كتب/علي محسن حميد بقلب مكلوم أكتب عن البروفسور فرد هاليدي الذي انتقل إلى رحمة الله في برشلونة بعد صراع ثان مع مرض السرطان في 26 ابريل الماضي عن عمر ناهز الأربعة والستين عاما. كان هاليدي أستاذ العلاقات الدولية في كلية الاقتصاد بلندن ومن الخبراء القلائل في شئون العالمين العربي والإسلامي وفي صدارتهما اليمن وإيران وله من المؤلفات مايزيد عن العشرين بعضها لم ينشر بعد. البروفسور هاليدي كان من مناصري القضايا العربية وتطلعات العرب لتحقيق الاستقلال والديمقراطية والحكم الرشيد. وإذا كان العرب ممتنين له فإن اليمنيين مدينون له أكثر من غيرهم لأنه كتب عنهم بلغة وهوى مختلفين في وقت لم يكن يعرف عن اليمن إلا القليل وناصر حقهم المشروع في النهوض والتخلص من قيود التخلف والجمود وإنهاء التشطير. اشتهر البروفسور هاليدي بكتابه "الجزيرة العربية بدون سلاطين" الذي صدر عام 1974 وترجمه الدكتور محمد الرميحي بعد سنوات تحت عنوان آخر هو: المجتمع والسياسة في الجزيرة العربية. ولم يكن هذا الكتاب مهما فقط لأبناء المنطقة وحدهم وهم الذين يعيبون على كثير من التحليلات والاستنتاجات الأكاديمية الغربية عدم موضوعيتها وتحيزهاضدهم. كان كتابه مفتاحا لغير العرب الذين يقرأون الشئون العربية عن مصادر بعضها يتعالى ويشوه أو يتعاطى معها بثقافة السائح أو المنحاز لأجندة معادية للعرب بقناعة مسبقة تسفه قيمهم وتسطحها وتقلل من قدرهم. كان البروفسور هاليدي منحازا بطبيعة ثقافته الإيديولوجية لقضايا دول العالم الثالث ونضالها ضد الظلم والاستبداد الداخلي، وضد الإمبريالية واستغلالها ونهبها لمواردها وحرمانها من الحق في التنمية والتطورالمستقل. وكان هاليدي من المثقفين الملتزمين القلائل في الغرب الذين قرنوا الفعل بالقول. لقد حارب مع الجبهة الشعبية لتحرير عمان وعاش في جبال ظفار فترة من الزمن وهو يعي أنه كان يحارب هناك ضد مصالح استراتيجية واقتصادية غاية في الأهمية لبلاده بريطانيا ومع ذلك لم يكن يراعي سوى مايؤمن به من مبادئ. وأيد التغيير الذي حدث في اثيوبيا وأنهى نظام العصور الوسطى الإمبراطوري. ووقف في وجه من أنكروا على الشعب الأفغاني ولوج القرن العشرين والتخلص من نظام بدائي متخلف وإقطاعي وظف الدين والقبيلة والعرقية لإدامة الاستغلال والهيمنة والفقر و أيد الانتقال هناك إلى نظام اشتراكي انتهى على يد تحالف دولي وإقليمي ومحلي لم يسبق له مثيل استكثر على شعب افغانستان الانتقال إلى نظام سياسي جديد. وقضية افغانستان تشبه إلى حد كبير وضع اليمن بعد عام 1962. وهذا الكلام أقوله لبعض اليمنيين ممن أعمتهم رؤى ضيقة عن النظر إلى الحقيقة كما هي وخدموا مصالح قوى كبرى وصغرى ويتحملون أمام الله ماحل بالشعب الأفغاني من خراب وبؤس. ولقد كانت النتيجة هي نكبة للشعب الأفغاني لاتزال فصولها وتفاعلاتها مستمرة ولم تتوقف عند حدود افغانستان بل وصلت إلينا وإلى اوروبا وامريكا، و لانزال نحصد بعض مازرعه البعض منا. وللأسف فإن هؤلاء لم يتعظوا ولايزالون برغم بلوغهم سن الشيخوخة فإنهم لم يتوبوا ولم يطلبوا المغفرة من الله ومن شعب افغانستان ولايزالون يزرعون في الطريق نفس الشوك ونفس الألغام باسم الدين كما فعلوا في افغانستان. عاش فرد هاليدي فترة من الوقت في اليمن الجنوبية وفي اثيوبيا ليتعلم وليؤكد انحيازه لقوى جديدة عصفت بأم الأنظمة الاستعمارية وبحكم السلاطين الذين استلهم من سقوطهم في اليمن الجنوبية عنوان كتابه السالف الذكر. وهذا الكتاب الذي مر على إصداره 36 عاما لم يفقد قيمته لأنه كتاب أكاديمي رصين وليس منشورا سياسيا إيديولوجيا للتحريض. وليس أدل على استمرار أهميته من أنه كان موضوع نقاش في الكويت بعد ربع قرن على صدوره. وقد تحدث عنه المرحوم هاليدي بقوله إن " تاريخ الجزيرة العربية ليس فقط تاريخ القوى الخارجية كالبرتغاليين والبريطانيين والأمريكيين والسوفيت وليس تاريخ الشيوخ والملوك فقط بل هناك الحركات الشعبية كالحركة الدستورية منذ الثلاثينات في البحرينوالكويت وبعد الحرب العالمية الثانية في اليمن ضد الإمام والحركات النقابية في البحرين وبداية الحركة الوطنية السعودية وفي الستينيات بداية الثورة في اليمن الشمالي والحرب الأهلية وفي اليمن الجنوبي ثم في عمان".وكتب فرد هاليدي كتابا عن اليمن بعنوان الثورة والسياسة الخارجية في اليمن الجنوبية 1962 – 1987. وفي هذا الكتاب سجل تعبا ومللا جنوبيا لم يعبر عنه الجنوبيون بصورة مباشرة من طول فترة التفاوض حول الوحدة ورغبة في ترحيل الوحدة لظروف مستقبلية ملائمة ولجيل آخر. واهتم هاليدي بالجالية اليمنية في بريطانيا وألف كتابا عنها بعنوان "العرب في المنفى : الجالية اليمنية في بريطانيا"، أثنى فيه على دورها الاقتصادي ونوه بإسهامها في الدفاع عن أمن ومصالح بريطانيا أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية و في محاضرة له قال إن أسماء بعض اليمنيين الذين قتلوا في تلك الحربين محفورة على النصب التذكاري لمدينة ليفربول إحدى المدن الساحلية التي استقبلت اليمنيين واستقروا فيها في وقت مبكر من القرن الماضي. لقد كانت معلومات هاليدي الغزيرة وعلاقاته الشخصية باليمنيين من أسباب كتابته أطروحته للدكتوراة عام 1985 عن اليمن الجنوبية. وكان هاليدي يتحدث باعتزاز عن اليمن واليمنيين ولم يكن يترك فرصة إلا وتحدث فيها عن هذا الوطن الذي أحبه. وكان يشير إلى اليمن كواحد من ا لكيانات القديمة التي عرفت "الدولة" في وقت مبكر وكان هاليدي يضع الدولة والحضارة في اليمن على قدم المساواة مع دول و حضارات أخرى كالعراق ومصر والصين وفارس عاشت في مساحات جغرافية أوسع ومعروفة في العالم أكثر. وبعد 11/9 صدر له كتاب (ساعتان هزت العالم). وفي عام 2005 صدر له كتاب آخر هو (100 أسطورة حول الشرق الأوسط) فند فيه الصورة النمطية للعرب وللمسلمين وللإسلام في الغرب ودحض بعضها وأوضح حقيقة اللبس في بعضها الآخر. ومن هذه الأساطير اكتفي بذكر واحدة منها. تقول الأسطورة: إن اليمن كانت لمصر أشبه بفيتنام لأمريكا أو أشبه بافغانستان للسوفيت، وهذا غير صحيح لأن الجمهورية في اليمن بقيت ولأن الهدف السياسي لمصر انتصر. وفي الإعلام البريطاني والدولي كان هاليدي يوضح للرأي العام حقائق تغيب عنه كالهدف الرئيسي من غزو العراق أو حق الشعب الفلسطيني في التخلص من الاحتلال الإسرائيلي. وفي المجتمع الأكاديمي كان عدد من يحضورون محاضراته لايقارن بغيره برغم أسمائهم الكبيرة في المجالين الأكاديمي والإعلامي وهيبة المكان. وكان يشد إليه الحضور بضرب امثال عربية وفارسية وهما لغتان من إحدى عشر لغة كان يجيد بعضها إجادة تامة. وبهذه المناسبة الحزينة أود أن يطلع القارئ على جهد البروفسور هاليدي في 4 يناير من عام 2004 من الإعلامي البريطاني كيلروي- سيلك الذي كتب مقالا في صحيفة صندي اكسبرس بعنوان "لسنا مدينين لهم بشيئ" قلل فيه من شأن العرب وإسهامهم الحضاري وطلب منهم شكر الغرب الذي اكتشف لهم البترول ومما جاء فيه " بعيدا عن النفط الذي اكتشفه وينتجه ويدفع ثمنه الغرب، ماهو إسهامهم؟ هل تستطيع التفكير بأي شيئ؟ أي شيئ مفيد حقا، أي شيئ نريده ولانستطيع العيش بدونه؟ لا. ولا أستطيع أنا. ماذا يظنون أننا نعتقده نحوهم ؟ هل نعبدهم لقتلهم 3000 مدني في 11 سبتمبر ورقصهم في الصحراء الرملية الحارة احتفالا بهذا القتل ؟ أو نعجب بهم لأنهم أصبحوا انتحاريين وقاطعي اطراف ومضطهدين للنساء".هذا المقال العنصري استفز الكثيرين ونال رضا الذين على شاكلته لسوء مقصده السياسي والقيمي وقد كتب كثير من البريطانيين تعليقات ومقالات ضد المقال وصاحبه. أما البروفسور فرد هاليدي فقد وجه في 11 يناير رسالة مكونة من 13 صفحة إلى مدير البي بي سي كانت واحدة من العوامل التي أقنعت الإدرة بفصل كيلروي- سيلك من عمله كمقدم برنامج صباحي مشهور في البي بي سي 1 بعد تسوية مالية سرية. رحم الله البروفسور فرد هاليدي الذي سيخسره العرب والمسلمون، ليس في بريطانيا وحدها بل في كل مكان تنشر أو تترجم فيها كتبه لقد كان من أساتذة الجامعة والمثقفين القلائل في الغرب الذين كونوا رأيا وموقفا مستقلا عن العرب بعيدا عن آراء بعض المستشرقين أو مزوري التاريخ أو المتاجرين بالكلمة والموقف. كان هاليدي يفهم جيدا من نحن وماذا نريد وماهي طبيعة معاناتنا المزمنة مع الغرب وشروط الخروج من أزمتنا معه. وكان على قناعة تامة بأن العرب والمسلمين لايشكلون تهديدا للغرب ولا لحضارته ولا لمصالحه وكان يستهجن من يتحدث عن خرافة المواجهة بين الإسلام والغرب ويعرف من يقف وراء إذكاء هذه الخرافة وتسييسها وهذا ماتوخاه في كتابه "الإسلام وخرافة المواجهة". أما موقف هاليدي من القضية الفلسطينية فيكفي القول إنه سار في شبابه في شوارع لندن تأييدا لها ولقد سمعت من السيد عبدالملك إيجل -وهو مسلم بريطاني انتقل إلى رحمة الله في نوفمبر من عام 2008- أن البرفسورهاليدي كان أول من فتح عينيه على القضية الفلسطينية.