من دون أن يدرك ذلك، لم يعد عالمه في لبنان. أصبح كل عمله هنا. ومعظم صداقاته هنا. وتخرج أشقاؤه وانضموا إليه. وتزوجت شقيقته وانضم زوجها إليه. وتكاثر الأولاد في العائلة، فلم يعد يفكر في أبناء من صلبه. والإنسان الذي كان يحلم بتقاعده وتعويضه ولا قرش زائداً، صار له قصر خالٍ في بيروت، وقصر خالٍ في الجبل، وقصر شبه خالٍ في الخليج. وعندما قرر أن يتوقف ويلتفت إلى الخلف، رأى أن أكثر العمر قد أصبح هناك، في الخلف. الثلاثون والأربعون والخمسون. عبرت من رصيف إلى رصيف لأسلم عليه. هتف عالياً وكأننا في بيروت: «لقد أرسلتك العناية الإلهية. هذه أول زيارة لي إلى (كان) ومَن أفضل منك دليلاً؟ قلت معتذراً: إنني مسافر في الغد. لكننا على الأقل نشرب فنجان قهوة على شرفة الكارلتون». كان الحضور قليلاً، والحر كثيراً في هذه الساعة. وخلع قبعته، وراح يمسح عرق جبينه. وبدا أن سرواله سوف يتفتق من حوله. وقال يشرح «لقد ارتديت السروال القصير، لكنني بدوت مضحكاً، فغيرته». سألته إن كان وحيداً في «كان»، ولم أنتظر جوابه. قلت له إن «كان» ليست معتادة على الأفراد. قال: جميع أصدقائي يسافرون مع عائلاتهم. أشقائي عرضوا عليّ أن أسافر معهم إلى النمسا، لكنني أبلغتهم أنني قررت أن أهدي نفسي في عيدي الستين، زيارة إلى «كان». وبدا وكأن قميصه سوف يتفتق عند البطن. وسرواله سوف يتفلت عند الخصر. وسألني عن آخر الأخبار، فقلت له إنه لم يعد في العالم العربي شيء يدعى آخر الأخبار. كل خبر، خبر عاجل، وكل خبر عالمي، خبر عربي، وكل زعيم عالمي عنده قضية عربية تشغله. ولذا، دعك من الأخبار في «كان»، فقد تأخرت في الوصول. وتضايق من الملاحظة، وكادت أزرار قميصه تتقافز. وأعاد وضع قبعته لكي يبدو سائحاً ذا فخامة. وانتبهتُ أن قبّعته مكتوب عليها اسم الفندق الذي يحل فيه. أما هو فشعر وكأن الفخامة السياحية ينقصها نقص ما، فسحب من حقيبته نظارة شمسية داكنة ومذهبة عند الطرفين. ثم سألني عن أفضل الطرق لتمضية الوقت في المدينة. وقلت له: إنني لا أعرف منها سوى الأمكنة البسيطة، وأنت لم تنتظر كل هذا العمر لكي تبحث عن كرسي في مقهى. أحزنني جوابه: هل تعرف ماذا أشتهي الآن؟ أن أجلس على واحد من تلك الكراسي المجانية على الرصيف المقابل، وأتأمل البحر دون التفكير في شيء. قمت مودعاً وأنا أقول له، الكرسي - بعكس العمر - تعود الانتظار.