في تتبع لظهور جماعات العنف الديني المسلح، في المحافظات الجنوبية، بعيد الوحدة مباشرة، رأيت في مقال حمل عنوان (الجنوب الذي فخخ بهؤلاء)(*) ان الممارسة التعبوية التي بدأت تقوم بها مجاميع (متدينة) في محافظتي ابين ولحج ابتداء من العام 1991 مثلت الظهور الاول للجماعات المسلحة في المنطقة ،وان الكثير من افرادها، كانوا من ابناء الاسر التي نزحت الى محافظات الشمال، بعد احداث يناير 86 الدموية، وما قبلها (صراعات السبعينيات)، واُستقطبت من قبل متشددي التيار الاسلامي، بسبب اوضاع النزوح التي عاشتها ،الى جانب مجاميع (شابة) قدمت من السعودية والخليج، بعد ازمة اجتياح القوات العراقية للكويت في اغسطس 1990م(ازمة الخليج وحربها الثانية)، وتنتمي اسرها الى هذه المناطق، وسهل اصطيادهم بسبب تكوينهم الثقافي القريب من نزوع التيار الاسلامي، الذي بدأ يلملم مكوناته في تنظيم سياسي واحد اعلن عن ولادته في سبتمبر من ذات العام، تحت لافتة حزب التجمع اليمني للإصلاح (الذي نشر مؤيدين له، تحت راية نشر تعاليم الديانة الإسلامية، حيث كان يرى قادة الحزب حينها، أنهم يمارسون دوراً توعويا في مناطق يضعف فيها تواجد الفهم الصحيح للديانة الإسلامية، إلا ان الأحداث التي تلت أثبتت ان تحرك هذه الجماعات كان تحرك سياسي صرف). كما اشارت احدى الدراسات، التي نشرت مطلع اغسطس 2011 في موقع صحيفة عدن الغد ، تحت عنوان القصة الكاملة لظهور تنظيم القاعدة في أبين . هؤلاء الجهاديون، سيشكلون في صيف الاجتياح ( مايو/يوليو 94)، رأس الحربة لقوى التحالف (العسكري والقبلي والديني)،وهم الذين سيشكلون ظاهرة جيش عدنابين الاسلامي، ابتداء من منتصف التسعينات، للقيام بأعمال جهادية في مدن الجنوب ،وبتسهيلات من السلطات، سيقيمون معسكرات تدريباتهم في جبال حطاط والمراقشة في ابين . ارتباط العناصر الجهادية (العائدون من افغانستان) بأجهزة الامن، ودوائر استخباراتية خاصة بالرئاسة منذ مطلع التسعينيات، كان واضحاً والهدف منه كان مبيتا، لاستخدام خطابهم وحماسهم للتنكيل بالخصوم السياسيين، وتصفيتهم وجاء وعلى رأس هؤلاء قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني، الشريك الحقيقي في صناعة الوحدة )) التراكم الذي تم لهذه الحالة، هو ما يشكل الان ظاهرة (انصار الشريعة)، التي غدت المشكلة الحقيقية لتنامي ظاهرة العنف والتطرف، شمالاً وجنوباً. (2) المتتبع لظاهرة الحراك الجنوبي السلمي، سيلحظ ان الطاقات الشابة فيه تمثل القاعدة الجماهيرية الاعرض، ومتوسط الأعمار فيها بين (2025 عاما)، ومرد هذه الظاهرة، ان ابناء ضحايا حرب صيف 94 من العسكريين والمدنيين، المسرحين قسرا والمبعدين من وظائفهم، اصبحت احدى المشغلات الحقيقية للظاهرة. فالأبناء من (جيل الوحدة)، وجدوا اباءهم واقرباءهم بعد 94 ،مركونين في بيوتهم ،وليس لأكثرهم من مصادر دخل سوى الريالات القليلة، التي توفرها لهم صناديق التقاعد، التي لا تفي بحاجاتهم في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية غاية في الصعوبة ،واضطر الكثير من الكوادر المؤهلة فيهم، الاشتغال في وظائف هامشية، مثل بيع القات، وقابل هذه الحالة ظهور طبقة من المنتفعين القربين من مركز الحكم، الذين جدوا في موارد الجنوب البكر، فرصة لا تتكرر لتعظيم ثرواتهم من الباب السهل، الامر الذي خلق ردة الفعل التي بدأت كصوت يطالب بإصلاح مسار الوحدة، اولاً ومن ثم اعادة المظالم (التعاطي مع القضية الجنوبية بوصفها قضية حقوقية)، قبل ان يرتفع السقف الى لحظة فك الارتباط ،وكانت تُقابل في كل مرة هذه الدعوات بتعال عجيب من السلطة، التي كانت توهم الشارع بان ذلك ليس اكثر من موجة عابرة وستزول ،وحين بدأت الامور بالتفاقم عمدت الى اساليبها المعتادة، على نحو تشكيل اللجان لمعالجة قضايا المتقاعدين بدون ان تعطيها صلاحيات وخلق تكوينات حراكية موازية ،والاخطر اغراق الجنوب بجماعات العنف والمخدرات، اللتان تشكلان الان التحدي الاكبر للجنوبيين، ومستقبل دولتهم الساعيين لاستعادتها سلمياً. فالشبان العاطلون، الذين اوصدت امام احلامهم البسيطة كل ابواب الحياة الكريمة، كان امامهم طريقان لا ثالث لهما: اما الالتحاق بالجماعات المتشددة، التي كانت بحاجة الى مقاتلين اشداء من الشباب اليائس الكافر بالمجتمع، والباحث عن خلاصه، في الجنة المؤثثة بحور العين. او الانغماس في (التعاطي)، الذي كانت طُرقه اسهل من شرب الماء، التي تقول دراسات وتقارير ان دوائر مرتبطة بالنظام، عملت على اغراق مدن (مثل عدن والمكلا وتعز والحديدة) عمداً بعشرات الاصناف من الحبوب المخدرة، التي كانت تروج وتعرض علناً وبأسعار زهيدة دون ان تقوم الاجهزة بدورها في المكافحة، بل ساهمت في تعاظم تعاطيها بتوظيف المشتغلين بها في مواقع حساسة، على نحو توظيف اخطر مهرب في وادي حضرموت مسئولاً رفيعاً في دائرة مكافحة التهريب، تحت مبرر معرفته بالخفايا والاسرار، وتشغيل اصحاب سوابق معروفين في اكثر من محافظة جنوبية وشمالية، في تحريات المباحث !! والهدف من ذلك كان ولم يزل، تدمير الوعي الشاب الجديد، المناهض لعملية استحواذ وسيطرة(السلطة الاصولية) ومركزها المقدس، او اعادة صهره في قوالب التدجين والرضوخ، كما حصل مع جيلين سابقين . (3) اذا نحن امام ظاهرة مقلقة وخطيرة، تتعاظم بموازاة التعطيل السياسي المزمن، الذي ساعد على انتاج خطاب الكراهية للآخر، الذي كان بالأمس الحزب الاشتراكي وقياداته واعضائه وحواضنه الجنوبية (الكافرة)، واليوم هو الشمالي (الدحباشي) المحتل، الذي لا تمايز في توصيفه بين (النافذ الفاسد) الذي استباح ونهب كل شيء باسم الوحدة، وبين (العامل البسيط) الذي كان ولم يزل جهده يشكل الشريان النقي، الذي يمد الحياة الى الارض، التي تطبعت علي التعايش بين سكانها، بعيداً عن خطاب الكراهية والتعالي العنصري الاخرق. (*) الشارع 4 يناير 2014