يحيى السادة - لم يسبق للشارع اليمني أن تهيأ للتغيير وللقبول بأية قيادة شريطة أن تكون وطنية وعلى درجة عالية من الكفاءة ومن النزاهة مثلما كان عليه خلال ثورة فبراير 2011م، ومثلما كان عليه خلال سنوات الإحباط التي تلت هذه الثورة. كانت الفرصة مهيأة وسانحة لأي حزب أو جماعة في أن تُحدث تحولاً ملموساً في هذا البلد إلى الأفضل لو أمتلك هذا او تلك رؤية وطنية مسنودة بالكفاءات وبالمؤهلات وبالقدرات وبطهارة اليد وسمو النفس، فضلاً عن القدرة على التحليق بعيداً عن النعرات المناطقية والمذهبية والسلالية. ثلث قرن من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح وما نجم عن هذه الفترة من تراجع في شتى المجالات كان من أبرزها التراجع المخيف في نمط معيشة المواطن اليومية وفي صحته وفي تعليمه في مقابل استئثار نسبة لا تذكر من المكون السكاني بكل ثروات البلد وبكل مقدراته، هذا الوضع المتردي كان مشجعاً لأية قوة سياسية ووطنية في أن تتقدم صفوف المعارضة لتغيير مثل هذا الواقع المرير ولأن تنال ثقة الشعب ومؤازرته في خلق واقع جديد. أحزاب المعارضة التي عزفت على وتر معاناة الشعب يوم أن خرج بقضه وقضيضه ليعلن رفضه لواقع التدهور الذي كرسه حكم صالح ومنظومة حكمه الفاسدة على امتداد ثلث قرن من الزمن، كان عزفها يعتريه الكثير من النشاز! إذ سرعان ما لاحظه الناس بعد إزاحة صالح من كرسي الحكم من خلال توجه تلك الأحزاب نحو كعكة الوطن، الأمر الذي اوقعها في نفس الشرك الذي وقع فيه صالح يوم أن زحفت الجموع القادمة من شمال الشمال نحو العاصمة وعملت على إسقاط حكومة باسندوة تحت ذريعة الجرعة ومحاربة الإرهاب والفساد. فرصة سانحة تهيأت للحركة الحوثية في أن تقدم نفسها للناس في عموم الوطن على أنها العنوان الثوري الذي يبحثون عنه طالما كانت تقف وراء الحشود الشعبية التي أحاطت بصنعاء طلباً في تحقيق المطالب الثلاثة أنفة الذكر، هذه الفرصة التي تعززت بالولوج إلى صنعاء في 21/9/2014م، والتي كان من أهم نتائجها استهداف هذه الحركة للجنرال علي محسن الأحمر وللشيخ الزنداني من خلال جامعة الإيمان وللشيخ القبلي حميد الأحمر. الانقضاض على دار الرئاسة وعلى سكن الرئيس ووضعه تحت الإقامة الجبرية ورئيس وزراءه وبعض من الوزراء في 19/1/2015م، كان بمثابة الطعم الذي قُدم لهذه الحركة؛ بُغية إيقاعها في الشرك الذي حال بينها وبين مشروعها الذي كاد أن يصل إلى مبتغاه لو لم تُقدْم هذه الحركة على هذا الإجراء المتهور وغير المدروس أو المبرر. ما زاد الطين بلة -كما يقال في المثل الشعبي- هو ظهور هذه الحركة في وضع المشلول والعاجز عن إدارة أجهزة الدولة جراء تفاجئها بالسلطة وجهاً لوجه قبل أن تعد نفسها لمثل هذه المهمة الصعبة من خلال إعداد كواد في شتى المجالات تسد الفراغ الذي نجم عن استقالة الرئيس واستقالة الحكومة، الأمر الذي افقد هذه الحركة توازنها وجعلها في حالة تخبط وإرباك ما بعده ارباك، سيما في ظل ما قدمته من بديل للسلطة التنفيذية في ما سُميت باللجنة الثورية التي فوجئ بها الشعب بأنها ليست العنوان الذي يبحث عنه كمخرج لمآسيه وعذاباته. هذا التخبط وهذا الإرباك الذي بلغ أعلى منسوب له حين وُضِعتْ هذه الحركة في مواجهة مسئولية هي أكبر من حجمها وأعقد من قدرات مناصريها هو من مهد للقوى المضادة للمشروع الحوثي وفي وقتٍ قياسي لا يحتمل التأخير في أن تستعيد زمام المبادرة من خلال الإفراج عن الرئيس هادي وتمكينه من الانتقال إلى مدينة عدن ومن خلال تعزيز مواقف القوى السياسية الرافضة للحوار في ظل لغة التهديد والوعيد ومن خلال رفع منسوب فاعلية الإعلام المعارض لهذه الحركة وتوجهاتها ثم من خلال تفعيل الشارع الذي لم يكن دافعه حزبي على الإطلاق بقدر ما كان الدافع له هو الخوف من المجهول في ظل حركة تستند في تمرير مشروعها على عامل القوة أكثر من استنادها على الحوار وأكثر من تقبلها لوسائل التعبير عن الرأي الذي اعتاد عليه الشارع اليمني منذ 11 فبراير 2011م وحتى خروجه مؤخراً لمناهضة هذه الحركة ورفض مشروعها المتكئ على القوة وعلى فرض الأمر الواقع. الانتكاسة التي مُنيت بها هذه الحركة حتى لو لم تُسلم قيادتها بهذا الامر كما هو الواضح من خطاب زعيمها الاخير ليلة الخميس الموافق 26/2/2015م سيترتب عليها تحليلات ودراسات وتشعبات في الطرح حول الاسباب التي سرّعت بهذه الانتكاسة. ما أراه من وجهة نظري وبغض النظر عن الأدوات التي استخدمتها هذه الحركة بُغية الوصول إلى السلطة أن هذه الحركة كانت قد قطعت شوطاً كبيراً في اتجاه السلطة وإحكام قبضتها على كثير من مفاصلها لولا افتقارها للمشروع المدني وللخطاب المطمئن وللكفاءات والكوادر المؤهلة لملئ الفراغ في اكثر من مفصل من مفاصل الدولة والتي كان من أهمها موقع الرئاسة وموقع رئاسة الوزراء، والوزارات التي أُفرِغت من الاختصاصات جراء الاستقالة المفاجئة والمبررة للرئيس وكذا الاستقالة الجماعية لحكومة "بحاح". مشكلة هذه الحركة إلى جانب افتقارها للكفاءات الإدارية والسياسية مردها التنسيق مع بعض القوى التي لها خصومة مع قطاع واسع من الشعب ومع أهم قيادات الأحزاب، هذا التنسيق الذي اقتصر على الجوانب العسكرية واللوجيستية التي تفي بالانتقام من هؤلاء الخصوم دون التركيز على ما بعد دخول العاصمة بدليل وقوع الحلفاء في مأزق يوم أن قدم الرئيس استقالته تجلى ذلك في حرص كلا المتحالفين على جني ثمار هذا التحالف بمفرده من خلال الجلوس على كرسي الحكم. هذا التدافع وهذا الاختلاف الذي كان وليد اللحظة غير المتوقعة هو من أفسد الحصاد، وهو من مكن الرئيس هادي من الإفلات من قبضة الحركة الحوثية والتراجع عن استقالته ومن ثم التربع على كرسي الحكم مرة أخرى المدعوم هذه المرة بإجماع شعبي وحزبي وبإسناد لا حدود له من المجتمع الدولي والإقليمي، فضلاً عن الموقع الذي تدار منه الدولة حالياً غير المهدد بالقبيلة وبأمزجة مراكز القوى التي اعتادت على أن تأخذ كل سفينة غصباً. ما أنصح به الحركة الحوثية وزعيمها الأخ عبدالملك الحوثي في ضوء ما أسفرت عنها تجربة هذه الحركة في محاولة الوصول إلى كرسي الحكم هو القبول بروح رياضية وبروح وطنية بالنتائج التي تمخضت عنها هذه التجربة والمتجسدة بعودة الرئيس هادي إلى كرسي الرئاسة... على هذا الزعيم وحركته أن يطرقا باباً أخر يؤدي بهما إلى كرسي السلطة دون آلام ودون أوجاع ودون أن تهرق قطرة دم واحدة أو تزهق أرواح سواء من الطرف الحوثي أو من الأطراف التي يفترض بها المواجهة. هذا الطريق الاخر هو طريق الديمقراطية الذي لا يتطلب غير التحشييد السلمي حول صناديق الاقتراع ومن ثم القبول بنتائج فرز هذه الصناديق. إذا ما أصرّ الزعيم الحوثي على مواصلة السير نحو السلطة من خلال طرق شائكة ووعرة مهما كلف حركته ومهما كلف الوطن وأبناءه من دماء فإن نصحي له هو أن يعمل أولاً على تأهيل جماعته تأهيلاً جيداً لتمكينها من إدارة الدولة فيما لو نجح في الوصول إلى السلطة تجنباً للإشكال السابق الذي وقع فيه وجماعته يوم أن وصلوا إلى طريق مسدود حينما كانوا قاب قوسين أو أدنى من كرسي الحكم ليفاجئوا ويفاجأ معهم من في الداخل وفي الخارج بحقيقة افتقارهم لمن يمسك بمقود السلطة في هذا البلد، الأمر الذي كان سيودي بالجميع أرضاً وإنساناً نحو اكثر من هاوية ونحو أكثر من مجهول لولا عناية الخالق عزّ وجل الذي غير الاحوال من حال إلى حال يوم أن ظهر الرئيس هادي في مكان آخر هو غير مكان إقامته الجبرية. [email protected]