أكتب هذه المقالة على هيئة رسالة إلى عبد الملك الحوثي. عندما عرضت فقرات من هذا الخطاب على صفحة «الوادي» في الفيس بوك وصلتني احتجاجات كثيرة، في الواقع ليست كثيرة لكنها حادة. وربما إنه لم تصلني احتجاجات بالمطلق. لم أكن أتوقع أن كل هؤلاء البشر لم يقرؤوا بعد كتاب «كفاحي» لعبد الملك الحوثي. وهو كتاب يخطه بالسيف، صفحاته الوديان والجبال والضراب، ولا يعلم أحد على وجه اليقين كم ستبلغ صفحات هذا المجلد ولا في أي «دار» سينشره! رسائل الأصدقاء والصديقات أعربت عن «صدمتها» لأني هويت أخيراً إلى مستوى مخيف من الكتابة المتحيّزة. بعضهم لم يكن يستغرب السقوط المدوي هذا، كان فقط ينتظره. لم ينسَ بعضهم أن ينصحني بأنه كان من الأفضل أن أتقدم إلى السيد الحوثي بالنصح، على شكل التماس إنساني، إذا أردتُ أن أرى استجابة لدى المرسل إليه. وهو هنا: السيد الجنرال عبد الملك الحوثي. حسناً، فهمتُ أنه كان عليّ أن ألين، وربما أكتب خطابي شعراً، لكي يعيد الجنرال أدولف الحوثي التفكير في فكرة الزحف الرسالي الأفقي على تلك الأرض التي تناديه باسم الهوية والثقافة والتاريخ ليحررها من الدخلاء، كما يفهم من كلام الناطق الرسمي محمد عبد السلام. الأرض التي تتلألأ أمام عينيه البارقتين مثل بركة من الذهب الخالص، في لحظة غياب للدولة المركزية وترهل في الأطراف، لن يوقفه أحدٌ دون حيازتها، وربما لن تتاح له الفرصة مرة أخرى. في تصوري، والمشهد على هذا المستوى المتوتر، لا داعي لأن أخاطب أدولف الحوثي شعراً، كما ينصحني الأصدقاء. سأقول فقط ما الذي أفهمه من سلوكه وكفاحه بالطريقة التي تحلو لي أنا، وليس لأحد سواي. وسأعتقد أني الآن أكتب لنفسي، وحسب. فعبد الملك الحوثي، الذي لم يستشهد بالشعر قط فيما أعلمه، ربما قرأ «من أوراق أبي نواس» للراحل أمل دنقل، وهو يقول: إنه الذهب المتلألئ في كل عين إن تكن كلمات الحسين وسيوف الحسين وجلال الحسين سقطت دون أن تنقذ الحق من ذهب الأمراء أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشعراء؟ هكذا أتصوّر أن كلماتي، وحتى كلمات الحسين، لن تحول دون أن يسطع الذهب المتلأليء في عيني «الملك» المتوحشتين.. *** عزيزي السيد عبد الملك الحوثي.. في البدء أود أن أقدم بين يديك بأمرين: الأول أني لا أستهدف النيل من عقيدتك الدينية، فهذا أمر ترفضه الأخلاق العالمية التي تقف ضد ازدراء العقائد والأديان. بل أحاول أن أفهم – ولا أزعم أني قد فهمت بالضبط- لماذا تبدو عقيدتك الدينية مجرّد طبول حرب؟ ثانياً، أرجو أن لا تفهم أني أكنّ عداءً لآل البيت، الممثلين في شخصك الكريم، كما تقول. أنا فقط أحاول أفهم: هل يعقل أن تكون مهمة «آل البيت» هي دفع الناس إلى الهرب «من بيوتهم»؟ أما بعد .. استمعتُ إلى خطابك بمناسبة عاشوراء. كنت تقول، كما فهمت، أنك واجهت أميركا والسعودية وحزب الإصلاح والحركة السلفية الوهابية العالمية في دماج. وكنت قبل خطابك بيومين قد أعلنت رفع الحصار عن «السعودية وأميركا والإصلاح والوهابيين»، كل هذه القوى المحلية والدولية في دمّاج أيضاً إكراماً للثورة. شكراً لهذه الهدية السخيّة. ولكن: أما كان يجدر بك أن تفتك بأميركا بعد أن مكّنك الله من عنقها في دماج؟ كان ملايين البشر قد استبشروا خيراً عندما سمعوا بمصرع أول أميركي في دماج قيل أنه جاء لطلب الحديث. لا تكترث لكونه مسلماً، يا عبد الملك، فالأميركان لا يستحقون الشفقة ولا الرحمة، ومن غير المستبعد أن يكونوا قد تآمروا على إيران في حادثة «سقيفة بني ساعدة». لم يكن بينك وبين النصر، يا عبد الملك، سوى أن تقتل بقية «وفد الطلبة الأميركيين» في المركز، وهم لا يتجاوزون الثلاثة أشخاص. وبهذا كان يمكن أن نقول: العالم ما بعد أميركا. شخصياً كنت سأقول: ليس بعد أميركا سوى الدجال! وتقريباً: كانت ستقوم الساعة أيضاً. وبالمرّة سيفرح المسخ -عفّاش- بهذه الأحداث المتلاحقة وقيام الساعة قبل أن يرغم على تطبيق المبادرة الخليجية. كنتَ أيضاً قد أكرمت الثورة، قبلاً، في الجوف وعمران وحجّة والمحويت وصعدة. قال محمد عبد السلام: إن انتشار شبابك المؤمن (بماذا؟) على تخوم المحافظات يعكس هوية أمّة لها ثقافة، أو ثقافة أمّة لها هوية. وهي جملة، كما قد تتفق معي، لا معنى لها لغويّاً لكن يفهم منها أنك قد عقدت العزم على الانتشار الأفقي في أرضك التاريخية. هل تذكرك هذه الجملة بأمر ما: الأرض التاريخية، أرض الميعاد، أرض الأجداد؟ لا أرمي إلى القول إن سلوكك يتقاطع في حقائقه مع المنطلقات الذهنية والنفسية والفلسفية التكوينية التي صنعت الهوية الكلّية للمشروع الصهيوني. صدقني لا أتهمك بذلك، أنت لوحدك تؤكد هذا الأمر، بينما نحاول نحن أن ندرأ عنك هذه الحقائق: رجل مؤمن أخطأ في التعبير عن إيمانه. غير أن خصومك، الذين لا يمكن أن يكونوا مخطئين على الدوام، يقولون إنك رجل مؤمن أجاد التعبير عن «طبيعة» إيمانه. حتى وأنت تمتدح أجدادك آل البيت. إنك تمتدحهم وتسدي لهم معروفاً بطريقة نازية محضة. فأنت لا تدافع عن تصوّرك للحق الذي لهم، حيثُ من المفترض أن تكون أنت – لأسباب غير مفهومة- الوريث الشرعي لذلك الحق. بل تقول: لا يوجد حق، بالمطلق العريض، خارج هذا التصوّر. وتبدو مستعداً لأن تقدم رقبتك دفاعاً عن فكرة أنه لا حق سوى ما تحمله أنت. طبيعة الحق الذي هو لك هي طبيعة إثنية، نازية، عرقية متعلقة بالدم والجينات. لذلك ستبقى أنت محتكراً لهذا الحق بالرغم من أنه حق في طبيعته سياسي، وهذا تجلّ آخر للنازية: أن يصرف الحق السياسي الكامل بناءً على تطابق الجينات الوراثية مع المنطق السياسي! تماماً كما هي طبيعة التكوين العرقي اليهودي: لا يمكنك أن تكون يهودياً خالصاً لمجرد إنك مؤمن بالتوراة وتحمل السلاح دفاعاً عن إسرائيل. تنقصك الجينات. لذلك أنت تقول: الموت لإسرائيل، لأنها تشبهك تماماً بالمقلوب. وفي تقديري لا يوجد تفسير أكثر منطقية من هذا لإصرارك على رفع شعار الموت لإسرائيل. إنها أمور مدفونة في اللاوعي الفردي والجماعي، لا تتعب نفسك في محاولة إنكارها. كما لا يوجد تعريف للنازية أكثر دقة من ذلك. قلت قبل قليل إنك تحاول أن تثبت كم أن منطلقاتك الذهنية، والبنيوية، هي صهيونية في جوهرها السياسي ويهودية في مبادئها وفلسفتها الدينية ونازية في سعيها السياسي الدؤوب المبني على الطهارة العرقية والتطهير الإثني: سمو جنس بعينه، وسيادته، الاجتماعية والسياسية، لأسباب إثنية جينية محضة. هأَنتذا تحاول مرّة أخرى أن تقول: كم أنا نازي. إن آخر صفة يمكن أن تلصق بآل بيت رسول الله هي أن يكونوا نازيين أو صهاينة. يدرك محمد عبد السلام أن النازية ليست مشروعاً أخلاقياً لأمة ذات تاريخ مجيد وهوية خيّرة. عزيزي عبد الملك، بمناسبة مكرمتك للثورة برفع حصارك عن أميركا والسعودية والوهابية والإصلاح في دماج: أتدري متى كانت آخر مرة تكرّم فيها رجل مؤمن برفع الحصار عن جماعة مستضعفين؟ ليست مصادفة يا عبد الملك. حتى أولئك الذين سيقرؤون هذه الرسالة فإنهم سيهتفون: يا إلهي، لا يمكن أن يكون الأمر مصادفة تاريخية. ففي حرب المخيمات في لبنان، 1986، كان الفلسطينيون عالقين بين الموت والعطش. كان أشقاؤك المذهبيون اللبنانيون وحلفاؤك المذهبيو- سياسيون السوريون يحاصرونهم بالدبابات والبنادق. كان احتمال العطش مائة في المائة واحتمال الحياة تحت العشرة في المائة، أما احتمال الموت فقد كان سيد الحساب لديهم. وبعد أن تدخل كل «الكفار» في العالم استجاب أخيراً المؤمن نبيه برّي (تعرفه، بالطبع) وألقى خطاباً يقول فيه إنه سيرفع الحصار عن سكان المخيمات «إكراماً وهدية» لهم. مثلك تماماً كان، ولا يزال، نبيه برّي يزعم أنه يقاتل أميركا وإسرائيل ويخدم آل البيت. كنت معك في حروبك الستة. كان منطقي مركّبا: أنت رجل مؤمن على طريقتك، لك الحق الكامل في أن تمارس عقيدتك وتدعو إليها كحق أصيل من حقوق المواطنة. وكان الجيش الذي يعتدي عليك جيشاً بكل التعريفات غير وطني يتبع نظاماً فقد الشرعية منذ خمسة آلاف سنة!. قلت قبل أربع سنوات: ذهب جيش النظام إلى صعدة بلا مشروعية ولا استراتيجية. في عام 2009 كانت آخر الحروب. نحن الآن على مرمى حجر من العام 2012 ولا تزال أنت لوحدك تشعل الحروب بعد أن توقف «المعتدون» عن ملاحقة «عدوانك». مرّة أخرى تريد أن تقول لنا: صحيح إن حرب النظام اليمني في صعدة كانت بلا استراتيجية لكن المشروعية الأخلاقية والقانونية لها لا يمكن إنكارها بالمجمل. أنا لا أتبنى هذا الموقف، لكنك تصرّ على تأكيده. ولكي تسدي صنيعاً حسناً ل «آل البيت» فقد عملتَ – مأجوراً – على تشريد ثلث مليون مواطن يمني من «بيوتهم». لأجل بيتٍ - يا حبيب الرب - تحرق ألف بيت، كما لا يقول المغني. وبمناسبة حبيب الرب، وجند الله، هل تحفظ هذه الآية «نحن أبناءُ الله وأحباؤه»؟ تدرك جيداً من هم الذين رددوا هذه المقولة في التاريخ، التي تتطابق تماماً مع ما تمنحه لذاتك من مدائح ولمذهبك ولإثنيّتك من تمجيد. كما تعلم الآن – ربما – أن هناك ألف طريقة لإثبات شيء واحد: كم أنك صهيوني ويهوي ونازي، في منطلقاتك الفلسفية واستعداداتك النفسية، أيها السيد الجليل: يا سليل رسول الله! لست مستغرباً لأنك حاصرت «الفكر السلفي». لأنك لو لم تحاصره فإنه كان سيحاصرك غداً وسيطلق عليك الرصاص ربما من نفس البندقية التي تحملها أنت. أنت تنطلق من ملازم «سيدي حسين» التي تجعل من طريقك المنفذ الوحيد للسلامة والخلاص، وتحكم على من يقع خارجها بالضلال وكذلك «الفناء». بينما ينطلق السلفيون من «الطريق إلى الجماعة الأم، والفرقة الناجية من بين بضع وسبعين فرقة، والطائفة المنصورة في ضباب انهيار الفرق». كلاكما ترجمة معكوسة للآخر، لذلك تبدو الكراهية ما بينكما شديدة التوهج. وأنتما، أنت والسلفية، تتفقان مع مقولة اليهود «ليس علينا في الأمّيين سبيل». وأخطر من ذلك يبدو السلفيون، وهم يتألمون تحت سطوة «رحمتك النبوية»: ضحايا الضحايا. هل تتذكر إدوارد سعيد، الفلسطيني العالمي مخترع هذا المصطلح؟ قلت لك قبل قليل: توجد ألف طريقة لإثبات كم أنك، يا سليل رسول الله، مجرد مسلم بملامح كلها خليط من الصهيونية السياسية والعقائدية اليهودية والنازية القاتلة. تختلفان، أنت واليهودية، في المضمون. لكن المضمون نفسه مركّب على نفس الأسس والميول والاستعدادت والنزعَات. أشكرك مرّة أخرى على مكرمتك العظيمة. ولا أتصور سوى أن البنتاغون يشعر بالامتنان لأن الحظوظ السعيدة عملت على تأجيل نهايته المحتومة، بعد أن كان على وشك الانهيار الكامل في دماج. عزيزي عبد الملك الحوثي، شكراً لأنك تتضح بسرعة، وبسرعة مذهلة. فهناك مقولة لدى الخواجة، أثبتت اختبارات المعقولية دقتها الفائقة: ما يظهر سريعاً يختفي سريعاً. وفقكم الله. ملحوظة: أرجو أن يساعدك فهمك على استنتاج أني لا أحرص على التوكيد على أنك نازي أو يهودي. فقط قلتُ إنه يمكن ببساطة متناهية اكتشاف التقاطعات، وحتى القناطر، التي توصل بين «منطلقاتك الفلسفية واستعدادتك النفسية وحتى مقولاتك السياسي-دينية» وبين المبادئ العامة الحاكمة لدى النازية والصهيونية، أو «اليهودية السياسية والدينية». لذلك، سأؤكد لك من جديد على أني أحسبك رجلاً مسلماً بملامح نازية كاملة.