بعد مرور ما يقارب العشر سنوات على الحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاؤها على تنظيم القاعدة؛ ورغم كل الضربات الأمنية والعسكرية التي تعرض لها؛ إلا أن حضوره ونشاطه وتصاعد عملياته صار حالة بارزة تستوجب النظر. فقد قام هذا التنظيم بتنفيذ الكثير من العمليات النوعية في آسيا، وأفريقيا، وأوربا، بل وفي قلب الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها وللمرة الثانية بعد أحداث سبتمبر. وبالنظر إلى الوطن العربي، يُلاحَظ أن فروع التنظيم وخلاياه موجودة في كل من المشرق العربي، ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، فضلا عن بلاد المغرب. هذه المعطيات تفرض على الباحثين والمراقبين، كما تفرض على السياسيين وصناع القرار، إعادة قراءة القاعدة مجددا، في محاولة للإجابة على الأسئلة الآتية: ما التطورات التي طرأت على القاعدة فكرا وتنظيما؟ وهل نحن هنا إزاء "قاعدة واحدة" أم "قواعد" مختلفة الأهداف، متباينة السلوك بحسب السياقات التي تشتغل ضمنها؟ ما هي العوامل التي ساعدت على اتساع رقعة انتشار هذا التنظيم ووصوله إلى قرب منابع النفط في شبه الجزيرة العربية، ومنافذ الملاحة الرئيسة في القرن الأفريقي؟ هل للقاعدة إستراتيجية محددة وواضحة المعالم نشهد تجلياتها حاليا في أكثر من موقع من العالم، أم أن ما نراه هو مجرد ردات فعل وفورات غضب، ولا يوجد خيط ناظم يجمع هذه الشظايا المتناثرة؟ هل القوى الكبرى واللاعبين الإقليميين "جادين" فعلا في استئصال ظاهرة القاعدة أم أن من مصلحتهم "استثمار وجودها والتحَكّم في حجمها وخطورتها" لتحقيق مصالحهم الإستراتيجية؟ ما تداعيات كل ما يحدث حاليا وما هو متوقع حدوثه مستقبلا على الدول والمجتمعات التي يتواجد فيها هذا التنظيم، وما الطريقة المثلى للتعامل معه سياسيا وأمنيا؟ ما مستقبل تنظيم القاعدة في المنطقة، وهل يتجه إلى التقدم على حساب التيارات الإسلامية السلمية مستفيدا من أزمة المشاركة السياسية واستفحال التدخلات الخارجية؟ هذه الأسئلة وغيرها هي موضوع هذا الملف الذي يحاول من خلاله مركز الجزيرة للدراسات تقديم رؤية أكثر عمقا لظاهرة القاعدة والتنبوء بمساراتها ومآلاتها، وذلك من خلال مجموعة من الدراسات المحكمة التي أعدها نخبة من الباحثين المتخصصين في الحركات والجماعات الإسلامية. وتتوزع دراسات الملف الذي بين أيدينا على عدة محاور، تتناول الأسس الفكرية والرؤى الإستراتيجية لهذا التنظيم من خلال القراءة المتأنية لبعض نصوصه، بعيدا عن الأحكام والمواقف المسبقة. كما تستعرض التغيرات التي أحدثها تنظيم القاعدة في الخطاب السلفي، وتأثير المراجعات الفكرية التي أعلنتها بعض الجماعات "الجهادية" على تنيظم القاعدة فكرا وسلوكا. وتعالج تلك المحاور أيضا الأسباب التي يتغذى منها تنظيم القاعدة والتي عملت -رغم الضربات الأمنية والعسكرية- على استمراره وبقائه. وتحاول تصنيف هذه الأسباب إلى مجموعات وإعطاء كل مجموعة منها أوزانا في معادلة الاستمرارية والبقاء. وتسلط الضوء على منطقتين تعتبران من المحطات المهمة في مسيرة تنظيم القاعدة، الأولى في العراق والثانية في بلاد المغرب، فتخص كل منهما ب "دراسة حالة" ، تتحدث بالتفصيل عن العوامل المتحكمة في موجات المد والجذر لهذا التنظيم في هاتين المنطقتين. وتنتقل المحاور إلى البحث في الآليات والوسائل التي يعتمدها تنظيم القاعدة وبخاصة في نشر أفكاره واستقطاب عناصره، فتخص "سلاح" الإعلام لدى القاعدة بشيء من التفصيل والتحليل. ثم تنتقل للحديث عن "مدى" خطورة القاعدة، فتحاول "إعادة تقييم" هذه الخطورة بعيدا عن طريقتي التهويل أو التهوين اللتين قد يلجأ إليهما البعض لأسباب خاصة. وتُختتم المحاور بالحديث عن مستقبل تنظيم القاعدة على المديين المتوسط والبعيد وفق المعطيات القطرية والإقليمية والدولية القائمة حاليا أو المتوقعة مستقبلا. المحاور كتاب "إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة" يكتسب كتاب "إدارة التوحش" أهمية خاصة لأسباب ثلاثة: فهو أولاً، اجتهاد ديني يضاف إلى الاجتهادات المتنوعة التي جاءت بها الحركات الجهادية الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة. وهو ثانياً، اجتهاد واضح وصريح، لا يداري ولا يأخذ بالأحكام "الوسطية"، بل يقرر قولاً قاطعاً وحقائق نهائية، وينبذ المواقف المغايرة لوجهة نظره نبذاً كاملاً. أما السبب الثالث، الذي يؤكد أهمية هذا الكتاب، فهو جمع المؤلف (أبو بكر ناجي) بين التصورات الدينية والأفكار "الثورية"، إن صح التعبير، ذلك أنه يقدم في مجال العمل السياسي والإستراتيجية العسكرية تصورات عملية، يمكن أن تأخذ بها القوى الإسلامية وغير الإسلامية. كتاب "الجهاد والاجتهاد.. تأملات في المنهج" تتأكد أهمية دراسة هذا الكتاب من ذلك الاهتمام المتزايد بظاهرة الحركات الجهادية السلفية عقب أحداث 11 سبتمبر، ولكون الكتاب يحوي المضامين الأساسية لفكر عمر بن محمود المعروف ب "أبو قتادة الفلسطيني"، أحد أبرز الرموز الفكرية لجماعات الجهاد السلفية، إلا أن الإضافة النوعية لهذا الكتاب تتأتى من المهارات التنظيرية للكاتب، وقدرته على بلورة تأصيل شرعي للفكر الجهادي والعمل العسكري، وهذا ما يجعله على درجة كبيرة من الإقناع والتأثير. ومن ناحية ثانية، تبرز خطورة هذا الكتاب في توجيهه للقوى القتالية السلفية بالتركيز على الحكم بردة الأنظمة والحكومات الإسلامية والشروع المباشر بقتالها خلافا لأفكار الشيخ عبد الله عزام وأنصار جهاد "العدو البعيد". التحولات التي أحدثها تنظيم القاعدة في الخطاب السلفي طرح الخطاب السلفي الجديد فكراً سياسياً مختلفاً عن الخطاب السلفي التقليدي؛ فعمل هذا الخطاب على سد الخلل والنقص الذي لازم السلفية التقليدية، ومارس العمل الجماعي والحركي والسياسي والجهادي الذي أهملته الرؤية السلفية التقليدية وحاربته على مدى عقود طويلة. ويعتقد أن هناك الكثير من الأسباب والمؤثرات الإقليمية والدولية التي ساهمت في تحول الخطاب السلفي على المستوى النظري والعملي سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وسوف نقوم بتتبع أبرز المعالم الفكرية التي تميز حركات الإسلام السياسي عموماً، وحركات العنف الإسلامي ومنها "السلفية الجهادية" على وجه الخصوص. المراجعات وأثرها على البنية الفكرية والتنظيمية للقاعدة تستمد القاعدة تنظيراتها من النصوصية السلفية الجهادية، وخاصة تأسيسات ابن تيمية، الاسم الأكثر حضورا وتكرارا فيها، وكذلك من بعض تأويلاتها الفكرية والإستراتيجية التي يكتبها قادتها المباشرون والميدانيون في كثير من الأحيان، وهي الأكثر التصاقا بالتنظيم وحالته. وبهذا تتحدد درجة وأهمية كل مراجعة نظرية أو تأسيسية تتم في فضاء السلفية الجهادية بعموم، وماتوجه منها بالخصوص بالنقد لإستراتيجية القاعدة وتكتيكاتها، سواء أكانت مراجعات كلية ومباشرة أم مراجعات جزئية لبعض من لم يفاصلوا التنظيم، ويطرحون مراجعاتهم في شكل مناصحة وليست مفاصلة. تنظيم القاعدة.. أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء إن الأزمات البنيوية في العالم العربي والإسلامي، وسياسات إسرائيل والولاياتالمتحدة والغرب، فضلا عن الجهاد العالمي الذي تبناه تنظيم القاعدة، وبنيته الشبكية، وإستراتيجياته الحركية بما في ذلك الاستفادة المكثفة من ثورة المعلومات والاتصالات، هي عوامل رئيسية تفسر استمرارية التنظيم وانتشاره جغرافيًا مقارنة بعديد من التنظيمات الأخرى التي حصرت أهدافها في مواجهة النظم الحاكمة في بلدانها، وانتهى بها الأمر إما إلى الاندثار أمام شدة الضربات الأمنية التي تلقتها، أو القيام بمراجعات والتخلي عن نهج العنف كما حدث بالنسبة لتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر. تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي تروم هذه الدراسة البحث في دلالات الانتشار الجغرافي لتنظيم القاعدة، من خلال التركيز على منطقة المغرب العربي وذلك عبر طرح سؤال مركزي: هل يمتلك تنظيم القاعدة إستراتيجية واضحة يعمل من خلالها على توسيع انتشاره والتمدد جغرافيا في أماكن نائية, أم أن الأمر يرتبط بظروف موضوعية تدفع بعض التنظيمات المسلحة العاملة في مناطق محددة إلى البحث عن الالتحاق بتنظيم القاعدة تبعا لسياقات معينة؟ إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال تقتضي معالجة الانتشار الجغرافي لتنظيم القاعدة من زاويتين: زاوية محددات الانتشار أولا، وماهية هذا الانتشار ثانيا. تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين برغم تركيز القاعدة في العراق منذ دخولها هذا البلد على ثوابت الفكر السلفي الجهادي الرافض للعملية السياسية والمعادي إلى حد التكفير لمعظم رموزها، فإن التنظيم أثر وتأثر بمحطات تلك العملية. فبرغم نجاح التنظيم في إحداث خسائر كبيرة بالقوات الأميركية وحلفائها وبالقوات العراقية فإنه لم يستطع إيقاف عجلة الانتخابات والمشاركة السياسية. وعلى هذا، فإذا أنتجت العملية السياسية في العراق حكومة ممثلة، وقادت إلى إتمام عملية مصالحة وطنية حقيقية يطمئن فيها السنة على وجودهم وتمثيلهم ضمن عراق واحد، فمن المستبعد أن تستعيد القاعدة السيطرة على معاقلها السابقة في مناطقهم. أما إذا لم يحدث ذلك، فستعتمد قوة القاعدة على مدى ضعف الوجود الحكومي، والفوضى الإدارية والسياسية والأمنية. تنظيم القاعدة و"الجهاد" الإلكتروني يبدو أن الجاذبية التي يتمتع بها تنظيم القاعدة في تجنيد أعضاء ومناصرين لا تقتصر على الطبيعة الأيديولوجية والخطاب الديني المعولم للتنظيم فحسب، بل تتجاوز تلك الجاذبية المنظومة الأيديولوجية والخطابية؛ وذلك بالاعتماد على وسائل وتقنيات حديثة في إيصال رسالته الجهادية النظرية، وتحقيق إستراتيجياته العملية؛ فقد أظهرت القاعدة قدرة فائقة على التكيف والتطور مع التحديات والمتغيرات المختلفة، وتمكنت من ابتكار وابتداع طرائق فريدة للحفاظ على وجودها وتطوير قدراتها الواقعية والافتراضية على الرغم من كثافة الملاحقة الدولية التي تقودها الولاياتالمتحدة وحلفائها في إطار سياسات ما يسمى "الحرب على الإرهاب". تنظيم القاعدة.. خطر مضخم هنالك من يرى أنّ الضخ الإعلامي الهائل والتقارير الأمنية الغربية عن القاعدة وعملياتها بمثابة تهويل ومبالغة وصناعة للرعب من "وَهْمٍ" اسمه القاعدة. ومع أنه ليس من السهولة بناء تقييم علمي محكم لحدود قوة القاعدة وقدراتها، وذلك لعدم وجود مؤشرات رقمية يمكن الاتفاق عليها بشأن حدود تعريف القوة أو الخطورة. إلا أن هنالك مؤشرات عامة تساعدنا بدرجة غير دقيقة تماماً على رسم صورة تقريبية لقوة القاعدة وخطورتها، ومدى توافرها على قدرات تتناسب مع الأهداف الكبرى المعلنة لها. وفي هذا المقال، سنحاول الاقتراب من تحولات مفهوم القوة لدى القاعدة، والإجابة على سؤال مركزي: فيما إذا كانت خطورتها تزداد أم تقل؟ أولاً، ثم مناقشة فيما إذا كانت التقارير الأمنية والإعلامية، تحديداً الغربية، تهوّن أم تهوّل في حديثها عن القاعدة. القاعدة.. تنظيم لا مستقبل له ما تجادل به هذه الورقة أن القاعدة خسرت المعركة بالفعل، وأن الحرب ضد ما تبقى من القاعدة، أو المجموعات المرتبطة بها، يجب أن تقتصر على الوسائل الأمنية التي تتبعها أجهزة الشرطة عادة ضد المجموعات الإجرامية المسلحة، وتؤكد الورقة على أن الهزيمة النهائية للقاعدة والقضاء المبرم على الخطر الذي تمثله، يتطلب تعاون الشعوب الإسلامية، فهذه الشعوب هي وحدها الكفيلة بنجاح المواجهة مع القاعدة. ولكي تصبح الشعوب الإسلامية أكثر استعداداً لتحمل أعباء هذا الدور لابد أن تستشعر وجود مصلحة حقيقية وملموسة لها في خوض هذه المواجهة. وهذا لن يحدث بدون مراجعة جادة للسياسات الغربية تجاه القضايا الرئيسة للشعوب الإسلامية. خاتمة يمكن القول في ختام هذا الملف أنه إذا كانت الدراسات التي حواها تشير إلى أن قوة تنظيم القاعدة على المديين القريب والمتوسط سوف تزداد، وانتشاره الجغرافي سوف يتسع، وأن الحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها ضده قد فشلت في تحجيمه أو القضاء عليه، فإن الوقت قد حان لإعادة النظر في إستراتيجيات الصراع والمواجهة بأكملها التي انتهجتها القوى الدولية والكثير من دول المنطقة في التعامل مع هذا التنظيم، وكذا العمل على وضع إستراتيجيات بديلة عن تلك التي تأسست على المنطلقات والخيارات الأمنية الصرفة. ومن البدهي القول إن هذه الإستراتيجيات البديلة يمكن أن تواجه الفشل نفسه إذا لم تبن على معالجة الأسباب الجوهرية التي أدت لوجود وتمدد هذا التنظيم وأشباهه من الجماعات العنفية، وتبني سياسات تهدف إلى القضاء على العوامل التي يتغذى منها هذا الجسم، وتغيير البيئة التي ينمو وينتشر فيها.