يحكى أنه في مدينة هندية قديمة قرر ملك من ملوكها ويدعى (شهريار) الزواج كل ليلة بفتاة عذراء، وفي صباح اليوم التالي يتم قتلها بالسيف، وفي ليلة من تلك الليالي المرعبة دخلت العروس (شهرزاد) في موكب أشبه بالجنائزي منه بالفرائحي……… في الصباح الباكر كان السيّاف (مسرور) في انتظار الإذن وتنفيذ الأمر المعتاد لكن شيئًا من ذلك لم يحدث فقد قرر الملك تأجيل نفاذ القرار المعتاد دون أن يحدد الأسباب ………. كانت شهرزاد تحكي في كل ليلة حكاية جديدة للملك، ولا تسكت عن الكلام المباح إلا بعد أن تلوح بشائر الصباح ليتجدد الموعد في ليلة جديدة تحكي ما تبقى من الليلة السابقة ثم تترك في كل ليلة بقايا ينتظرها الملك بشغف، وهكذا إلى أن يئس مسرور عن الحضور. فهل انتصرت الحكاية على الموت؟، أو هل تغلبت الفكرة السليمة على التصرف الوحشي؟ أو هل هو دهاء النساء وكيدهن العظيم.؟ ومهما كانت الإجابات فإن شهرزاد وحكاياتها كانت ترمز في تلك الليالي المخيفة إلى انتصار إرادة الحياة، أو ربما كانت حكاياتها هي الحياة ذاتها. وسار الركبان بحكايات شهرزاد، ووصلت في رحلتها المفتوحة إلى مدينة المكلا التي كانت هي الأخرى تبحث عن الفرح كي تعيش أو لعلها كانت تعيش من أجل أن تفرح، والثابت كما يقال: إنها مدينة تعلقت بالحياة وأرادت أن يحملها الأمل على كفوف الراحة إلى حلمها البعيد بلا زوابع لهذا شغفت بالحكاية حبا حد العشق، وفتحت الأبواب وهيأت كل السبل حتى يأتي (شهريارها) ليراودها بالحكاية عن نفسه في عصريات أيامها وفي مستهل لياليها. في منتصف أربعينيات القرن الماضي انتهت الحرب العالمية الثانية وتحرر الناس من أهوالها وكانت مدينة المكلا قد فرغت من دفن ضحايا هذه الحرب غير المباشرين، وعاد الصيادون إلى قواربهم التقليدية يبحثون في ساعات نهارهم عن مصدر رزقهم ،واستأنف الميناء حركته وانهمك الحمّالون بإنزال البضائع من السفن الشراعية والمراكب إلى سطح الميناء، ومنه إلى مستودعات التجار القريبة، وزدوت محلات البلح (التمر) المعجون بزيت السمسم (سليط المعصرة) العمال العضليين بالغذاء الصحي المناسب للجهود التي يبذلونها، وبينما الباعة المتجولون يجوبون شوارع المدينة الرئيسة بحثا عن الزبائن لشراء بضائعهم البسيطة كان الحدادون يتحالفون مع أفرانهم الصغيرة لتطويع قطع الحديد وتحويلها إلى مشغولات تنفع الناس. وهكذا عاشت المدينة نصف يومها وهي في حركة دؤوبة استحقت بعدها الراحة لساعة من نهار أو يزيد قبل أن تستعد وأهلها لصلاة العصر. وفي المدة بين صلاة الظهر إلى دخول وقت صلاة العشاء يكون المكلاويون في فسحة من أمرهم فبينما يفضل البعض منهم نوم القيلولة يفضل آخرون الجلوس على المقاهي الشعبية لاحتساء الشاهي والثرثرة أو الجلوس بالقرب من شاطئ البحر حيث الهواء العليل، وفي خضم هذا التنوع في حركة المكلاويين، ولتزجية الوقت حرصت (أمة) منهم على الجلوس بالقرب من الرواة المتطوعين بسرد قصص المتخيل الشعبي، ومغامرات أبطال التاريخ ،ويسمى الفرد منهم ب الراوي وهؤلاء يعرضون بضاعتهم شفاهة، وأحيانا بالاستعانة بالكتب الصفراء فيتحلق حولهم المريدون المتشوقون لمتابعة الحكايات وأسرارها، وربما كانوا في جلساتهم تلك التي يجلسونها يبحثون وهم البسطاء الكادحون عن ذواتهم فيها، وعن أمانيهم التي يرحلون ببعضها إلى فضاءات أحلامهم . وقد تقاسم (الحُكاةُ) ساعات فسحة المكلاويين وأوقات فراغهم فبينما يفضل البعض منهم سرد حكايته بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر أو بعد صلاة العصر إلى ساعة السحر تجد آخر يستحسن البوح بالحكاية بين العشاءين(المغرب والعشاء) وهناك من يستعين بالليل ويجد في ساعاته سبحا طويلا، وهذا التنوع الزمني جعل الحكاية في المكلا مستقرة، وجعل من المكلا حكاية مستمرة. ويعد الشيخ (عبد أحمد عبد الرزاق) الراوي الأكثر شهرة في حي البلاد بالمكلا وهو شخصية مكلاوية اجتماعية بامتياز. عمل بمهنة الحلاقة التي تعني وقتئذ تصفير شعر الرأس، ولامجال غير ذلك لأن العرف الشعبي كان يرى في تهذيب الرجل لشعر رأسه ضرباً من الزينة التي لا تجوز إلا للنساء، وعموما كانت حالة (شهريارنا) الاقتصادية ميسورة فكان يمتلك قوارب يؤجرها للصيادين، وهذا الوضع شبه المريح ساعده ليجد متسعاً من الوقت ليحكي حكاياته في مكان قريب من سوق الحدادين القديم خلف مسجد الروضة وغير بعيد عن مقبرة يعقوب وساحة الهاشمية. وتبدأ الحكايات عادة بعد زهاء ساعة من أداء صلاة الظهر عندما كانت العادة عند بعض الأسر المكلاوية تناول وجبة الغداء قبل صلاة الظهر، وعلى أية حال فإن توقيت جلوس الحكاؤون كان في الأصل يتغير ضمن إيقاع حركة المدينة وما يشوبها من تحولات. يتميز عبد أحمد بأسلوبه الأخاذ والسلس، مما مكّنه من شد مستمعيه إلى عوالم حكاياته وشخصياتها المتناقضة، وتصرفاتها المريبة، ومواقفها المثيرة لكنه يحرص – كشهرزاد – على الاحتفاظ دائما بنهاياته إلى يوم جديد، لتتابع بدايات الراوي عبد أحمد مع نهاياته، ويبقى المتحلقون حوله في انتظار مفاجآته المتجددة. ويتبدل وقت الحكاية عند الشيخ عبد أحمد مقارنة بغيره من (الرواة) لاعتبارات كثيرة لعل بعضها يتعلق بالطقس وسخونته، والرطوبة ودرجاتها العالية أو بدورة الليالي المقمرة. وعلى أية حال فإن عبد أحمد لم يكن بعيدا عن حياة المكلاويين ومناسباتهم فهو يمتلك صوتاً جميلاً لا يبخل به في حفلات الفرح الجماعي المكلاوي. كما اختط لنفسه عادة لايزال يتذكرها القاطنون بالقرب من (مسجد النور) شمال ساحة الهاشمية ففي كل ليلة جمعة من شهر رمضان وبعد صلاة القيام يناجي عبد أحمد ربه بأذكار يرددها بلحن شجي ومؤثر وبصوت يهز وجدان المستمعين فتتساقط دموع المؤمنين في الرجاء من الله أن يحقق المراد في تلك الليالي الروحانية من شهر رمضان المبارك. وهذا الحضور الاجتماعي للشيخ عبد أحمد ومساهمته في خلق ثقافة الحكاية عند المكلاويين كانت البوابة لأن يرشح للتمثيل في أول فيلم أنتج في الجزيرة العربية بإشراف السلطان صالح بن غالب القعيطي بعنوان عبث المشيب) ومن علاقته بالمسجد وشخصيته المقبولة اجتماعياً جاء الرجاء فيه بمعالجة بعض الأمراض بالقرآن الكريم وبخاصة آلام المطاحن، لكن مهما صال أو جال لابد أن يعود لجمهوره الشغوف بحكاياته وخفة روحه. ولمن لا يسعفه الحظ والوقت في متابعة حكايات عبد أحمد يجد في المدينة خيارات متعددة إذ ما عليه إلا أن يتجه إلى ما يعرف في المكلا بالسقيفة في حي (الحارة) المجاورة لحي البلاد، وتقع السقيفة إلى الجنوب من مسجد (باحليوه) وهي عبارة عن بناء كبير معكوف الشكل يشبه سواري المساجد. في أعلاه تتشابك البيوت المطلة على البحر وفي الأسفل متسع من الطريق للراغبين في ملامسة الشاطئ في هذا المكان المعانق لهدير الأمواج، وفي فترة ما بين العشاءين يجلس الشيخ (عبدالله باحيمد) يروي حكايات الأبطال ومغامرات العشاق ويستعين بالكتب التقليدية التي تروي صولات عنترة بن شداد، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، وقد احتلت حكايات عنترة مكان الصدارة في ليالي (الشهريار) باحيمد، وحقيقة الأمر فإن عشق المكلاويين لقصص عنترة العبسي لا تنتهي مهما كررها الرواة، ولأن عنترة يتعرض لأهوال جم، ومؤامرات عديدة يقع أحيانا في قبضة الأعداء وبينما الراوي باحيمد يصل إلى تلك اللحظات العصيبة في حياة عنترة يحين موعد صلاة العشاء ولأن الصلاة على المؤمنين كانت كتابا موقوتا يذهب السامرون إلى المسجد وفي نفسهم حسرة على عنترة ومصيره. لهذا تجدهم بعد الفراغ من الصلاة ورغم أن زمن الرواية (بين العشاءين) قد انتهى يلحّون على الحكّاء باحيمد لاستئناف الحكاية إلى أن يتحرر عنترة من قيود الأعداء، ويعود يجول بفرسه الصحارى والقفار باحثا عن معركة يهز فيها قلوب الرجال، ونصر يسترضي به قلب حبيبته وابنة عمة عبله ابنة مالك. أما المكلاويون وقد تشبعت أرواحهم بوهج البطولة، وبعد أن اطمأنوا على بطلهم الشعبي يعودون إلى بيوتهم حاملين في قلوبهم رايات النصر. وتتوسع مدينة المكلا ويظهر حي سكني جديد يسمى حي (برع السدة) ، أي خارج بوابة المدينة الرئيسة ويقع إلى الغرب من مسجد السلطان عمر بن عوض القعيطي، في هذا الحي الجديد شيدت أربعة مساجد هي: مسجد بصعر، ومسجد بن علوي، ومسجد المشهور، ومسجد بازرعة، وفي ركن يمكن أن نقول إنه متوسط بين هذه المساجد ظهر الحكّاء المكلاوي علي بن عبدالله بن طاهر الصيعري الكندي وتدل المكانة الاجتماعية لهذا الشهريار على ملمح من ملامح مدينة المكلا التي أخذت تتخلص تدريجيا من بعض المحاذير المتوارثة والشيخ علي بن طاهر معلم بناء لكنه رغم الجهد العضلي الذي يبذله في هذه المهنة فإنه كان حريصا على أن تزدهي عصريات المكلا بحكاية عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي ويتناص في ذلك مع زميله الشيخ عبدالله باحيمد في نوع الحكاية وفي الجمهور العاشق للبطولات والمغامرات ويختلف معه في زمان الحكاية ومكانها فبينما باحيمد يفترش الأرض مع أصحابه كان الراوي (بن طاهر) يجلس على كرسي أو فوق (دكة) ومن تحته يجلس المستمعون السعداء ، وعندما أخذت السنين منه ما أخذت واصل الحكاية جيل جديد من الشباب حرص على ان يستمر حي برع السدة يحكي الحكاية تلو الحكاية. ولم يستطع حي برع السدة الفكاك من هذه التسمية حتى بعد أن صار حيا أصيلا وداخل سدة المكلا الأخيرة المطلة على (العيقة) والمقابلة للحي الناهض (شرج باسالم) ورغم أن هذا الحي الجديد يقع خارج سدة المكلا ويستحق لقب برع السدة إلا أن التسمية القديمة علقت بصاحبها الأول. المهم اندمج سكان هذا الحي من الصيادين والحمالين وهم الأكثرية مع إيقاعات المدينة، وبالعدوى أو بأي شيء آخر أنجبت الشرج (شهرياراتها) وكما يقول عامة الناس : " محد أحسن من حد" وممن اشتهر من (رواة) هذا الحي هو الشيخ (صالح سالم باهرب)، وكما تقارب الشيخ بن طاهر مع الشيخ باحيمد في موضوع الحكاية وفي جذب المريدين تقارب الشيخ باهرب مع الشيخ عبد أحمد في أمور كثيرة، واختلفا في أمور فكلاهما كان له علاقة ما بالبحر والصيد، وكلاهما ترك لخياله العنان في سرد الحكاية، وكلاهما امتلك القدرة على جذب المريدين، واختلفا في زمان الرواية فالشيخ باهرب يحكي الحكايات بعد صلاة العصر إلى وقت صلاة المغرب. وبعد غياب الشيخ باهرب استمرت الحكاية في حي شرج باسالم بظهور الشيخ (سالم باكونه) الذي جاء في زمن بدأ ينحسر فيه عشق المكلاويين للحكاية بعد أن تعددت أمامهم البدائل، إلى أن صارت مدينة المكلا مصدراً للحكاية أو هي الحكاية ذاتها….