كثيرون أولئك الذين قالوا إن أي شاعر لم يشغل الساحة الأدبية، نقدا و دراسة، و تأييدا و معارضة، و حبا و كراهية، كما شغلها أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين. عاصره شعراء نابغون، غير أنه كان و إياهم كما قال البعض كشمس طلعت فحجبت كل النجوم. ليس كل أحد يرضى هذا الوصف لأبي الطيب المتنبي، فهناك منافسون، بل و هناك حاسدون، و تعالت حوله المعارك الأدبية و النقدية بين الفريقين؛ الأمر الذي حدا بالقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني إلى أن يتوسط بين فريقي المحبين و المبغضين؛ بين من يعلي من شأن شاعرية المتنبي، أو من يحط من قدر تلك المكانة، فألف الجرجاني في ذلك كتابه الموسوم : الوساطة بين المتنبي و خصومه. و ليس الخوض في هذا الشأن موضوع هذه السطور، و إنما ستخوض من بعيدٍ بعيد في جزئين أو جانبين من جوانب حياة المتنبي الأدبية. أهم جانبين من جوانب حياته الأدبية؛ هي تلك السنوات التي قضاها في بلاط سيف الدولة الحمداني بحلب الشهباء، و التي ملأها بغرر قصائده ، ثم تلك التي قضاها في مصر - و إن كانت أقصر - مع كافور الأخشيدي . قامت قصائد المتنبي - بالنسبة لسيف الدولة الحمداني - مقام القنوات الفضائية كأداة إعلامية - إذا صح هذا التعبير - حيث راحت قصائد المتنبي تبرز دور سيف الدولة الحمداني من خلال قصائد المدح التي صدح بها أبو الطيب مخلدا أعمال و معارك سيف الدولة مع الروم، و هي التي رفعت من مكانة سيف الدولة إلى مكان متميز رفيع :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم و تعظم في عين الصغير صغارها و تصغر في عين العظيم العظائم
بل إنه يظهر من أمر سيف الدولة أكثر من هذا:
وقفت و ما في الموت شك لواقف كأنك في جَفْن الرّدى و هو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة و وجهك وضّاح و ثغرك باسم تجاوزت مقدار الشجاعة و النهى إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
و في الوقت نفسه تُقدم - تلك القصائد- و تظهر بجلاء شاعرية المتنبي، بل و تجلب له الشيئ و نقيضه؛ فكما تجلب له عطايا، و إعجاب و احترام سيف الدولة، و اكتساب المزيد من المعجبين بشعره، كذلك تجلب له مزيدا من خصومة المنافسين، و كيدهم له :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام و أنت الخصم و الحكم إن كان سرّكمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ُ ألم
كان المتنبي شديد الاعتزاز بنفسه أيضا، و ذلك أمر شديد الوضوح في قصائد المديح التي يصرف جزءا منها للفخر و مدح نفسه :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي و أسمعت كلماتي مَن به صَمم أنام مِلء جفوني عن شواردها و يسهر الخلق جرّاها و يختصم
تكثر الدسائس في بلاط الأمراء و قصور الحكام، و تتناحرشخصياتها، و يكيد بعضها لبعض، و تتوجه سهام الكيد أحيانا نحو شخصية ما - كما في حالة المتنبي هنا - فينالها الكثير من الكيد و الاستعداء، و هو ما أحدث جفوة في العلاقة بين سيف الدولة، و أبي الطيب .. هذه الجفوة بين الرجلين حدت بأبي الطيب أن يقرر الرحيل إلى مصر. كان طموح المتنبي أن يحظى بولاية لدى سيف الدولة، و بات أمله أكبر في أن يتحقق طموحه في مصر لدى كافور الأخشيدي، الذي استقبله بحفاوة و حذر ؛ حفاوة تستهدف شاعريته و توظيفها لخدمته، و حذر يتوجس من طموحه، و إن لم يتمنّع الأخشيدي من وعود يمنّي بها المتنبي بتحقيق طموحه، و هو ما أشار لها أبو الطيب :
أمسيت أروح مُثْرٍ خازنا و يدا أنا الغني و أموالي المواعيد
بينما كان المتنبي يأمل أن يتحقق طموحه في مصر أكثر منها في حلب، باعتبار أن كافور لم يكن أكثر من عبد جلبه الأخشيدي، و في غفلة من الزمن صار العبد سيدا في مصر، بل امتد سلطانه إلى أجزاء من الشام، لكن هذا العبد الذي غافل التاريخ فصار في يوم و ليلة سيد مصر ؛ بدّد آمال المتنبي. قرر أبو الطيب مغادرة مصر، و قرر معها أن يودع في مصر قصيدة كاملة في هجاء كافور، الذي لم يكن عند المتنبي غير عبد لا أكثر ، و متى كانت العبيد تصنع التاريخ ؟ غير صناعة الغدر و الخيانة :
لاتشتر العبد إلا و العصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد و العبد ليس لحر صالح بأخ لو انه في ثياب الحر مولود
و يبدي استغرابه؛ كيف وصل أن يبسط عبد مثل كافور نفوذه على بلد مثل مصر :
أكلما اغتال عبد السوء سيده أو خانه فله في مصر تمهيد
غادر المتنبي مصر ساخطا غاضبا على كافور الذي تعامل معه باللؤم و الكذب :
جود الرجال من الأيدي و جودهمُ من اللسان فلا كانوا و لا الجود
ترك المتنبي أرض الكنانة، و لكنه أودع ألسنة الناس قصيدته الشهيرة في التنديد بكافور و السخرية منه؛ لتكون من أشهر قصائد الهجاء، التي يلجأ اليها الناس للاستشهاد بها كلما غدر عبد، أو طغى متسلق :
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن ٍ يُسيءُ بي فيه عبدٌ و هو محمود و أن ذا الأسود المثقوب مشفره تطيعه ذي العضاريط الرعاديد جوعان يمسك من زادي و يمسكني لكي يُقال عظيم القدر مقصود
و يبقى المتنبي حاضرا بشعره و أبياته السائرة التي يلجأ إليها عامة الناس مهما تباينت ثقافتهم .