منذ زمن ومنحوتات الفرنسية (لويس بورجوا) تثيرني وتحفزني للكتابة عنها. لا بصفتها الغرائبية، فالمنحوتات، وهي مجسمات، لا تحمل غرائبيتها القصوى، كما في بعض من أعمال مابعد الحداثة المتأخرة الفنية. لكن، بما تشف عن حالات أو إحالات بقدر ما هي باطنية شفيفة هي أيضاً- كأجساد أو أشياء- تحمل صلابتها المظهرية، لكنها وفي نفس الوقت صلابة مظهرية هشة، قابلة للانكسار أو الانتهاك. هي دوما في حالة احتكاك أو تلامس، منبسط، أو مأزوم. وحتى لو كانت مشخصات مفردة، فإنها غالباً ما تكون مشتبكة مع أجزائها أو أطرافها. إن لم تعش حياة عاطفية مستقرة في زمن نشأتك الأولى، فبالتأكيد ستبقى مرارة من نوع ما ترافقك على امتداد سنواتك القادمة. بورجوا اكتشفت المحظور من العلاقات المحرمة ما بين والدها ومربيتها وهي في سنوات عمرها الأولى، وتصدعت العلاقة الباطنية التي تربطها به وعليها مداراة المظاهر، وهي في هذا العمر المبكر. وعلى ما يبدو فان حالة والدها كطاغ وزير نساء في آن واحد، هشمت لديها صلابة الأشياء، أو فيزيائيتها الصلبة. صلابة الواقع المفروغ من وقائعه. هذه الهشاشة، حسب ما اعتقد هي التي رافقتها على امتداد مسيرتها الفنية العملية. هشاشة المادة النحتية وليونتها هي التي دفعتني إلى مراجعة أعمال هذه الفنانة الفرنسية التي استوطنت نيويورك بعد أن تزوجت من أستاذ تاريخ فن أمريكي. وأنا ابحث عن أعمال (النحت الناعم). فالمتعارف عن أعمال النحت هو صلابة أو صلادة هيكليتها لكن، وبعد أن سادت أعمال المادة، والمواد المختلفة والمختلطة في تنفيذ الأعمال الفنية، باتت هذه المواد هي التي تتحكم في مظهرية الابتكارات الفنية الجديدة، ومنها المنحوتات بأشكالها أو مظهريتها المتعددة والمتشعبة. هل حققت بورجوا منحوتاتها، وخاصة اللينة منها بناء على نزوة، أو لمجرد تجريب عبثي يقود لاستكشافات أسلوبية. اعتقد أن الأمر يتعدى ذلك لدوافع نفسية اقوى من ذلك. فهي في هذه الاشتغالات حاولت أن تعيد توازنها الذاتي الذي مارست تمارينه حتى لحظة وفاتها. أحيانا ما يكون عبثاً أن تخلق من الهشاشة مجسمات ترمم ما تصدع من الغائر من مكونات الذات، أو محركاتها الوجدانية التي تتحكم بسلوكنا السوي، تقومه أو تهدمه، أو تشظيه، لكن بورجوا فعلتها بجدارة لافتة للنظر. ربما لعلاقتها الحميمة بالوسط الفني النيويوركي في زمن الاكتشافات أو الحراك الفني في الستينات وما قبلها. وهي التي استوطنت نيويورك منذ عام (1947). ومن خلال علاقاتها بفنانين من أمثال: بولوك وبارنيت نيومان و راينهارت، و وليم دي كوننك، ومارك روثكو التي اعتقدها لا تمر من دون أن تترك تأثيراً ما، ولو ثقافياً فنياً يقود إلى تحولات أسلوبية. إن لم تكن ضمن هذه الحلقة(التجريدية التعبيرية أو البوب) فإنها سوف تكون بمحاذاتها. لكنها لا تفقد مرجعيتها الذاتية الطاغية. فتصدعات النفس وترسباتها التي أخذت كفايتها الزمنية، لا اعتقدها سوف تتبخر نهائيا، وهذا ما أثبتته كل معالجات مجسمات بورجوا، حتى رسومها، بل وحتى قصدية موادها المنفذة بها. وهي التي تؤمن بأن المواد لوحدها دون الفكرة لا تصنع عملاً فنياً. لم تكن بورجوا بعيدة مطلقاً عن ورشة عائلتها (ترميم المفروشات القديمة والسجاد) والعديد من أعمالها، وخاصة المتأخرة، كأنها خرجت من هذه الورشة اللينة. وبما ان الحياكة الترميمية هي جزء من مهنة عائلتها. فأعمالها لا تفقد هذه السمات الترقيعية بشكل من الأشكال، وليس الأمر، وكما تصرح به هي، إلا استرجاعاً للمكان الأول المفقود. لكن بأي تصور معاد. إن كانت موادها النحتية تخزن دفء نسيج الورشة العتيقة. فإنها استحضرت الزوايا المعتمة منها أيضاً وحيث النسيج يهتري ليكشف عما يشف من محنة اهترائه، وعن الحشرات التي قطنت هذه الزوايا. هل بإمكاننا أن نعتبر أعمالها النحتية، أعمالاً عامة، مشغولة، كما هو حال معظم المنحوتات العربية، للعرض الجمالي أو الاجتماعي. أم هي أعمال ذاتية بامتياز. بمعنى كونها سيرة ذاتية استرجاعية. وان كانت سيرة، وهي كذلك، فبأية واسطة سوف نستعرضها. وهل في استعراضها من فائدة مرجوة. ونحن نعيش(خاصة كفنانين مهاجرين) وسط حاضن اغترابي يرفض بوحنا الشخصي لصالح فنتازياه الخاصة. لكن وهي التي لم تغادر حاضنا أوربيا بيئيا، إلا إلى حاضن أكثر انفتاحا على التجارب الذاتية، ومن خلال ما يضفي عليها من عمومية مشهود أثرها. احتفي بأعمالها اكتشافات تستحق أفضل المساحات من العروض الفنية المتقدمة. لقد احتفى بها ال(تيت كلري) في لندن. و(كوكنهايم) نيويورك. مثلما العديد من قاعات وساحات مدن العالم الأخرى. وتحولت أحشاء الزاوية المهملة من الورشة القديمة إلى أماكن عرض ادهاشية، لا تخلو من وهج عاطفي طاغ. قراءة أو استعراض العمل الفني ايا كانت مادته أو منشأ فكرته(وأعمال ما بعد الحداثة أفكار) غالبا ما يقع ضمن شراك الذات القارئة أو المستعرضة. أو ضمن قراءة من نوع ما لعمومية المفاهيم التي تعضد الفكرة. وقراءة موجزة لمنحوتات بورجوا، اعتقدها لا تبتعد عن ذلك، إلا في مجال اللغط الكثير الذي رافق مسيرتها بمفاعلها السيكولوجي. المهم، ان مجمل أعمالها تؤكد وبشكل ما هذا المنحى، وبدون الانفصال عن بقية المحركات الأسلوبية والثقافية العامة المرافقة لهذه المسيرة الإنتاجية الثرية. الذات هي محفزها الأول. والمحيط الثقافي البيئي المتحرك هو مرافقها التحفيزي الأخر. وما اصطفافها وقضايا عامة، كالايدز، أو المثليين(في سنتها الأخيرة) إلا استجابة لهاجس الانعتاق من مكبوتات ماض لا يزال ضاغطاً. هي وجدت نفسها ضمن نسيج متشابك من الذات والآخر المنتهك، المحبط، المهشم والمهمش؛ وعليها استعادة توازناتها الشخصية، وإيفاء النصف المنتهك الأخر حقه أيضا. ولم يكن لديها إلا أدواتها الفنية تستطلع وتستكشف من خلالها كل ذلك. من الزوايا المظلمة استحضرت عنكبوتها الفولاذي العملاق (مامان). ومامان هذا، رغم جسده الفولاذي الصلب، إلا انه، وبكل أجزائه وأطرافه العديدة الهائلة التي ترتفع إلى تسعة أمتار في الفضاء لا يحمل من معنى الصلابة إلى مادة معدنية. فهو، وبما انه من سلالة الحياكة بخيوطها الهشة، فانه لا يفارق هشاشة مظهرية أطرافه، رغم صلابة معدنها. لقد حولت أو قولبت الفنانة صلابة الحديد إلى هشاشة فراغية فضائية ملولبة الأطراف والهيكل الجسدي(حامل البيض)، وتحول إلى ما يشبه بعضا من خيوط غزل مكوكبة قديمة اقتضت فضائيات لندنونيويورك وكوبنهاكن والعديد من مدن العالم. لقد وفرت لنا الفنانة، بعملها هذا، ممرات نسوح خلالها وما بينها، لا تحت سطوة المادة الصلبة(الحديد) بل بإيحاء من خفتها. فهذا الكائن المنزوي الهش، لا يزال يعلن هشاشته، إشهارا مناقضا لحالة الخفاء. انه بالنسبة للفنانة بعض من تواريخ شخصية تستعصي على الانمحاء. بالوقت الذي تمنحنا علنا كل ادهاشات تحولاتها الإبداعية الايجابية أفعالا فنية تبقى عالقة في الذاكرة. لكنها تبقى بالنسبة لها تواريخ عصية على النسيان، (مامان) هي الأم المسترجعة من زوايا الأزمنة التي مضت. مامان أمها الحائكة الماهرة، هي أيضاً الحارس الذي يحميها من الحشرات (الشرور)، هي الحانية، الضامة بين حناياها جرم الطفولة الصغير. هي القابعة في زواياها المنزلية شاهدا وشهيدا، هي وكما العنكبوت المنزلي مامان. ليست بورجوا هي الفنانة الوحيدة، من بين الفنانين، التي أو الذين عالجوا المثلث الأبدي(الأب والأم و وليدهما). لكني اعتقد أنها اختلفت عنهم في تناول هذه الموضوعة الوجودية التي فعلت في ذاتها أكثر مما فعلت بالآخرين، وللحد الذي رافقتها حتى سنواتها المتأخرة. وان كان الزمن المتأخر يعيد بواكيره، ضمنا عند الكبار. لكنه عند هذه الفنانة لا يستعاد بمسرة. بل بما حفره في العمق من الذات، انتهاكات لزمن كان من المفروض به أن يكون سويا. فان كانت موضوعة المثلث الأبدي قد تنوولت ومنذ عهد المسيحية الأول ايقونياً، فإن الفنانة حطمت هذه الإيقونة نثارا، بحثاً عما خبئ خلف طياتها الزمنية من خيانات وتسلط ومصادرة للإرادة. هي بمعنى ما وفي كل محاولاتها الفنية سلطت الضوء على استعادة الحقوق والانعتاق نحو فضاء الحرية. محنتها مع المثلث هذا إذا هي محنة الوجود التي استطاعت أن تستوعبها بعد وفاة والدتها واستبدالها دراسة الرياضيات مرضاة لسلطة الأب، إلى دراسة الفن الذي هو جزء من وجودها المستعاد. هي أيضا عانت من عدم إمكانية الحمل في سنوات زواجها الأول. لكنها وبالرغم من أنجابها بعد ذلك ولدين، إلا أن قلقها الوجودي لم يبرح ذاتها. فالمحن حتى بعد أن تزول أسبابها، فإنها غالباً ما تخلف ندوبا. علاقة المثلث العائلي الملتبس ترك آثاره التي لا تمحى على العديد من أعمال بورجوا. ففي عملها (تكاليف المرأة)، مثلا، تتمثل رؤيتها التشاؤمية بأوضح صورها فهذه المنحوتة التلسيقية تظهر جذع امرأة بدون رأس، مقطوعة إحدى رجليها، ومسلط سكين مفتوح حقيقي من الأعلى على امتداد جسدها. جذع امرأة أخرى ملوي كضفيرة حبل جزئه العلوي ومعلق أمام المرآة وسط قفص مشبك. أو تمثالها(القديس سباستيان) الذي صنعته من الفايبر كلاس لامرأة بدون أطراف مشكوكة بالسهام. ثم التمثال البرونزي(قوس الهستريا) لرجل معلق من وسطه في حالة انحناء تشنجي لحد تماس أصابع يديه بإقدامه. أو رسوماتها لامرأة حامل (مع وضوح رسم الجنين في رحمها)، أو منحوتتها التلسيقية الأخرى(منسوجة الطفل) الذي يستقر فيها طفل كالدمية مغطى بنسيج شفاف، فوق جذع امرأة نصفي، من مادة بيضاء لدنة مرقعة. لقد نفذت الفنانة أعمالاً كثير تناولت فيها اشكاليتها السيكولوجية الوجودية. وما هذه المنحوتات أو المجسمات إلا اضاءات من نماذجها الواضحة دلالاتها. أكيد أن الجنس، وهو في المحور من إشكالية الفنانة الباطنية. لما له من صلة بسيرة عائلتها التي هي جزء من سيرتها الشخصية، كما أسلفنا. فموضوعة الجنس، مثلما كانت شائكة بعض الشيء في بداية القرن العشرين(الفنانة من مواليد 25 ديسمبر 1911) فإنه الآن، وفي الغرب عموماً امتلك صوته الأدائي ولو بأشكال متفاوتة. ومنها الاداءات الجنسانية النسوية لكن الفنانة منذ وقت مبكر بعض الشيء تناولته بحرية في منحوتاتها. ونحن نعرف أن أعمالها ليست فضائحية بقدر كونها محاولات لتفكيك صيغ القمع التقليدية. أو التعبير عن الدفين النفسي منها. فالنقيض غالبا ما يولد نقيضه. وللتستر دروبه الفضائحية أيضاً؛ لكن العمل الفني دوماً يبتعد عن الفضائحية لصالح قيم الحرية الإنسانية( ما عدا المتهافت من الأعمال)، وانعتاق الذات من مكبوتها أو إعاقاتها النفسية. هذا الدرس هو الذي وعته الفنانة مبكرا. بل تبنته سلوكا فنيا طوال مسيرتها الفنية الطويلة. أجسادها الملصوق نسيجها، سواء منها المفردة أو الجمع، إما أن تكون سائبة، معلقة في الفضاء. وإما أن تكون مطروحة على الوسائد أو الوسائط، المنصات. أو تكون محصورة في وسط أو زوايا أقفاصها أو منشآتها القفصية، لكنها - بشكل عام- لا تبتعد عن منحى كونها أجساد ضالة تبحث عن الدفء غالباً، بعد مسيرة تيهها الاضطرارية، عبر دروب الحياة الملتوية. أجساد لينة هشة يبحث كل منها عن نصفه الآخر، أو عن المجموع، ولا يهمه جنسه. هذا ما توصلت إليه الفنانة قبل أن تغادرنا لدار حتفها. لقد أعلت من شأن دار النشأة الأولى، وشخوص حياتها المتعددة وحيوات الآخرين، كما في أقنعتها عن مشوهي الحرب العالمية الثانية، وأنتجت لنا مشهدية إنسانية واسعة، متصارعة شخوصها، أكثر ما هي متصالحة. لكنها كسبت سلامتها الشخصية. لقد رحلت بورجوا في(31 مايو عام 2010) بعد ان اشتغلت على الكثير من المواد الأولية الصالحة منها للنحت وغير الصالحة، أفكار هي الأخرى تتصالح مع الذات وتتضاد أو تتصادم معها اختيارا محضا. ،وتركت لنا إرثاً تجسيدياً، هو بعض من دروب أو دروس زوايا الحياة المخاتلة. لكن المعلى من شأن مفاعيلها الثقافية الفنية.