عندما يتناول الانسان موضوعا علميا فانه يحسن به ان يبدأ بما هو معلوم وثابت ولا شك فيه، وأن ينطلق من هناك مستخدما المنطق والتجريب، لأن ذلك من شأنه أن يقيه من الشطح والانسياق مع الخيال الى عوالم التيه كما حدث لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد ونظيره يونغ ومن لف لفهما. وما الهذا، والانا، والانا الأعلى، والهو، وتسميات كثيرة أخرىالا بنات الخيال الجامح المندفع. المعلوم والثابت جمع العلماء والاعلاميون العلميون كما ضخما من الملاحظات والافلام التسجيلية حول الجوانب المتنوعة من طبيعة وسلوك الكائنات الحية، وأصبح معلوما وثابتا ان تكوينها وسلوكها محكومان بهدفين رئيسين هما حفظ الذات وحفظ النوع. وهذين الهدفين الرئيسين يتمظهران في الدوافع الغريزية التي تندرج في خدمتهما، فليس في الحيوان غريرة عدوانية لمجرد الاعتداء دون سبب من حفظ الذات أو حفظ النوع (الصغار والقطيع)، او القتل لمجرد القتل والافتراس دونما حاجة ناشئة عن جوع وهلم جرا. 1- يولد الكائن الحي مزودا بمعرفة وقدرة موروثة على التصرف الصحيح، منذ لحظة ولادته او انبثاقه، تساعده على البقاء حيا في الظروف البيئية الملائمة. وبعض انواعه يتبلر او يتحوصل او يبيت بياتا شتويا بانتظار الظروف الملائمة ليستأنف نشاطه. كما يستطيع بعضها ان يتطور كما هو الحال في الفيروسات والبكتيريا ليقاوم المواد المهلكة التي تطرأ على بيئته، في قدرة مذهلة من السيطرة على جيناته الخاصة واحداث تغيير فيها. 2- الكائنات الحية كلها كائنات اجتماعية وذلك نتيجة تكاثرها أيا تكن طريقة التكاثر، وهي تملك قدرة موروثة على التواصل ضمن نوعها، وتتضمن وسائل تواصلها الصوت والسونار والمواد الكيميائية والنبضات الكهربائية والتخاطر. ففي الأسماك ما يتحرك في تجمعات تضم الألوف بحركة منسقة موحدة، ومن الحشرات ما يعيش في مجتمعات شديدة التنظيم كالنحل والنمل. 3- يولد الكائن الحي مزودا بقدرة موروثة على الملاحظة والانتباه والتركيز وهي المهارات المطلوبة للتعلم ومن ثم اختزان ما تعلمه في ذاكرته واستحضار ما تعلمه عند الحاجة. تستوي في ذلك الأسماك والقشريات والحشرات والزواحف والطيور والثدييات وان كانت تتفاوت مهارات التعلم فيما بينها في الدرجة. وربما كانت تلك القدرة مما تتمتع بها الفيروسات ووحيدات الخلية والنبات أيضا. 4- يولد الكائن الحي بجهاز عصبي مكون من مركز هو الدماغ واعصاب منتشرة في الجسم متصلة به، وهذا المجموع له مهمة وحيدة هي حفظ حياة الكائن، وهو مبرمج ان صح التعبير على أداء هذه المهمة في إطار التحكم بوظائف الحس بكل أعضائه، عبر ميكانبزمات كيميائية وكهربية منسقة. وقد اعتقد الناس الذين امتلكوا الوعي ان الجهاز العصبي منقسم الى قسمين هما: لا ارادي وارادي ، وهو خطأ ناشئ عن ربط حركات الأطراف بما يسمونه الإرادة، وربط حركة الأعضاء الحيوية في الجسم بالقسم اللا ارادي من الجهاز العصبي. والحال انه تقسيم مصطنع ولا أساس له الا الوهم المحض. وتدل مراقبة سلوك الحيوانات العليا ان قدراتها في التعلم مندمجة مع قدراتها الموروثة لحفظ الذات، وهي تستخدم ما تتعلمه في تعزيز قدرات حفظ الذات، عن طريق اللعب والتصارع والوثب والعدو بحيث يعمل جسمها بأقصى كفاءة ممكنة اتاحها لها تكوينها الفيسيولوجي، إضافة الى ما تؤديه المعارف المكتسية من التعلم كأداة كف يمنعها من التعرض لمخاطر بيئية مثل خوض صراعات خاسرة او التردي من شواهق تصادفها...الخ. والحيوانات ما عدا بعض الداجنة منها لا تعرف القلق والاكتئاب المرضيين الذي يعاني منهما الانسان ما لم تتعرض الى مؤثرات ومواد في بيئتها او الاسر والاحتجاز في ظروف سيئة فيصاب دماغها وجهازها العصبي بالتلف.
ولكن وظيفة الكف هذه،والتي تعني فيما تعنيه الخوف،والتي تزيد من مداها قدرة الانسان على التعميم ومن ثم الامتناع عن التعرض للتجارب، تعزز ظاهرة الكسل عند الانسان الذي تمكن من تامين طعامه واحتياجاته الأساسية عن طريق ابداعاته كتدجين الحيوان والزراعة والصناعة، الامر الذي يحول بينه وبين تطوير امكانياته البدنية فيصاب بأمراضوآفاتمنها السمنة وماينتج عنها والضجر وغيرها، وهو ما تشاركه فيه الحيوانات الداجنة التي ييسر لها الانسان احتياجاتها دون ان تبذل جهدا لتحصيلها. وعلى ذلك فان الجهاز العصبي عند الانسان موحد وتظهر وحدته هذه في ردود أفعال الانسان في المواقف الطارئة حيث يختفي الكف وتظهر القدرات. ومن المعروف ان كل تدريب بدني يتلقاه الانسان يصبح جزءا من قدراته الموروثة التي تظهر عند الحاجة وكأنها أفعال انعكاسية، مثل حركات المصارعة والملاكمة والفنون القتالية بمختلف أنواعها، وكذا قيادة الآليات والطبع على لوحة أحرف الحاسوب، وما ينتج عن التدريب العسكري من تلافي الإصابة بالشظايا عن طريق الانبطاح وغير ذلك.وليس عبثا ان مدارس الفنون القتالية الشرقية تركز على التكرار المستمر والاسترخاء وتمارين التنفس والتركيز التأملي الذي يؤدي الى طرد الشكوك والوساوس ويشيع في الانسان الثقة بالنفس. بل ان التفكير المنطقي والقدرة على حل الأسئلة العويصة قدرة تكتسب بالممارسة والانشغال فتنضم بدورها الى القدرات الموروثة لتصبح تلقائية. الهذا والأنا والأنا الاعلى انطلق فرويد من فرضية تقول بان الحياة النفسية وظيفة لعضو بدني هو المخ او الجهاز العصبي، وان هذا الجهاز مؤلف من اقسام عدة. ويطلق فرويد على أقدم هذه الأقسام اسم الهذا؛ وهو يتضمن كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، وفي المقام الأول الدوافع الغريزية الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا اول نمط من أنماط التعبير النفسي. وانه يطرأ على شطر من الهذا تطور يجري فيه قيام تنظيم خاص يصبح وسيطا بين الهذا والخارج، ويطلق فرويد على هذا الوسيط اسم الانا، وينسب اليه مهمة حفظ الذات والتحكم في الحركات الارادية، والسيطرة على الدوافع الغريزية اما بالإشباع او الارجاء او الرفض. وبهذا الانشطار يتحول الهذا الى الهو المتوحش في مواجهة الانا العاقل، أي صورة من مستر جيكل ومستر هايد كما في الرواية الشهيرة. ثم يتخلق الانا الأعلى وهو عبارة عن الضمير الذي يتكون بفعل تأثير الوالدين والمجتمع ومن ثم يكبح الانا ويوجهه الى ما يرضي المجتمع. وفرويد ليس عالما تجريبيا ولكنه كاتب متدفق مسترسل بتميز بخيال واسع، أشبه ما يكون بكتاب روايات الخيال العلمي. يقول برتراند رسل "يمكن لكل معرفة سيكولوجية ان تعرض دون ادخال "الانا". زد على ذلك انالانا كما تعرف، لا يمكن ان تكون شيئا الا حزمة من الادراكات، وليست "شيئا" بسيطا جديدا. ولا يترتب على هذا فقط اننا لا يمكننا ان نعرف ما اذا كان ثمة "أنا" بسيطة أم لم يكن، وان الانا باستثناء كونها اشبه بحزمة ادراكات،لا يمكن ان تدخل في أي جزءمن معرفتنا، وهذه النتيجة هامة في الميتافيزيقيا، من حيث كونها تتخلص من آخر استخدام باق "للجوهر". المجتمع الإنساني الحديث أدى تطور السلطة في المجتمع الى حد المراقبة الفعالة والصارمة، والعقاب الذي لا هوادة فيه لكل خروج على القوانين التي تحدد علاقة الانسان بالمجتمع ومؤسساته وافراده، الى جعل الانسان مقيدا الى حد كبير، وأصبح الطريق الى حياة طيبة محدودا ومزدحما لا يتمكن من سلوكه الا اقلية محظوظة، وبخاصة مع تنامي اعداد البشر، وسهولة إطالة اعمار الضعفاء بدنيا وعقليا ومواهبا، ومن ثم تضاؤل الاصطفاء الطبيعي والجدارة بالحياة التي كان يوفرها. ومن هنا صار الشعور بالإحباط والخوف والضجر ظاهرة عامة،مع ما تؤدي اليه البيئات المزدحمة في المدن من تجاهل للتربية البدنية التي هي عامل أساس في تكوين انسان سليم قوي، فانتشرت الاعصبة المرضية وظواهر الاختلال النفسي انتشار النار في الهشيم. فاتجه الناس الى وسائل بديلة للتنفيس والخروج من الحصار الخانق، فلم يجد الكثيرون في مجتمعات، تصالح افرادها مع أجسادهمولا يسمحون بالحد من حرياتهم في التصرف بها كيفما شاءت اهواؤهم، الا الاتجاه الى ما أتيحلهم من التوسع في ممارسة العلاقات الجنسية وتعاطي الخمور دون موانع، وتوسعوا في سبل الاثارة والنشوة من الرياضة الى المسابقات المختلفة وممارسة الرياضة البدنية، والبحث العلمي والاكتشاف المثيران للإنسان بطبيعتهما، والاتجاه الى الادب والفن والعمل الاجتماعي التطوعي. ومن لم تساعده ملكاته ومواهبه لجأ الى المخدرات الممنوعة المحفوفة بالمخاطر الصحية التي تغيب الوعي، والتوسع في ممارسة الجنس سعيا وراء النشوة والرضا. أما في مجتمعات أخرى تمنع الانفلات الجنسي وتحتقر الادب والفن، ولاتشجع المبادرات والعمل الخلاق وتفرض قيودا كثيرة على حرية التعبير،ومن جهة أخرى تعاقب بشدة متعاطي المخدرات والخمور فقد أصبح العنف البوليسي فيها بديلا يحظى بالشرعية ، ولذلك نجد هذه المجتمعات تحكمها أنظمة متسلطة لاتراعي قوانين ومعايير حقوق الانسان، وينتشر فيها كذلك العنف الديني والإرهاب المنطلق من مبررات وذرائع دينية،لتصبح كلها الطريق الى تنفيس الإحباط، ووسيلة الحصول على الشعور بالنشوة التي يهبها الجسم للمنتصرينفي ممارسة العنف،كمكافأة رئيسة على النجاح في تحقيق رغباته وكحافز قوي للتكرار، اذ ان الصراع العنيف جزء أساسي من وسائل الكائن الحي لحفظ الذات وحفظ النوع ولذلك فالنشوة والسعادة تعقب الانتصار في الصراع بالنيل من الخصم المزعوم بأي شكل، او عند تحقيق ما يدخل في دائرة حفظ الذات والنوع من قريب او بعيد، مباشرة او مداورة. اما المستعدون في هذه المجتمعات لغض النظر عن الموانع الدينية في المسائل الجنسية فيلجأون الى التوسع في ممارسة الشذوذ الجنسي الذي تسهل ممارسته بسبب كون الموانع القانونية التي تحرم الاختلاط بين الجنسينلا نشمل اختلاط افراد الجنس الواحد. كما تنتشر بينهم الانحرافات الجنسية الأخرى، كالسادية والمازوشية والنيكروفيليةوالفيتيشية ...الخ. ومن الثابت والمعلوم ان أسباب الشذوذ والانحرافات الجنسية جينية، في الأساس الا ان انتشارها بسبب الأوضاع الاجتماعية أوسع. وهو ما يوجب البحث حول احتمال حدوث التغير الجيني نتيجة للممارسة. الامراض النفسية والعلاج النفسي طبقا لمجلة العلوم أكتوبر 2010 فان ما نعرفه تاريخيا هو ان الأطباء من جميع الاختصاصات تقريبا كانوا يحاولون دائما استقصاء الأسباب الكامنة خلف الداء الذي يصيب مرضاهم قبل ان يقوموا بوضع خطة علاجية من شانها إزالة المشكلة من جذورها. الا ان الحال لم تكن كذلك في الماضي عندما كان الامر يتعلق بالأمراض العقلية او السلوكية نظرا لعدم توفر الوسائل القادرة على اكتشاف أسباب عضوية لها. وهكذا، فقد ظل الأطباء لأمد طويل يعتقدون ان هذه الامراض لم تكن سوى امراض عقلية، ويصفون للمصابين بها علاجا سيكولوجيا، والمعالجة السيكولوجية هي المعالجة الكلامية الغير الدوائية التي يتلقاها المريض على يد المختص بها. اما اليوم فان وسائل البحث العلمي المتوفرة، القائمة على أسس البيولوجيا الحديثة والعلوم العصبية وعلم الجينوميات قد اخذت شيئا فشيئا تدحر النظريات السيكولوجية الصرفة التي سادت وحدها نحو قرن من الزمن (قرن فرويد ونظرائه)، وتستعيض عنها بأساليب علاجية جديدة للأمراض العقلية. هناك عدد كبير من الامراض التي كانت تدرج تحت عنوان الامراض العقلية قد تم اليوم الاجماع على ان لها سببابيولوجيا كالتوحد والفصام والاكتئاب والوسواس القهريواضطراب الكرب التالي للصدمة يمكن ان تكون هي أيضا من اضطرابات الدماغ الفيسيولوجية.