تأخذ المفاهيم والمصطلحات حيزاً كبيراً في صراع الأمة مع الآخر اليهودي الغربي، وقد بات ما يُعرف باسم "معركة المفاهيم والمصطلحات" يشكل جزءً مهماً من معركة الآخر معنا، الذي باتت أهدافه وغاياته ضد وطننا واضحة المعالم. ومن تلك المصطلحات الخطيرة مصطلح (العلمانية)، وتلك الترجمة الخاطئة لأصل الكلمة الإنجليزية (سيكولاريتي Secularity) أو سيكولاريت (Secularite) بالفرنسية، التي يتداولها الكتاب والعامة منذ عقود طويلة! وقد يتصور أو يتوقع البعض أنني سوف أتناول الموضوع بحكم العنوان: "الظروف التاريخية لنشأة العلمانية في الغرب"، بنفس الطريقة التقليدية التي تحدث بها الكتاب والمفكرين عن تاريخ وأسباب نشوء العلمانية في الغرب، ولكني سأعرض الموضوع من خلال رؤية وقراءة جديدة لتاريخ الغرب، وإن كانت تلك الرؤية تتفق في كثير أو قليل في مضمونها مع الآخرين، إلا أنها تختلف إلى حد ما في منهجية طرحها وسياقها العام. تعريف العلمانية العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها كلمة عربية مشتقة من العلم، ولو كانت كذلك فإنها مرحب بها من وجهة النظر الإسلامية لاهتمام الإسلام بالعلم والعلماء، ولكن حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لخداع المسلمين فإن الأمر يصبح خطير، إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى، وإنما تكون ترجمة عربية خاطئة للفظ أجنبي له مدلوله الخاص، كما هي كثير من الألفاظ الأجنبية التي تم ترجمتها خطأ! فالعلمانية هي ترجمة خاطئة للكلمة الإنجليزية (سيكولاريتي Secularity)، أو سيكولاريت (Secularite) بالفرنسية. والترجمة الصحيحة للكلمة في اللغة الإنجليزية هي: لا ديني، أو غير عقيدي، أي (اللادينية) أو (الدنيوية)، لا ما يقابل (الأخروية) بل بمعنى ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد. ما يعني أن العلمانية كلمة لا صلة لها بلفظ "العلم" ومشتقاته على الإطلاق. فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة(Scientism) والنسبة إلى العلم هي(Scientific) في الإنجليزية أو (Scientifique) في الفرنسية. ولمزيد من التوضيح سنعرض لبعض معاني كلمة (سيكولاريتي Secularity) في اللغة الإنجليزية، التي توردها المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة: * يُعرف معجم ويبستر الشهير: العلمانية: بأنها "رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها"، ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: "بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تُحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين". * وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (Secularim): "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها". فقد كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا لصالح الآخرة، ولمقاومة تلك الرغبة سعت اللادينية لتنمية النزعة الإنسانية، وقد بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة. وظل الاتجاه إلى ال (Secularism) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة (للمسيحية). * وفي قاموس "العالم الجديد" لو بستر، شرحاً للمادة نفسها ذكر لها عدة معانٍ: 1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك. وعلى الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات(Practices) يرفض أي شكل من أشكال العبادة. 2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة. * ويقول معجم أكسفورد شرحاً لكلمة ( Secular): 1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحياً: مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. 2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية. * ويقول "المعجم الدولي الثالث الجديد" مادة: (Secularism): "اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعاداً مقصوداً، فهي تعنى مثلاً "السياسة اللادينية البحتة في الحكومة". "وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخُلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين. إذن فالمفهوم الشائع عندنا بأن (العلمانية) مشتقة من العلم، وتعني (فصل الدين عن الدولة)، أو (فصل الدين عن العلم)، هو في الحقيقة فهم خاطئ لا يعطى المدلول الكامل لمعنى العلمانية، ولو قيل أنها (فصل الدين عن الحياة) لكان أصوب، والمدلول الصحيح للعلمانية "إقامة الحياة على غير الدين" سواء بالنسبة للأمة أو للفرد. هذا الشكل من أشكال العلاقة بين الدين والحكم والحياة في الغرب، العلمانية أو اللادينية، هل هو شكل جديد لم يعرفه الغرب إلا بعد عصر النهضة فقط، أم أنه له سوابق في التاريخ الغربي؟! ذلك ما سنحاول التعرف عليه في العنوان التالي: