صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 37 ألفا و232 منذ 7 أكتوبر    لحج ..اختتام مخيم الصيفي لتحفيظ القرآن بمديرية طورالباحة    لإقامة المعسكر الخارجي.. بعثة منتخب الشباب تصل مدينة الطائف السعودية    اختتام دورة تقييم الأداء الوظيفي لمدراء الإدارات ورؤساء الاقسام في «كاك بنك»    القبض على رجل وضع "السحر" جانب الحرم المكي! "فيديو"    ضربات أمريكية جديدة في محافظة الحديدة    أبطال "مصر" جاهزون للتحدي في صالات "الرياض" الخضراء    حميد الأحمر يعلق على ''رفع الحصار عن مدينة تعز'' وفتح طريق الحوبان    أزمة المياه مدينة عتق يتحملها من اوصل مؤسسة المياه إلى الإفلاس وعدم صرف مرتبات الموظفين    التواطؤ الذي تأٓكل    تقرير ميداني عن الإنهيارات الصخرية الخطيرة في وادي دوعن بحضرموت    واشنطن:اعتقال المليشيا لموظفي الأمم المتحدة والمنظمات استخفاف صارخ بكرامة الشعب اليمني    سامر فضل :منتخبنا هو المرشح الأول.. ولكن    رحلة الحج القلبية    اختطاف إعلامي ومصور صحفي من قبل قوات الانتقالي في عدن بعد ضربه وتكسير كاميرته    سقوط طائرة مسيرة جنوبي اليمن (صور)    اللجنة الحكومية تعلن فتح طريق الكمب- جولة القصر المغلقة من قبل المليشيا منذ 9 سنوات    منتخب الناشئين في المجموعة التاسعة بجانب فيتنام وقرغيزستان وميانمار    انفجار في جولة القصر خلال فتح الطريق بتعز .. وسيارات الإسعاف تهرع للمكان    دراسة : تداعيات التصعيد الاقتصادي في اليمن والسيناريوهات المستقبلية    رأى الموت بعينيه.. مقتل مغترب يمني في أمريكا بطريقة مروعة .. وكاميرا المراقبة توثق المشهد    ''رماية ليلية'' في اتجاه اليمن    انهيار كارثي للريال اليمني .. الدولار يقترب من 2000 وهذا سعر صرف الريال السعودي    مالذي يريده "ياسين سعيد نعمان" بالضبط    في اليمن فقط .. مشرفين حوثيين يجهزون الغزلان لاضحية العيد    الكوليرا تجتاح محافظة حجة وخمس محافظات أخرى والمليشيا الحوثية تلتزم الصمت    ميسي يُعلن عن وجهته الأخيرة في مشواره الكروي    هل صيام يوم عرفة فرض؟ ومتى يكون مكروهًا؟    غضب شعبي في ذمار بعد منع الحوثيين حفلات التخرج!    هل الغباء قدر الجنوبيين؟    صلف الزيود وملاطيم تعز والحجرية!!    لا ابن الوزير ولا بن عديو أوجد دفاع مدني لمحافظة النفط والغاز شبوة    قاتلوا سوريا والعراق وليبيا... السلفيين يمتنعون عن قتال اسرائيل    "القول ما قالت عدن"..المتحدث باسم المجلس الانتقالي: عدن صامدة في وجه التلاعب الحوثي    سانشيز قد يعود لفريقه السابق    ريال مدريد يستعد لتقديم مبابي بحفل كبير    غريفيث: نصف سكان غزة يواجهون المجاعة والموت بحلول منتصف يوليو    وفاة مواطن بصاعقة رعدية بمديرية القبيطة بلحج    أعينوا الهنود الحمر في عتق.. أعينوهم بقوة.. يعينوكم بإخلاص    احتضنها على المسرح وقبّلها.. موقف محرج ل''عمرو دياب'' وفنانة شهيرة.. وليلى علوي تخرج عن صمتها (فيديو)    إصلاح صعدة يعزي رئيس تنفيذي الإصلاح بمحافظة عمران بوفاة والده    حكم صيام يوم الجمعة أو السبت منفردا إذا وافق يوم عرفة    اليونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    مستشار الرئيس الزُبيدي يكشف عن تحركات لانتشال عدن والجنوب من الأزمات المتراكمة    السمسرة والبيع لكل شيء في اليمن: 6 ألف جواز يمني ضائع؟؟    20 محافظة يمنية في مرمى الخطر و أطباء بلا حدود تطلق تحذيراتها    النائب حاشد يغادر مطار صنعاء الدولي    بكر غبش... !!!    مليشيات الحوثي تسيطر على أكبر شركتي تصنيع أدوية في اليمن    منظمة حقوقية: سيطرة المليشيا على شركات دوائية ابتزاز ونهب منظم وينذر بتداعيات كارثية    عن جيراننا الذين سبقوا كوريا الشمالية!!    إتلاف كميات هائلة من الأدوية الممنوعة والمهربة في محافظة المهرة    افتتاح جاليري صنعاء للفنون التشكيلية    وفاة واصابة 4 من عمال الترميم في قبة المهدي بصنعاء (الأسماء)    عالم آثار مصري شهير يطالب بإغلاق متحف إنجليزي    أحب الأيام الى الله    السيد القائد : النظام السعودي يتاجر بفريضة الحج    ما حد يبادل ابنه بجنّي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في قصيدة (أنشودة المطر) لبدر شاكر السياب
نشر في 14 أكتوبر يوم 25 - 04 - 2011


عيناك غَابتا نخيل ساعة السحر،
أو شرفَتان راح ينأَى عنهما القَمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأَضواء ...كالأَقمار في نهر
يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
كأنما تَنْبض في غوريهما، النجوم ...
وَتَغْرَقَان في ضباب من أَسى شفيف
كالبحر سرح اليدين فَوقَه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
كنشوة الطفل إذا خاف من القَمر !
كأن أَقواس السحاب تشرب الغيوم
وقَطرة فَقَطرة تذوب في المطَر ...
وكركر الأَطفال في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير علَى الشجر
أنشودة المطر ...
مطر ..
مطَر..
مطَر..
يقول أدونيس : (الشعر رؤية بفعل، والثورة فعل برؤية) ومن هنا فهو يوضح الجدل بين الشعر والثورة وما في الشعر من شوق إلى الحياة المتحركة المتصاعدة ،و ما في الثورة من نار الإلهام الشعري ،ومن هذا المنطلق تبرز أهمية بدر شاكر السياب كواحد من أبرز أعلام الحركة الشعرية المعاصرة بوجهها الثوري ،و هنا تنزل قصيدته (أنشودة المطر ) من مجموعته التي تضم أشهر قصائده، والتي ألفها في فترة كان وضع العراق متأزما على جميع الأصعدة، إثر استقالة رئيس الوزراء فاضل الجمالي وفشله في الإصلاحات الزراعية والاجتماعية وقد زاد شقاء الشعب حدته فيضان دجلة الذي هدد بغداد في ربيع 1954 م، وآلم السياب أن يرى مثل هذا الشقاء في بلاده وتذكر أيام ضياعه وتشرده في الكويت وفقره وهو بعيد عن العراق، فاضطرم الحنين في أعماقه إلى ربوع بلاده وإذا بقصيدة تتولد عن قريحته، تختلف عن قصائده هي أنشودة المطر، نشرها في مجلة الآداب يونيو 1954م ونشرت سنة 1960م ضمن المجموعة، جاء في مقدمتها كلمة للسياب يقول فيها :(إنها من وحي أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي ) .
إن أنشودة المطر، تندرج ضمن النصوص التي تنتمي إلى الحقل الوجداني، وفيها عمق المعاني الوطنية بربطه بين الحبيبة والوطن، كما صورت تداعيات السياب المستوحاة من ذاكرة الحب والطفولة ومن ذكريات الغربة والنضال .
بنيت قصيدة أنشودة المطر على مجموعة من الحركات المتداخلة، ينبني هيكلها الخارجي على تسع مقطوعات، وينبني هيكلها الداخلي على ثلاث علاقات : علاقة الشاعر بالحبيبة ثم علاقة الشاعر بالأم ،و أخيرا علاقة الشاعر بالوطن، وتدور القصيدة حول محور واضح تدور حوله كل المعاني، وهو كلمة مطر عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة في نسيج النص، يربط بين الحبيبة التي يخصبها المطر وبين الأم التي استحالت إلى عنصر من عناصر الطبيعة وبين الوطن العراق الذي تحوله إلى خصوبة .
إن كلمة مطر منبع حركة مسترسلة تنبض منها المعاني وتنمو ومنها ينسج الشاعر أحاسيسه ويتواصل في الزمان .
و كلمة مطر طاقة صوتية توزعت توزيعا متنوعا وبأشكال مختلفة، بصورة مثلثة الإيقاع تردد ست مرات كلازمة كبرى، وبصورة ثنائية تردد مرتين كلازمة متوسطة تردد خمسا وثلاثين مرة وبصورة مفردة الإيقاع تردد ثلاث عشرة مرة كلازمة صغرى .
فالشاعر أحدث تنويعات على كلمة مطر وقد أضفى هذا الترديد على القصيدة جواً طقوسياً أو قداسياً يوحي بابتهالات الشاعر في حضرة أنثى، وهنا تكشف كلمة مطر دلالتها الرمزية، أبرزه النقاد وربطوه بتموز وبعشتار رمز الخصب عند الكلدانيين، ونلاحظ ارتفاع الشاعر بدلالة الماء لم يبق في مفهومه الضيق كعنصر من عناصر الطبيعة بل جعله عبارة ذات طاقة سحرية تعطي دفقها الشعري في القصيدة .
و بدخول كلمة مطر في شبكة من العلاقات مع بقية المفردات اكتسبت إمكانات متعددة من الدلالات تتضافر جميعاً لتوحي بمفهوم الثورة، كما جاءت هذه الكلمة على لسان الأطفال وعلى لسان الصياد وعلى لسان المهاجرين وفي صوت الرحى وعلى لسان الشاعر وفي ترجيع الصدى، والمطر فعل تغيير في الطبيعة وفي النفس.
تنفتح القصيدة بمطلع غزلي يحدد فيه الشاعر عنصر الزمن، وقت السحر، زمن فاصل بين الموت والحياة بين الظلام والنور، زمن التردد بين منزلتين الأمل واليأس، حالة من القلق والتوتر.
موضوع الغزل في هذه القصيدة عينا الحبيبة حشد فيهما الشاعر الطبيعة بزمانها وبمكانها بأشجارها وبعمرانها، بليلها وبنهارها، خرج فيهما عن صورة العينين التقليدية إلى صورة أكثر طرافة تلتحم فيها الحبيبة بالطبيعة، وبهذا يعلن المطلع عن طابع القصيدة الوجداني، وتبدأ الحركة بالعينين فتنشأ ساكنة سكونا كليا ساعة الميلاد، ثم تتصاعد حركتها باتجاه العناصر الطبيعية فتشهد تحولات كثيرة ( تورق الكروم . ترقص الأضواء. تنبض النجوم ) ويأتي الخطاب الشعري دفقا من المعاني، وحشداً من الصور تتنامى شيئاً فشيئاً، وتتولد صورة العينين : غابتا نخيل ساعة السحر، صورة رومانسية توحي بالهدوء والسكينة، والصورة الثانية لشرفتين ينأى عنهما القمر، صورة توحي بحركة الفعل تنأى وبمفهوم البعد في القصائد التقليدية ولكن التعبير عنه جاء بأسلوب جديد اعتمد على الإيحاء .
و صورة ثالثة، تجلت في ابتسام العينين، ربطها الشاعر بحركة الطبيعة، وكأن الحياة مصدرها عينا الحبيبة، كما يوحي فعل ابتسم بالسعادة التي تتحقق بفضل حركة العينين، هذه الصور حسية بصرية تساهم الحركة تدريجيا في تشكيلها ونحتها.
و عناصر الطبيعة تتجمع في العين على أساس اعتبار العين محل البصر ووسيلة الرؤية والنفاذ إلى عناصر الوجود .
و عناصر الطبيعة تخص العراق، غابات نخيل فتتطلع الرؤية نحو الوطن الحبيب .
و ينطلق الخطاب في القسم الأول من القصيدة في اتجاه أول ،من الشاعر إلى الحبيبة، يصور فيه أثر الضباب في نفسه، معبراً عن حزنه بالبكاء، ويعود بنا فعل ( تستفيق) إلى ذاكرة الشاعر، يصوغها في شكل ومضات واقعية تمتزج بالمسار الغنائي الإنشادي، وتسمه بنبرة واقعية، وتجعله يكشف عن المتناقضات .
و نتساءل عن المعنى الذي حمله الشاعر لإنشاد الأطفال للمطر ؟ وللإجابة نكتفي بالإشارة إلى أننا نستطيع أن نأخذ كلمتي الأطفال والعصافير في معناهما الحقيقي وتظل الوحدة مع ذلك موحية نتيجة الصورة التي ترسمها وما تخلفه من أبعاد تخييلية لكن الرمز يسحب على الكلمتين فتوحي الأولى بتجدد الحياة، وطفولة العالم البريء، وتدل الثانية على الحرية والانطلاق، ومن هنا يتمكن الشاعر من استدراج السامع ويحمله في رحلة ذهنية ،داخل عالم الدلالات المتنوعة .
و نحن أمام هذا التركيب الإنشادي، كأننا بالشاعر يقص علينا أنشودة الأناشيد، رابطا بين همومه والعالم الخارجي وينغلق القسم الأول باللازمة جعلها الشاعر على لسان الأطفال، لأنه ربط بين واقعه وماضيه وأسس التقابلية بين حاضره المليء بالقلق والحزن، وطفولته السعيدة مؤكدا حنينه إلى الماضي، كما نلاحظ جملة من التداعيات بين الشاعر وذاته، فيقع المزج بينه وطفولته وقدسية المطر .
أما القسم الثاني في القصيدة ،يتغير فيه عنصر الزمن : ( تثاءب المساء )، زمن يؤدي به الشاعر معنى الحزن ويتدرج بنا عن طريق التداعي، فيصلنا صوت الشاعر من أعماق الذكرى المنبثقة من طبقة الوعي السفلي، وتحتل تداعيات الشاعر المنبثقة من ذاكرة الطفولة حيزاً مهما في سلسلة التداعيات وتصدر عنها أغلب الومضات الواقعية النابعة من الماضي، ويتقابل القسم الثاني مع القسم الأول، فالطفولة فيه تنشد الفرح، وفي الثاني يتكثف معنى الحزن عن طريق ذكرى الموت، كما أن الذاكرة لا تبني أحداثاً منسقة في الزمان حسب مسار منطقي، إنما تصدر من مخزون الألم والحرمان .
و في هذا القسم ربط الشاعر بين الجو الممطر الموحي بالكآبة وبين كآبة الطفل اليتيم وعمق حزنه بسؤاله، وهنا يضمن الشاعر الخطاب الشعري مضموناً قصصياً: قصة يتمه واصطدامه بالموت، كما صور الشاعر معاملة الكبار للصغار في قضية الموت فهم لا يصرحون بها ولو همساً، ويضمن الشاعر قصة الصياد الحزين الذي يلعن المياه والمطر ليضيف مأساة جديدة دون أن يصرح بها فنفهم أن المطر تحول إلى مصدر شقاء بعد أن كان مصدر سعادة ويتدرج الشاعر في رسم علامات الحزن في الوجود، فيبدؤها بحزن الطفولة المصدومة بالموت ويربطها بحزن الصياد الشقي وبحزنه، فتبدو معاناته المكثفة، وتبرز صورة المطر المتناقضة ويتوجه الشاعر إلى كل الذوات ويصبح الخطاب مرثية تكسبه لغة المراثي لونا قاتماً (دموع، لحود، تنشج، المزاريب ) .
و يستعيد الشاعر في هذا القسم طيف الحبيبة، يبوح لها بحزنه بسبب المطر، ويستعيد جملة من الأحداث كان فيها غريبا بعيدا عن وطنه، يصوغها في شكل ذكريات وفي نفس تفجعي ويتحول الخليج إلى رمز يجسد فيه الشاعر معنى الغربة والضياع ويساهم الصدى في تعميق غربته صدى يرجعه الخليج كالنشيج ويضاعف الاستفهام حزنه، ويأتي خطاب الشاعر مترجرجا مثل الدموع يؤديه كاف التشبيه :(كالدم المراق، كالجياع، كالحب، كالأطفال كالموتى) ضرب من الاختناق أو ما يشبه الاحتضار .
في القسم الثالث يتحول السياب من ذاكرة الغريب اللاجئ إلى ذاكرة المناضل المقموع في العراق، ويوظف كلمة العراق توظيفا سياسياً واضحاً ويتدرج في تعرية واقع وطنه ويحمل مدلول المطر معنى الثورة على القهر الاجتماعي والسياسي، ويربط بين المطر وبين جوع الفقراء الدائم ويتفاءل بالثورة التي تهب الحياة لكل الناس .
و هنا يصور المأساة الجماعية من خلال نشيد المهاجرين، نلمس عمق الفاجعة، فالجوع دائم رغم خصوبة الأرض والرحى لا تطحن حبا بل تطحن الحجر ،و التمر الرديء وفي دورانها تدعو إلى الثورة وتظهر مرة أخرى ثنائية الحياة والموت وتتحول تجربة الشاعر من بعدها الذاتي إلى بعد إنساني أعمق، لتعانق جرح الإنسان في كل زمان وفي كل مكان ويصبح الخطاب الشعري احتجاجاً على لسان المضطهدين للتعبير عن تطلعاتهم ولتحقيق حياة فضلى وبلوغ إنسانيتهم كما لعبت الأصوات دوراً هائلاً في التعبير عن الثورة، إذ خلقت جوا حماسيا مكثفا أداه صوت الرحى ونداء الشاعر وأصوات المهاجرين، وزاد الشاعر هذا الواقع إيقاعا دراميا بتضمينه قصة الغريق المجسدة لمأساة الإنسان وصراعه مع الطبيعة .
قصيدة أنشودة المطر ،جاءت في شكل ابتهال، مزج فيها الشاعر بين الغنائية الحالمة وبين الواقعية الحادة، وجاء فيها الرمز على جملة من الثنائيات منها : الحياة والموت - الذات والموضوع - الجفاف والخصب - الظلام والنور - الحزن والفرح . ويبرز صوت الشاعر مبتهلا في حضرة عشتار آلهة الخصب والعطاء، ربة الطبيعة والحياة المتجددة، التي تستمد صفاتها من عناصر الطبيعة . كما لعب الرمز دور الرابط الأساسي لجميع العلاقات، فتبنى الحركة من الأنثى رمز الطبيعة إلى الأم ومن الأم إلى العراق إلى الخليج، إلى المطر، حلقة دائرية تمثل دورة الحياة .
و نهض الرمز بوظيفة أخرى مهمة في كسر خط الغنائية الرومانسية الحالمة وخلق حركة انفعالية توحي بنغم تفجعي يبرز عمق المفارقات المتجذرة في عمق الوجود المجسدة للصراع الإنساني في جل مظاهره .
إن الرمز في قصيدة أنشودة المطر، كسر هندسة القصيدة التقليدية، وجعل بنيتها تجمع بين الشعر والغناء والقصة والخطاب الباطني وتستقطب موضوعات متعددة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي وتنفصل عما يسمى في النقد بالغرض وتجعل الحياة بكل مفارقاتها غرضها الرئيسي .
و نلاحظ حركة التداعيات التي تصلنا عبر صوت الشاعر الذي يحملنا من الحاضر إلى الماضي ثم يربط الحاضر بالمستقبل، ثم يتحرك صوته من الغور إلى السطح ومن الذات إلى الواقع الخارجي وتفصح ذاكرة الشاعر عن مخزونها في شكل ومضات واضحة، تنبثق من ذاكرة الطفل ومن ذاكرة الغريب اللاجئ ومن ذاكرة المناضل المقموع، وهذه التداعيات بمثابة الأساس الذي تتكئ عليه القصيدة وقد ظهرت في شكل صور تتوالد فصار النص تراكما من الصور، أولها صور تنبني على التشبيه وهي طريقة تحصر الصورة في مجرد وظيفة الوصف أما الصور التي بناها الشاعر على الطباق فقد استطاعت أن تبرز المفارقة الكامنة في عمق الحياة .
و يبدو التناغم بين الصورة والموسيقى الداخلية، فنلاحظ كثرة الأصوات المتضمنة لحرف الشين، المؤدية لوشوشة صوت المطر، وبعض الصور أداها الشاعر بأسلوب الجناس والطباق والوسائل البلاغية القديمة وبهذا التلوين من التصوير، تخرج قصيدة أنشودة المطر عن التصنيف الكلاسيكي إذ الصورة فيها وحدة بنائية محورية توحي بالأفكار وتلح عليها، وارتكز إيقاع القصيدة الداخلي على أسلوب التعاود وهو أهم عواملها فقد تكررت كلمة : مطر : 35 مرة وكلمة خليج : 7 مرات، وكلمة الردى :5 مرات وكلمة العراق : 5 مرات . وتكرار جملة ( ياواهب ... ) و( في كل قطرة مطر) وتكرار اللازمتين الأولى تختص بالمدى والثانية تتعلق بالمطر وعموما فإن طابع العبارة يغلب عليها طابع الماء : (نهر .مجداف .يغرق . بحر .سحاب . غيوم .مطر . قطرة خليج .. الخ ).
إن ما يمكن الإشارة إليه أن إثراء القصيدة بالبناء القصصي الدرامي بلغ أقصاه في أنشودة المطر، وقد ألغت رومانسية الماضي بشكل غير واضح ورسمت الخطوط الكبرى للقصيدة العربية المعاصرة مجسدة قلق البحث والتجديد في أفق مستقبلها .
و لعلنا نتساءل عن توظيف بدر شاكر السياب للأسطورة في هذه القصيدة، وللإجابة لابد من الإشارة إلى أن قصائده السابقة لم تكن الأسطورة فيها دائما قادرة على الالتحام العضوي لما جاء فيها من ثقل في التوظيف ولما كانت الألغاز فيها واردة لتضليل الرقابة، ولكنه في قصيدة (أنشودة المطر)، أو ديوانه المسمى بها ابتكر فيها رمزاً خاصاً به هو (المطر)، جعله يلف النص ويتغلغل في جسده، له شحنة دلالية ثرية وهو العمود الذي انطلاقاً منه تتفرع القصيدة في اتجاهين، اتجاه أسطوري واتجاه واقعي .
كما نسجل كيف تناول السياب موضوع الخصب في الطبيعة فقد وثب به وثبة عبقرية وحمل المطر رمز الثورة الاجتماعية التي يريد أن تتفجر في العراق ،و كيف جسد بإيقاع صوت المطر صورة درامية في المفارقات بين الخير
و الشر والمجاعة والاخضرار، لقد جعل السياب كلمة مطر رمزاً أفرغ فيه معاناته ورؤياه .
إن الأبعاد الأسطورية في القصيدة أهم مفاتيح فضاء المعنى والإلمام بأسطورة الخصب الأساسية، أسطورة أدونيس وعشتروت، فضاء دلالي تتجدد منه دورة الحياة، وتنبع منه جل العلاقات : علاقة الابن بأمه - علاقة الأنثى بالطبيعة- علاقة الفصول بالموت والميلاد -علاقة الصياد بالماء -علاقة الغريق باللؤلؤ- علاقة الماء بالماء في دورته - علاقة الذكر بالأنثى علاقة الوطن بالأرض الأم عشتروت - علاقة الشاعر بالمجتمع - إن الأسطورة عالم لخلق فضاء الصورة والبنية الأسطورية عمارة تشكل عروق الواقع وأنسجته .
و أنشودة المطر رمز الأمل والانتصار على القمع والبوار، والأسطورة فيها عالم لخلق فضاء الصورة وبنيتها عمارة تشكل عروق الواقع وأنسجته وجمع حقلها الدلالي تجربة السياب السياسية والاجتماعية والذاتية والرؤية الشعرية التحديثية ورغم ما فيها من أصداء شعر أليوت ومن أساطير الخصب البابلية والكنعانية بشكل عام تبقى إنجازا باهرا من إنجازات الشعر العربي في الخمسينيات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.