كبرها مما غلب نزعة التفكك عند بطونها فضلاً عن طبيعة رجالها ذوي النزعات المتحررة والطبائع المتمردة على مبدأ التسليم لشخص ما بتقرير مصيرهم. وإلى ذلك نال كثير من رجال بكيل وشيوخها قدراً جيداً من التثقيف والتحقوا بالحركة الوطنية بمختلف مشاربها الفكرية من اليسارية والقومية والوطنية، وهذا ما جعل من بكيل مجتمعاً شبه منفتح على أي وافد جديد من الأفكار والتنظيمات.
ومنذ عقود، لم يجد أي عدو للنظام في صنعاء صعوبة في تجنيد قسم واسع من بكيل لمناصرته والاستقواء به.
فغير بعيد، وجدت جماعة الحوثيين في بكيل مخزوناً بشرياً جاهزاً لقتال حكومة صنعاء إلى حد أنها بسطت نفوذها في مديرية حرف سفيان ذات المساحة الشاسعة ومحافظة الجوف.
وخلال الصراع السياسي المحتدم بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام جند الاشتراكي غالبية بكيل لصالحه وزود كثيراً من قبائلها بالسلاح، وكان يراهن عليها في نقل المعركة إلى صنعاء أثناء حرب 1994، حتى أن أمين عام الحزب ونائب رئيس الجمهورية حينها علي سالم البيض ظهر ليهدد بنقل المعركة إلى دار الرئاسة من شدة إفراطه في الوثوق ببكيل.
وفي هذا السياق، كان سنان أبو لحوم أحد زعماء بكيل التاريخيين، الوحيد الذي جاهر بانحيازه إلى حكومة الاشتراكي في صراعها مع حكومة الرئيس علي عبد الله صالح من بين كبار شيوخ القبائل في الشمال.
ووجد الإمام المخلوع محمد البدر في قبائل بكيل ملاذه عقب الإطاحة به في سبتمبر 1962 واندلاع حرب أهلية لسنوات بين معسكري الجمهوريين والملكيين، فقاتلت بطون القبيلة في صعدة وصنعاء باستماتة في صف الملكية إلى درجة أن مدافع الجمهورية والطيران المصري لم يستطيعا إخمادها لينتهي الصراع باتفاق سلام.
ذلك الصراع قدم دليلاً آخر على انفتاح بكيل. ففي الوقت الذي ساند قسم منها الإمام البدر، قاتل القسم الآخر بفدائية دفاعاً عن الجمهورية بقيادة آخر زعماء القبيلة الأقوياء الشيخ الراحل أمين أبو راس.
لا يفتي التاريخ بأن بكيل قد تتغلب على خصائصها هذه المرة وتتوحد لكن من الممكن أن تحول الإدارة المتحفزة التي بدت في الحجلا حساب التاريخ إلى تابع لها.
وبتعبير آخر، ما بدا أنه بداية لتوحيد القبيلة الكبيرة قد يفتح باباً جديداً لمزيد من تشرذمها إلاّ أن يكون لها قول آخر.