تستفزني كثيرا بعض وسائل الإعلام العربية وعلى رأسها العديد من القنوات الفضائية وأنا أسمعها مثلا وهي تتحدث عن العاصمة الصينية (بيجين) أو عن ميناء الهند الشهير (مومبي) وكذلك المدينة الإيطالية المعروفة (فينسيا)، إلى جانب العديد من المسميات الأخرى المشابهة التي يلاحظها من يتابع وسائل الإعلام تلك. وسبب ذلك الاستفزاز الذي ينتابني، وأحسب أنه ينتاب الكثير من العرب غيري أيضا، هو أننا تعودنا منذ نعومة أظفارنا ونحن نقرأ في جميع كتب الموروث العربي، ومعها كل الأطالس الجغرافية العربية التي تم إنتاجها خلال القرن الميلادي العشرين والقرون السابقة له، وكذلك في كل مناهجنا المدرسية ونحن نلفظ اسم العاصمة الصينيةبكين وليس (بيجين) ومثلها مدينة بومباي الهندية وليس (مومبي)، وأيضا مدينة البندقية الإيطالية وليس (فينسيا). ولا أخفي بأني في بداية نشوء هذه الظاهرة الشاذة عندما سمعت أحد المذيعين على إحدى القنوات العربية يتحدث عن (مومبي) أعتقدت أنه يقصد مدينة أخرى غير المدينةالهندية الشهيرة بومباي التي كان كل عربي يعرفها بهذا الاسم. وعندما استفسرت عن سر تحريف نطق أسماء تلك المدن وغيرها من المسميات في بعض وسائل إعلامنا العربية رغم أنها صارت تعرف منذ ازمان طويلة بمسمياتها المعربة تلك في الموروث العربي؟ قيل لي إنهم يفضلون نطقها كما ينطقها أهل تلك البلدان! وحقيقة لقد أصابتني الدهشة على تلك الجرأة (الشاطحة) المتعدية على الموروث اللغوي المعرب الذي تراكم لدينا عبر مئات بل آلاف السنين، وصار يمثل جزءا أصيلا من موروثنا العربي، واستغربت أن تقوم جهات إعلامية لها وزنها بتلك (التقليعة) التي لا تعتمد على أسس لغوية بل ولا تمتلك أي مبررات منطقية لما تفعله. ذلك أن كل لغة من لغات العالم قد انتجت لنفسها تراث لغوي لجميع مسميات العالم من حولها، بعض تلك المسميات توافق مع مسمياتها الأصلية لدى لغات أهلها، وبعضها الآخر توافق مع مسميات لغات وسيطة نقلتها لتلك اللغات، وبعضها الثالث صار موروث خاص بكل لغة حتى إن حدث بعض التحريف في نطق الاسم، كما هو الحال مع بكين وبومباي في عربيتنا، أو ابتعد تماما عن مسماه الأصلي كما هو الحال مع مدينة البندقية (فينسيا). ولذلك فقد تكيفت كل لغة مع موروثها اللغوي بخصوص أسماء البلدان والمدن والشعوب الأخرى، ولم نجد أن مثل هذه الشطحات التي برزت لنا مؤخرا في بعض وسائل الإعلام العربية قد ظهرت لديهم، عندما قامت بعض وسائل إعلامنا بمثل هذه الخطوة (العابثة) وغير المبررة، نظرا لتعديها أولا على سلطة المجامع اللغوية التي هي الجهة المسؤولة في جميع بلدان العالم عن إقرار الكيفية التي تصاغ بها المسميات اللغوية الجديدة، وهو ما نسميه في لغتنا العربية بالتعريب. مع ملاحظة أن ذلك التعريب يشمل المسميات والمصطلحات الجديدة والمستحدثة الطارئة على حياتنا، خصوصا منها المتعلقة بأسماء المخترعات الحديثة، أما ما قد صاغه الأجداد فقد صار موروثا لا يجوز المساس به بهذه المزاجية التي لا تدرك عواقب ما تفعله. فعلى سبيل المثال: سألني ابني الصغير عن اسم العاصمة الصينية عندما كان يتابع أحد البرامج المسابقاتية في إحدى القنوات، فطلبت منه أن يذهب للبحث عنها في أطلس جغرافي قديم احتفظ به في مكتبتي الخاصة، لأني أعود أولادي وطلابي على أن يتولوا بأنفسهم البحث عن المعلومة التي يريدونها ولا أعطيها لهم مباشرة حتى إن كنت أعلمها، نظرا لاعتقادي بأن ذلك المنهج أجدى في ترسيخ المعلومات الجديدة في أذهانهم. وعندما عاد ابني الصغير متفاخرا أمام إخوته معلنا لهم قدرته عن الإجابة على السؤال المطروح في تلك القناة، وقال لهم أن اسم العاصمة الصينية هو بكين كما قرأه في الأطلس، لكنه تفاجأ عندما قالت المذيعة أنها (بيجين)، خصوصا عندما سمع ضحكات إخوته الساخرة من إجابته (الخاطئة) في نظرهم، فقال لي معاتبا بأن الكتب التي احتفظ بها في مكتبتي تورود معلومات غير صحيحة وهي التي أوقعته في (الخطأ)، فقلت له ليست الكتب بني العزيز هي التي تحوي معلومات خاطئة لكن القناة التلفزيونية هي التي تعبث بتلك المسميات. ثم تساءلت في قراراة نفسي قائلا: هل يدرك هؤلاء مدى العبث الذي يمارسونه بتراثنا العربي؟! وهل يعقلون بأنهم إن استمروا بذلك العبث بهذه الوتيرة سيجعلون من الجيل العربي القادم يحتاج إلى مترجمين وهو يتعامل مع المسميات التي ورثها عن أجداده وكتبهم، وذلك عندما يسمعها وقد صارت تنطق بطرق مختلفة من غير أي داع لمثل ذلك السلوك (الأرعن). وهو ما يدفعني هنا لأن أدعو وسائل الإعلام تلك والقائمين عليها أن يعيدوا النظر في فعلهم ذلك، وأن يقارنوه بما تفعله وسائل الإعلام في البلدان الأخرى (غير العربية) ليروا هل سيجدونها تمارس العبث بموروثهم بالطريقة التي تمارسها بعض وسائل إعلامنا؟! مثلا هل سيجدون قناة أوروبية تنطق اسم مصر (مسر) بدلا عن إيجبت بحجة أن أهل مصر يلفظونها كذلك؟ وهل سنجد أيضا قناة أوروبية تنطق اسم العاصمة الاقتصادية المغربية الدار البيضا بذلك الاسم بدلا عن اسمها الذي يعرفونها به (كازابلانكا) لمجرد أن المغاربة ينطقونها كذلك؟ طبعا ذلك لا يمكن أن يحدث، وإن حدث ستثور ثائرة المجتمع ونخبه المثقفة والمجامع اللغوية وستهب للمطالبة لوقف مثل تلك المهازل، ولديهم كل الحق في ذلك. وهو ما يجعلنا نطالب بمثل تلك الهبة لدى أبناء أمتنا العربية لوقف ذلك العبث بموروثهم الذي تم تعريبه على مر الأزمان، وعدم السماح لهولاء العابثون بإعادة تعجيمة من جديد في ظل حجج واهية، ولا نريد أن نقول (متآمرة) على ذلك الموروث. فبكين يجب أن تنطق كذلك وليس (بيجين)، ومثلها بومباي وليس (مومبي)، والبندقية وليس (فينسيا)، ومثلها كل المسميات المشابهة مثل اسم دولة ساحل العاج الافريقية الذي يجب أن يبقى في وسائل إعلامنا بصيغته العربية تلك التي توارثناها عبر مئات السنين، ولا يجوز أن نلفظه بصيغته الفرنسية (كوت فوار) كما تفعل وسائل إعلامنا. وقس على ذلك بقية الأسماء. ذلك أننا إذا لم يكن لنا موقف من هذا العبث المستهتر بموروث الأمة سنجد أن هذه (الموضة) ستتسع، ولن نستبعد أن نجد من يطالبنا بعد ذلك بأن نقول (جرمانيا) بدلا من ألمانيا، وأن نقول (إنجلند) بدلا من انجلترا، و (تشاينا) بدلا من الصين، و (إنديا) بدلا من الهند.... الخ. بل وقد نجد من يدعونا لأن نغير نطق المدن الإسبانية التي توارثناها من تاريخنا العربي الأندلسي، بحجة أن الإسبان ينطقونها كذلك، وبالتالي علينا أن نقول (كوردوبة) بدلا من قرطبة، و (جرنادا) بدلا من غرناطة، و (فلدوليد) بدلا من بلد الوليد.. وهلم جرا. أخيرا هذه صيحة أضعها أمام مثقفي أمة العرب من المحيط إلى الخليج وعلى رأسهم العلماء في مجامعنا اللغوية ليتداركوا جزءا مهما من تراث أمتهم الخالد، وذلك قبل أن يتسع القطع على الراقع ونندم حينما لا ينفع الندم، ولنا فيما تفعله بقية الأمم قدوة ومثال يمكن أن يحتذى. فتراث الأمة ليس ملكا لأولئك الطائشون وحدهم لنترك لهم مهمة العبث به، فسكوتنا على فعلهم سيجعل من أجيالنا القادمة تعيش في غربة مع موروثها، وهو ما سيقودهم إلى انفصام يعيشونه، فكل مشاكلنا تبدأ بخطوات تبدو صغيرة من قبل أناس لا يقدرون نتائج أفعالهم، لكن سكوتنا عليها يحولها إلى كوارث صارت تتوالى على وطننا العربي دون انقطاع.. فهل من مجيب؟!