لربما كانت الصدفة وحدها هي التي منحتني بطاقة العبور إلى ألق الشاعر اليمني هاني الصلوي فالنص المشترك الذي تعاور نسجه مع الشاعر السعودي عبد المحسن يوسف بعنوان (النساء) كان المفتاح الذي أشرع أمامي الأبواب لولوج عالمه الشعري الآسر .. وتمثلت تجربته الشعرية حتى الآن في إصدارين على ما يبدو ؛ هما : (على ضفة في خيال المغني) و (ليال بعد خولة) لم يتح لي الاطلاع عليهما وإنما من خلال قصائده المنشورة هنا وهناك استطعت أن أكون فكرة جيدة عنه كشاعر من طراز فريد. ولعله قد لفت أنظار النقاد منذ الوهلة الأولى إلا أنه ولأسباب غير معروفة لم يفز بجائزة الرئيس للآداب والفنون فرع الشعر 2004/2003وأثبتها في سيرته الذاتة كنقطة تستحق التسجيل مع أنني أجزم بأن الشاعر كان جديراً بالفوز إلا أن القصيدة العمودية ربما شكلت سلطة ما في سبيل إقصاء التجارب الأخرى..أقول ربما، ولوكنت حكما لجعلت جائزة الشعر بين شاعرين هما أحمد المعرسي و هاني الصلوي مناصفة ولقبلت ترشيحهما في كل عام حتى يأتي من يبتزهما!!..مع التأكيد على وجود أسماء جديدة تحلق بأناقة وجمال في سماء الإبداع الشعري اليمني، ولكنني متعصب لهذين الاسمين فقاتل الله التعصب الذي يغيب معه الإنصاف والعدل!!. ولنعد لما نحن بصدده..فكافة نصوص الشاعر هاني الصلوي جديرة بالتناول دون استثناء.. ولابد أن تعثر فيها على ما يشدك ويغريك بالغوص خلالها، ولكن مهلاً ..فالصلوي لا يكتب النص بسهولة وانثيال سلس، بل يذهب للتنقيب عنه عبر عملية يصفها بالتعدين، إنه الحفر في الصخر، وليس الاغتراف من البحر، وإذا كان كذلك فقراءة نصوصه تحتاج لمشقة مساوية تماما لمشقة التعدين؛ التي تلزمنا للحصول عليه بعد أن يتحول بين أنامل الصائغ إلى قطعة فنية ..وهذا ما يجعله يتربع بقوة على ذروة النص الجديد بين جيل الشباب من الشعراء ليس على المستوى القطري وإنما العربي.. وهنا وقع اختياري على نص له بعنوان "تباريح درب يحتضر" وهو من النصوص الطويلة التي استوعبت سبعة مقاطع كتبت بطريقة الأسطر الكاملة تتصدرها المقدمة التالية : (إن أبعد البعداءِ من كان بعيداً في محل قربه) (أبو حيان التوحيدي) (1)من أين تنبع سورة الريحان، والأشجانِ، تنبجس النهاية غادر الخلان مملكتي، أجتباني الماء، ذبت بقارعات التوقِ، أرسلت المجامر بردها ونحيبها، لحن الهدير البكر، صلَت في محاريب التمني ألف مشكاة، ومشكاة، من الأرق/ الحنين ، ومن ترانيم الهيامِ المستحيل. (2)قد كنت أزرع بالدموع وبالبروق مساءنا الولهان، أنزح كالربى صوب الرفاق، صباحنا كان العناق فشدني القربُ/ البعاد إلى رحابك ليتني ما جئت هل ليت تفيد المدنفين، ومن أطاح بشأنهم رجع الذهاب، وأحجيات السلسبيل. (3)قد كنت ألهج بالثناء على الزمان وكيفما اتفق الزمانُ/تفرقت سحب الشتاء، إليك يممت الربيع.. وتهت .. عاودني الشقاء تكسر الموال ، أيقظني الصليل. (4)يا أنت أحلف بالضياع ال....صار/ بالحلمات أسقتني السراب، ونمنمت ُُسبلي، البقاءُ مفازةٌُ خضراء توغل في دمي المذبوحِ، ترشقني بلوعتها .. لكم أودى بك التذكار يا جرحي سماء الحلم غائمةٌُ وهذا الشطُ مرسوم بأوجاعِ النخيل. (5)يا أنت دون ما تبقى من (صباح الخير) لم يبق سواي، القلب خاتله الرجاء، تناثرت شهبُ الحقيقة، هدني الترحال، مزقني النداء.. غرابتي خطّت منابعها اليمامةُ، هذه أسماؤنا ارتعشت.. أيا الله خاصمني الزمان فهل إلى لحن البداية من سبيل؟ (6)الله لو شع الزمان وأبرق الحلم المهاجر/ في دمي نهران من وجع المليحة، صوت قنديل من الألق المعطر بالصدود أسائل الوله المتيم يا رياح من الرماح تناوشت صبري، استباحت مهجة المسكين قيثاري.. لمن تشكو الجهات.. وقد تملاّنا المصير.. أموت يا أروى؟ فيخنقها العويل.الله لو آب الهديلُ، شعائر الإلهام دائخة بباب الوقت حتام نعلَل وجدنا بالفجر ، والفجر المرقش أشعل الأسفار فانداح اللّظى وطناً من السهر المقفى بين جفنينا.. لمن تشكو الجهات وقد تخطّفَنا لسان الماء، هل من سورةٍ شقراءَ تأخذنا غريبين كما كنا؟ حبيبين ومازلنا، هي الأيام تسقينا مناسكها ونسقيها مآقينا، لمن أشكو الأصيل؟ (7)حتامَ توغل سورة الريحان والأشجان، تجرفنا النهاية، سلنا الموال/أقصتنا المدينة دونما ماء قدمنا كيف يا قمري نعود ولا نعود، تغرب التاريخ، بادرنا العناق سأبذر الدرب البراءة أسلك الشوق الرخيم إلى الهلاك، وتسلكين صبابة صهباء، هل من آخر؟ شط السهاد بمبسمي الدرب مفقوء الوصال وسيرتي العنقاء مبدؤها الوصول، سأسلك الشوق الرخيم ولهفتي الله.... يا الله ألهمني السبيل)) . ولأن النص نموذجي فسننظر له أولا من حيث الشكل، لنجد أن كل مقطع من مقاطع النص قد انتهى بقافية واحدة هي اللام بغض النظر عن اختلاف الحركة الإعرابية إذ نفترض فيها التسكين للوقف.. وقد جاءت تباعا في : (المستحيل)، (السلسبيل)، (الصليل)، ( النخيل)، (سبيل)، (الأصيل)، (السبيل)..فإذن يكون هذا التناص مع الصورة الكلاسيكية للقافية .. يأتي بعده الشكل الهندسي للنص الذي يستوعب هذه التجربة الشعرية بحيث ظهر لنا هنا في شكل هندسي لا فراغي كحالة من حالات التناص الشكلي أيضاً الذي أجده قد أومأ إليه في المقدمة بعبارة لأبي حيان التوحيدي ..وهذا الشكل المتمرد على كتابة النص الشعري ظهر في تجارب لشعراء الحداثة ومنهم على سبيل المثال رفعت سلام. ثم تأتي قضية الوحدة العضوية للنص، وبتأمل دقيق لا نلبث أن نكتشف فيه تناص مع القصيدة العربية القديمة..ألا وهي المعلقات ففي المقطع رقم واحد مثلاً نجده يقول : (غادر الخلانُ مملكتي، أجتباني الماء، ذبت بقارعات التوقِ) وسنكتفي بالإحالة المتمثلة في ألفاظ(الخلان) و (المملكة) و(اجتباني) وكأنه يقف على الطلل ويتذكر الأحبة.. يأتي وفق لغة ينسجها الشاعر ببراعة متناهية تشف عن سلامة التدوير في الإبداع عن طريق اللغة القابلة أيضاً للتدوير بحيث لا تبدو لنا على المثال السابق نفسه.. وهنا سأطلب من القارئ الاستجابة لدعوة الشاعر إلى التفاعل والمشاركة في تكوين النص ليخرج القارئ في النهاية بالنص الذي يخصه وحده .. وتلك إحدى مزايا نصوص الشاعر هاني الصلوي. المراجع موقع الشاعر هاني الصلوي د. أسماء أبوبكر/الشكلانية الهندسية في النص الشعري.. د. حميد لحمداني/ القراءة وتوليد الدلالة..