يسمو الفن التشكيلي بمكانة يتفرّد بها عن غيره من الفنون، ولم يكن الفن التشكيلي يوماً عبث ألوان على لوحات مؤطرة، بل كان ولازال الفن التشكيلي يحمل في جوهره رسالة تتضمن أبعاداً ومحتويات مختلفة، باعتباره جزءاً أساسياً من المشهد الثقافي. فالفن التشكيلي هو تلك الوسيلة الراقية والجمالية لإيصال فكرة معينة أو رسالة، ويعطي الفنان من خلاله خلاصة لما يدور حوله في هذا العالم - بحسب توصيف الفنانة التشكيلية هند القشاع.
في حين أوجزت زميلتها الفنانة التشكيلية غادة الحداد مفهومها لهذا الفن بأنه «متنفس يسقط الفنان كل ما في داخله من خلال أعماله».
ولم تختلف الفنانة شفاء الشعيبي كثيراً في تحديدها لهذا المفهوم عن زميلاتها بتأكيدها أن «الفن إعادة ترجمة لما يدور حول الفنان برؤيته الخاصة»، وتضيف «الفن ليس محاكاة للواقع فقط وإنما إضافة».
هند القشاع وغادة الحداد وشفاء الشعيبي درسن الفن التشكيلي في كلية الفنون الجميلة بالحديدة، جمعهم حب العمل وروح الجماعة، لم يكتفين بالفن كما قررته كتب الجامعة، ولم يكتفين به بمجرد حصولهن على الشهادة الجامعية، أسفن كثيراً على واقع الفن التشكيلي باليمن، وقدمن له بتأسيسهن أول بيت للفن في اليمن بالحديدة.
شاركن في 32 معرضاً داخل اليمن وخارجه كمعرض «اليمن السعيد» بالسعودية، وملتقى «شباب العرب الإفريقي» بالسودان، وملتقى «جنوب الوادي» في مصر وغيره.
وكانت لهن تجربة شكلت نقطة انطلاقة لهن في معرض «هالات لونية»، الذي أشاد به وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان، والتطوّر الذي حققه من خلال تعامل الفنانات مع الألوان وتجسيد جمال الريف اليمني، وكانت بالنسبة لهن البصمة الأهم في الوسط الفني والثقافي.
كان ل«المصدر أونلاين» هذا الحوار، الذي لن يقل جمالية إن اتسم بالفردية، لمبدعات عملن بروح واحدة واخترن طريقاً واحداً، حاولنا أن نقترب منهن ومن رؤاهن للفن التشكيلي في اليمن والفنان اليمني كواقع ومستقبل.
* بداية، متى ترسمين؟ - هند القشاع: نحن لا نعتبر الفن مهارة يجب أن نعملها فقط، بالنسبة لي عندما تكون الفكرة واضحة أبدأ بالرسم وبعد انتهائي أشعر بارتياح.
* ومالذي يلهمكِ عادة في رسم لوحاتك؟ - أغلب أعمالي - إن لم تكن كلها- تتحدث عن «الأمل»، دائماً أرسم بالضوء القوي (الأصفر) والظل القوي (البني)، حتى أنّي عملت على سلسلة أسميتها «نوافذ»، وهي عبارة عن نساء وطفل عند نافذة في مكان مظلم والضوء الساطع من النافذة يسقط على أجسادهم، الأشخاص نفسهم متواجدون في كل لوحة عند النافذة نفسها، لكن في كل لوحة وضعية مختلفة عن الأخرى.
* وما سبب اختيارك لهذه الألوان تحديداً؟ - لأن هناك ضوءاً وظلاً في الحياة، هناك تضاد نحن نعيش فيه، ونحاول أن نخلق الانسجام بين المتضادات، وكلما برز الظل القوي برز الضوء القوي، بمعنى أن الأمل موجود بقوة برغم الصعاب والمشاكل (الظل) هناك (ضوء)!.
لوحة للفنانة هند * غادة الحداد، ما الذي يستهويكِ للرسم؟ - لوحاتي أغلبها لِ كبار السن، تجذبني ملامحهم وتقاسيمهم وتجاعيد الحياة بهم، وبحكم معيشتي في الحديدة يستهويني كثيراً رسم البحر والنوارس.
* شفاء الشعيبي، كم يستغرق رسم اللوحة لديك؟ - يتفاوت، إن كانت الفكرة التي لديّ قوية يستغرق رسمها حوالي أسبوع.
أحياناً تصل لمرحلة أثناء رسمك تشعر فيها بالملل، وعدم قدرتك على إضافة شيء جديد للوحة، فالحل أننا نهجرها لأسبوع، أيام، ومن ثم نعود لها بروح جديدة ورغبة أخرى.
- هند: لديّ لوحة استغرق رسمها سنة!
- غادة تضيف: أطول فترة استغرقتها لرسم لوحة كانت 9 شهور، وهي اللوحة التي فُزت بها بجائزة الرئيس على مستوى الجمهورية.
* هل هناك مدرسة تنتمي إليها؟ - غادة الحداد: الفنان لا بُد أن يمر بالمدرسة الواقعية لفترة طويلة إلى أن يتمكن، والكل يراه بأعمال واقعية، ومن ثم يبحث عن المدرسة التي يرى انتماءه لها أكثر، وأنا رسمت عدّة مدارس، لكن بعد التخرج رسمت «سيريالياً»، ومن ثم «تجريديا»، والآن أنا أرسم «انطباعيا»، وأميل كثيراً للوحات «فانكوخ»؛ لأنه كان يرسم بالمدرسة الانطباعية التي أمشي عليها الآن.
-هند القشاع: أنا أميل إلى المدرسة الواقعية، بأسلوب التعبيرية والتأثيرية لتحليل اللون.
- شفاء الشعيبي: الفنان أولاً يمر بتجارب عدّة حتى يجد نفسه في أسلوب معين. هناك من يعمل مزجاً في لوحاته، بحيث يرسم «واقعياً – تأثيرياً»، وكلنا مررنا بتجارب؛ مررنا بالواقعية البحتة إلى أن عملنا التعبيري، دخلنا الواقعي والتجريد إلى آخره، كل هذا كان خلاصة تجاربنا، أنا مؤخراً وجدت نفسي في ال «سيريالي».
* وهل وجدتِ أنك تتذوقين مدرسة غير المدرسة التي ترسمين بها؟ - نحن بالأول نتذوق الجمال، عندما أنتمي لمدرسة معيّنة لا يعني أن هناك مدارس أخرى لا تستفزني أعمالها، وتكون جميلة جداً بالنسبة لي.
- قاطعتها هند: ليس معنى أنّي ارسم بمدرسة معينة أني أتذوقها فقط، بالعكس هناك أعمال كثيرة تعجبني؛ مثال: السيريالية والكلاسيكية الواقعية، أنبهر بها حقيقة، لكن عندما أرسم لا أحب أن أرسم بها.
واقع الفن التشكيلي في اليمن بحكم وصولكن إلى هذا المستوى والمشوار الطويل الذي قطعتموه في هذا المجال ابتداءً من دراستكن في الجامعة ونزولكم لسوق العمل إلى تأسيسكن لبيت الفن: *كيف تنظرن إلى واقع الفن التشكيلي في اليمن؟ - غادة: الفن التشكيلي والفنان في اليمن كأنه «جالس يسبح في بحر ما له نهاية!»، وهناك مقدرون وغير مقدرين لهذا الفن، فالفنان إذا سعى وأثبت وجوده سيستمر.
* من تقصدين ب«المقدرين وغير المقدرين»؟ - مثلاً: وزارة الثقافة تعمل مشاركات لكن ليس بقدر الطموح الفني للفنان، ولا تدعمه للأخير. على سبيل المثال: المشاركات للمعارض الخارجية نبحث عن تذاكر السفر ولا نجد، أو إن كانت هناك مشاركات خارجية عن طريق الوزارة يختارون كبار السن، أما نحن فلا زلنا صغاراً!
نحن اجتمعنا على هدف واحد وهو أن نستمر في الفن، ولم تكفنا الشهادة الجامعية فحسب، بل خرجنا من الحديدة إلى صنعاء والتقينا بالأستاذ خالد الرويشان، وأبدى استعداده لنا بفتح بيت فن. وأسسنا «بيت الفن» في الحديدة الذي خلق الاستمرارية لنا بعد الجامعة ولبعض الفنانين، وهناك بعض الشباب فضلوا البحث عن لقمة العيش بدل «الشخبطة» والرسم.
-قاطعتها شفاء: الجانب المادي مهم للفنان، لأنه في الأول والأخير لكي تكون مبدعاً ولا تكون فناناً موسمياً ترسم بحسب المناسبة لكي تبيع اللوحة، من الضروري توافر الاستقرار المادي لك.
نحن –للأسف- في اليمن لدينا فنانون تشكيليون يتوظفون عندما يمضي من عمرهم مشوار طويل من التعب و«البهذلة».
*وما السبب «البهذلة» برأيك يا شفاء، التي يعاني منها الفنان اليمني؟ - لا يوجد في اليمن استيعاب لمخرجات كليات الفنون الجميلة، فمثلاً وضع كليتنا ممنوع أن يتوظف خريجوها؛ لأنهم غير تربويين، برغم احتياج المدارس! الفنان التشكيلي في بحثه عن لقمة العيش يضيع وينصهر في الحياة ك«فنان».
لوحة للفنانة شفاء *بمعنى أنكِ ترين أن كلاً من وزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم تتشاركان في عملية محاصرة الفنان؟ - بالضبط، كم مدارس في الجمهورية لا توجد فيها مادة التربية الفنية، مع العلم أن هذه المادة مهمة للطفل من الجانب الوجداني، وتعمل له توازناً في بنائه أيضاً، في حين لو تواجدت هذه المادة لاستوعبت كل الخريجين.
* وهل قمتم بأعمال كونكم فنانين ومعنيين بالأمر بمبادرات في هذا الصدد؟ - هند: نعم، نحن الآن نركّز على هذا الأمر، قبل فترة بسيطة كنا مدربين ل 27 مدرسة ل 300 طالب في المدرسة لمسنا من خلالها إقبالهم وشغفهم لتعلم هذا الفن، وهذه بحد ذاتها رسالة لوزارة التربية والتعليم للاهتمام بالطلاب الموهوبين الذين هم بحاجة لتنمية مهاراتهم وموهبتهم، وأن التربية الفنية ليست شيئاً إضافياً أو حصة زايدة من السبع حصص!
*حدثنا عن بيت الفن الذي قمتن بتأسيسه؟ - غادة: أولاً نحن خمس، اللاتي قُمنا بتأسيس بيت فن الحديدة، أنا وهند القشاع وشفاء الشعيبي، وسيما الدبعي، وأسماء الغلاب. شفاء الشعيبي هي مديرة بيت الفن في الحديدة، وهند مديرة بيت الفن في صنعاء.
-شفاء: قرار إصدار بيت الفن هو لدعم الفنانين التشكيليين الهُواة أو المحترفين مادياً أو معنوياً مادياً من حيث توفير الأدوات والبيئة المناسبة (المكان)، ولا يوجد رسوم إشتراك، ومن ثم يعمل البيت تسويق وتنسيق للمعارض، وما إلى ذلك.
كان بيت الفن يتميّز بحركة كبيرة وفعّالة، أما الآن أصبح فيه ركود ربما الوضع العام للبلد أو المرحلة التي يمر به، التي من خلالها قلّ الدعم وقلت الفعاليات وأشياء كثيرة تقلّصت.
*ومن الداعم الأساسي لكُنّ الآن؟ -وزارة الثقافة (صندوق التراث الثقافي).
*كيف كان بيت الفن؟ وما الذي تغيّر؟ أو ما هو الوضع الحالي له؟ -غادة: بيت الفن ما زال قائماً، لكن في عهد الرويشان الكل كان متحمساً. أما الآن قطعوا علينا الحاجات، وقلّ الدّعم، ولم يعد هناك مواد للفنان. فتلقائياً انسحب الأعضاء تدريجياً من بيت الفن، فهذه نتيجة متوقعة بعد أن كان الفنان يأتي وأدواته متوفرة وجاهزة ليرسم فقط، أما الآن «وفّرنا لك بيتاً تعال وارسم بأدواتك..»، وخاصة لأن أدوات الرسم باهظة الثمن من اللوحة إلى الإطار فلن يتمكن جميع الفنانين من شرائها.
كان حضور بيت الفن في البداية قوياً، فكان الكل يحضر في 2007 من الفنانين، بحيث لم يكن بيت الفن يستطيع أن يستوعب هذا العدد من الأعضاء، فاضطررنا أن نوقف تسجيل الأعضاء. أما الآن، الفنانون أصبحوا بعدد الأصابع. وأضيف أنه في عهد الرويشان كان مخصص المواد في بيت الفن 100 ألف، غير مخصص تشغيل البيت الذي كان 200 ألف للإيجار ونفقات التشغيل من كهرباء وماء، أما الآن ثلث الميزانية حُذفت.
*أدوات الفن واحتياجاته، هل هي متوافرة بسهولة؟ - شفاء: كانت في بداية عام 2000 صعب توفرها في اليمن، أما الآن أصبحت لها مكاتب متخصصة توفر الأدوات بشكل دائم ومتنوع.
*هند كيف تنظرين للعلاقة بين الفن التشكيلي والمجتمع؟ - نحن في مجتمع غير واعٍ بشكل كبير بالفن التشكيلي، لكن نحن الآن بفترة نمر فيها بتقدّم واهتمام ملحوظ بالفن التشكيلي ومعرفة المجتمع بقيمة هذا الفن. وبرأيي لازال هناك حاجز بين قيمة الفن التشكيلي والفنان التشكيلي والناس؛ لأن التقدير أصبح موجوداً من الناس، لكن لازلت النظرة للفنان التشكيلي على أنه «حاجة كبيرة» أو أكبر من الاستيعاب هي التي خلقت ذلك الحاجز.
* وما سبب هذا الاهتمام الملحوظ بالفن التشكيلي برأيك؟ - لأنه لم يكن لدينا كلية فنون جميلة في الحديدة، بحيث أنها كانت كلية نوعية عند إنشائها في عام 1999، وكُنا نعتبر في بداية الطريق في هذا المجال مقارنة بالدول الأخرى، وكان لدينا مجموعة صغيرة من الفنانين التشكيلين الكبار؛ أمثال: آمنة النصيري وعبد الجبار نعمان وهاشم علي -رحمة الله عليه- وطلال النجار وغيرهم الكثير.
*على إعتبار أن الفن التشكيلي فناً مرئياً، هل يحظى الفنان التشكيلي بالدعم الإعلامي؟ - شفاء: إذا كانت الفعالية ضمن إطار وطني تقيمها وزارة أو ما إلى ذلك يكون هناك تغطية إعلامية كبيرة لأكثر من قناة تلفزيونية، أما إذا كانت مجهودات فردية فالمحكّم هنا علاقتك أنت والإعلام، وإن لم يكن لديك علاقات فصعب أن تحصل على الدعم الإعلامي.
* معنى حديثك أن الدعم الإعلامي لم يقم بدوره المطلوب في مجال الفن التشكيلي؟ - هناك فنانون كثيرون لم تُسلط عليهم الأضواء. مثلاً: نحن في بيت الفن في الحديدة لدينا أعضاء منتسبون وصلوا إلى 45 عضواً من مخرجات كلية الفنون الجميلة، كم واحد منهم ظهر للإعلام؟!
وتضيف هند، معلقة على أهمية التلفيزيون كوسيلة إعلامية في هذا المجال قائلة: ممكن أن تكتب الصحافة وأن تغطي من وقت لآخر، لكن التلفيزيون لا يعرض صوراً للفنانين الكبار. الأستاذ هاشم علي من أكبر الفنانين التشكيلين في اليمن تُوفي والكثير لا يعرف من هو!
-أما غادة تُوجز إجابتها بأن «الإعلام يبحث عن الفنان إذا حاز على جائزة، لكن كتغطية لمعارضه أو فعاليات تُلاقي خمولاً من الجهات الإعلامية..».
*نظرتكن لمستقبل الفن التشكيلي في اليمن؟ -هند: أنا متفائلة، وأظل متفائلة؛ لأن الناس بدأوا يتقبلون هذا الفن، وهناك أيضاً من يريد أن يعرف عنه، وأصبح هناك دورات تدريبية ومراكز تعلّم الرسم؛ بمعنى الفكرة توسّعت أكثر في هذا المجال لدى المجتمع.
- غادة: أنا متأملة خيراً لمستقبل الفن التشكيلي؛ لأني عندما أعيد النظر إلى الماضي عند بدايتنا لم يكن هناك مثقفون في هذا المجال، لدرجة أننا عندما نعمل معارض يقولون: «أيش هذي الشخبطة؟!»، أو «داخلين أربع سنوات عشان شخبطة؟!»، حتى مدراء العموم عندما يحضرون يقولون كذلك!، لكن الآن مع تأسيس بيت الفن والفعاليات التي نقيمها أدركوا أنها ليست «شخبطة» وإنما «فن».
شفاء: ليس جميلاً أن يقول الشخص إن غداً ليس أجمل أو لازال أمامنا الكثير من التحديات، لأننا مشينا كثيراً من المراحل، والآن أصبح لدينا الكثير من الفنانين التشكيلين في كل المحافظات تقريباً، وأصبح هناك بيوت فن في أكثر من محافظة، فهذا -بحد ذاته- كوّن قاعدة فنية في كل محافظة. نحن بحاجة فقط لأن نعمل بجدية ونوحّد رؤانا كفنانين ونقوم بالفعاليات، بحيث يرجع الزخم وتعود الحركة الفنية من جديد.
*رسالة أخيرة توجهونهن للجهات المعنية؟ - شفاء: يجب ألاّ نناقض أنفسنا، الفنان مطالب بالاستمرارية، مطالب بالدّعم. فنحن يجب أن نجد التوازن، و يقع علينا الدور الكبير كفنانين، وسيقع علينا اللوم أيضاً إن نحن إستسلمنا.
-هند: للمهتمين من وزارة الثقافة رسالتنا أن يزيدوا ويضاعفوا الاهتمام، وأن يضعوا أنفسهم مكان الفنانين بشكل واقعي، وأن يقدروا الفن بقيمته الحقيقية.
ورسالة إلى وزارة التربية والتعليم أن تهتم بمادة التربية الفنية داخل المدارس.