تتفاوت وتتشابه الشعوب في عاداتها وتقاليدها واحتفائها بالمناسبات الاجتماعية،فهناك شعوب ورثت حضارة وعادات وتقاليد مازالت سائدة وعميقة في المجتمعات وبعضها أثر بعد عين ويكاد يكون المجتمع اليمني محتفظاً بالكثير من تلك الذخائر النفيسة من حضارة مازالت راسخة الجذور وقيم سامية متوارثة بين القبائل والعشائر وان اختلفت من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى بادية. وفي حضرموت هذا المخزون التاريخي نتبع رسماً من رسوم الزواج رسخت تقاليده في المجتمع واستمد طبيعته من العلاقات الاجتماعية التي تربط العوائل بعضها ببعض وقد شكلت رسوم الزواج مزيجاً من العادات بما منحه الدين الإسلامي السمح وأضحت مظهراً من مظاهر السلوك الاجتماعي. المدار«أو المهر» الرسم أو المهر أو الصداق معروف في العصر الجاهلي إذ عرفت قبيلة كندة بأنها أغلى مهوراً لنسائها ولربما يبلغ مهر الزوجة ألف بعير ولا يمهر بأقل من ذلك فصارت مهور كندة مثالاً في الغلاء وقد فرض الإسلام المهر على الرجال وجعله رسماً من رسوم الزواج وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوب التسامح بالزواج بعد أن يرتضي خلق الزوج أو دينه أن يمهر الزوج زوجته مهراً رمزياً «ولو خاتماً من حديد» وحين لم يجد الرجل أي مهر يمهر به زوجه أباح الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصدق أو يمهر هذا الرجل زوجه بما يحفظ من القرآن الكريم وكان كل ما يملكه الرجل هو علمه بآيات من القرآن يستطيع أن يقدمها لزوجه فيعلمها لها. وذكر الأخباريون أن مهر السيدة خديجة قبل البعثة كان عشرين بكرة أي «عشرين ناقة» وكان معدل صداق زوجات الرسول بعد البعثة مبلغ 500درهم إلا في حالات نادرة مثل أم حبيب وحالة صفية التي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مهرها عتقها. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تيسير متطلبات الزواج وعدم التعنت في طلبات تثقل كاهل الزوج ورويت عنه أقوال تبارك الزواج السمح الذي لا مغالاة فيه «أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» كما عد الزواج الذي يتم بمهور عالية بلا بركة. وقد سار على هذا التسامح جيل كبير من صحابة رسول الله ،وبالرغم من ذلك ذكر الأخباريون أيضاً غلاء المهور لبعض السيدات في المجتمع الإسلامي حيث عرفت السيدة عائلة بنت طلحة بغلاء مهرها ،فقد تزوجها مصعب بن الزبير على ألف دينار ثم تزوجها ابن عم لها وهو عمر بن عبد الله بن معمر التميمي بمهر مئة ألف دينار وكان مهر أم حكيم بنت يحيى حين تزوجها الوليد بن عبد الملك أربعين ألف دينار. ويذكر لنا التاريخ الكثير من سير المهور في عصور وحقب مختلفة وفي وقت ساد في حضرموت غلاء للمهور مما أثقل كاهل الزوج وتأخر عن الزواج الكثير من الشباب وتجاوزت أعمارهم الأربعين عاماً وبعضهم فاتهم قطار الزواج وقد عملت حكومات تحديد قيمة المهور لتجاوز هذه المحنة ولكنها ظلت شكلية حتى لا يعمل بها إلا في وثائق الدولة وأوراقها حيث حدد المهر بألفين وخمسمائة شلن وشيئاً فشيئاً توطدت بين الناس أعراف وأصبحوا يعلنون للخاطب للزواج بمقولة أن المهر سيكون مثل الناس نادراً ما تشترط أسرة في ذلك ويسري خبر دفع المهر في الكثير من النواحي حيث أصبح في الغالب الآن مائتي ألف ريال يمني وبعد الاتفاق على قبول الزوج يدعى لاحتفال عائلي كبير يحضره الزوج وأبوه وإخوانه وأخواله وأعمامه وأقرباؤه وجيرانه وكذا أهل الزوجة وأبوها وأعمامها وأخوالها ويكون موعد الحفل بعد صلاة المغرب من يوم خميس حيث يتوافد الناس لهذا المداد من كل مكان للمشاركة فيه وتقديم التهنئة المبكرة والاجتماع بالأنساب للأيام القادمة ويتم دفع المبلغ وتقديمه لأبي الزوجة في مخطف بعد الانتهاء من الحفل الذي يتخلله شرب القهوة والشاي وقراءة الفاتحة وبعض الأناشيد الدينية والمواعظ والاتفاق مع أسرة العريس بتحديد يوم الفرح أو العرس في اليوم والشهر والسنة. وقد عرفت أسر في محافظة حضرموت بتيسير أمر السداد أو المهر وقد أوصى بذلك أجدادهم كآل باقرون حيث أعدوا لأنفسهم عرفاً في الزواج لا يتجاوز منه أحد في تقديم المهر بقيمة ألفي ريال فقط ويعتبر من تجاوز هذا السداد خارجاً عن العرف والتقاليد السائدة فيما بينهم وهذا التقليد إرث ورثوه من أجدادهم الأولين ومازالت سائدة بينهم إلى يومنا هذا. وهناك أسر أخرى في حضرموت يتم بينهم عملية التزاوج بالبدل ولا يشترطوا في الدفع بل في تقديم ابنتهم بمظهر يليق بأسرتهم ويتكلف كل طرف بكل ما يلزم من ذهب وملابس وغيرها لوازم الزواج بدون دفع سداد أو مهر وهناك أخبار كثيرة عن السداد في المجتمعات عامة تتميز بها مجتمعات دون أخرى. ويسبق عملية الدفع الموافقة على الخاطب «الزوج» بعد أن تسأل الفتاة نفسها عن المتقدم لزواجها..وقد ورد في السؤال عن الفتاة أو المرأة المخطوبة بمرد ذلك إلى الأسرة والتشاور فيما بينها على من يرغبون زوجاً أو زوجة لأبنائهم ويذكر في سيرة الاقيشر الأسدي عن«الزواج» أن رجلاً من حضرموت خطب امرأة من بين أسد فأقبل يسأل عنها وعن حسبها ونسبها وأمهاتها اللواتي أرضعنها حتى جاء الاقيشر فسأله عنها فقال له:من أين أنت؟قال من حضرموت فأنشد يقول: حضرمرت فتشت أحسابنا وإلينا حضرموت تنتسب أخوة الكرم وهم أعمامنا ....الخ والاقيشر هنا لم يستسغ سؤال الحضرمي عن الفتاة الأسدية وساءه ذلك السؤال عن قومها الذين لهم أرفع منزلة من أن يسأل عنهم. وفي حالات كثيرة يروي لنا المؤرخون خطوبة الفتاة من نفسها فهناك أخبار عن ذلك أو خطبتها من ذويها وأولي أمرها والعرب قديماً وحديثاً لا يجدون حرجاً في عرض بناتهم للزواج إذا وجدوا رجلاً كفوءاً مقدراً لها،وقديماً قالوا في حضرموت «اشتر زوج لبنتك ولا تشتر لولدك» وهذا يدل على احترام وتقدير لمكانة المرأة ومراعاة كافة السبل لتحقق الرفاهية والسعادة لها حتى بشراء الزوج. وقد سجل التاريخ العربي الكثير من المآثر لحرية المرأة في الزوج واختيار شريك الحياة،فقد قيل أن خالد بن صفوان خطب امرأة من نفسها ويبدو أنه كان مفتخراً بحسبه ونسبه وشرفه وجاهه فخاطب المرأة وكأنه متأكد من موافقتها على الزواج منه قائلاً:إن الحرة إذا دنت مني أملتني وإذا تباعدت عني أعلتني ولا سبيل إلى درهمي وديناري ويأتي عني ساعة من الملل لو أن رأسي في يدي بندته. فقالت له المرأة المراد الزواج منها بعد أن عدد خصالها:قد فهمنا مقالتك ووعينا ما ذكرت وفيك بحمد الله خصال لا نرضاها إلا لبنات إبليس فانصرف رحمك الله. وهناك من النساء أو الفتيات من اشترطن شروطاً خاصة وطالبن بها الرجل المتقدم اليهن وفقد اشترطت السيدة سكينة بنت الحسين عليها السلام حين تقدم إليها زيد بن عمرو بن عثمان أن لا يعصي لها أمراً ولا يغير عليها ولا يمنعها شيئاً تريده ولا يمنع أحداً يدخل عليها «فوافق» واشترطت ابنة محمد بن عروة بن الزبير على طليقها الحكم بن يحيى بن عروة وكان قاضياً على المدينة أن تقبل به زوجاً على أن يكون عطاؤه لها ما شاءت وغلة أرض ويضع بناته إليها تزوجهن من شاءت ولا يغير عليها،فإن فعل فأمرها بيدها. وقد تخطب الفتاة من نفسها فترفض الموقف أو الظرف الذي فوتحت به فعمر بن أبي ربيعة خطب امرأة من ولد الأشعث حين رآها في الحج وتحدث معها فقالت:أما هاهنا فلا سبيل إلى ذلك ،ولكن ان قدمت إلى بلدي خاطباً تزوجتك وقد ذكر أن أمها كانت معها حين حدثها عمر وارتحل إليها وخطبها من أهلها فرفضته. وبلغ من حرية المرأة أن يتقدم لخطبتها أكثر من شخص في الوقت نفسه وكل له مكانته في مجتمعه فلا تجد حرجاً في إعلان تفضيلها لواحد منهم دون أن يجد الآخرون ضيراً أو إهانة..وإنما يفهمون الموقف ويقدروه على أنه حق من حقوق المرأة في حرية اختيارها لمن تريد الزواج منه. تروي لنا كتب التاريخ عن أن امرأة تقدم لخطبتها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورجل آخر فتزوجت الأخير وحدث أن التقت بعد مدة بالإمام علي وحادثته دون أن تجد حرجاً..هذا جزء بسيط ملئت به أمهات الكتب عن رسم واحد من رسوم الزواج الخاص بالسداد أو الصداق والمعروف محلياً بدفع المهر السائد والمتوارث من حضارة نستمد منها سلوكنا وعاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية. - كاتب صحفي وباحث من حضرموت، سكرتير تحرير صحيفة المسيلة "الجمهورية"