قبل أن تلقي طائرات العدوان الإسرائيلي حمم الموت على رؤوس المدن العربية، وقبل أن يتحرك الدبابات من مضاجعها لتدوس بجنازيرها أكباد أطفالنا كانت المجتمعات العربية قد تلقت هزائم أكبر أفقدتها أي قدرة حتى على الأنين تحت طواحين التدمير الصهيوني لما تبقى من كرامتها. لقد خاضت السلطات الحاكمة العربية حروباً من طرف واحد ضد شعوبها، انتصرت فيها -ولو إلى حين- فكانت هي أم الهزائم، وفاتحة كل الانتكاسات المقبلة. المجتمعات العربية هزمها حكامها حينما ألهبوا ظهورها بسياط القمع واستلاب الحقوق والحريات تحت مبرر "حماية ثوابت الأمة، والدفاع عن المكاسب الثورية، والحفاظ على سيادة الوطن، واجتثاث المرجفين والحاقدين على الأوطان" إلى آخر تلك المعزوفات الجنائزية التي بها برروا تحويل الأجهزة الأمنية من مؤسسات وطنية همها الأساس توفير الأمن والأمان للشعوب في أوطانها إلى أجهزة ذات قبضة حديدية حولت الأوطان إلى سجون كبيرة يتلقى نزلاءها شتى ألوان التعذيب كل عشية وضحى. وانحرف مسار تكنولوجيا الرقابة الاستخباراتية من رصد مخططات الأعداء الصهاينة إلى رصد أنفاس المفكرين والمثقفين والسياسيين العرب بعد أن زرع الحكام وعياً مزوراً في أذهان رجال الأمن بأن هؤلاء هم الخطر الحقيقي الذي يفوق خطر الأعداء بمئات المرات باعتبارهم (السوسة) التي تنخر في عظم الأوطان واستقرارها من داخلها. وهزمت المجتمعات العربية حينما قرر حكامها "عسكرة" الحياة المدنية ففرضوا جنرالاتهم على كل مفاصل حياتنا وزراء، ومحافظين، وخبراء، وفنيين، ومدراء، بما في ذلك وزارت الصحة والشؤون الاجتماعية، بل وأوكلوا إليهم مهاماً وطنية أدق من ذلك ضمنها تولي إدارة "منظمات المجتمع المدني" ولضرورات الفصل بين مصطلحي (المدني، والعسكري) فرضوا عليهم مكرهين ارتداء الزي المدني. هذه العسكرة الشاملة للحياة المدنية مسخت الاثنين معاً.. فلم يعد العسكري عسكرياً يصلح لجبهات القتال دفاعاً عن الأوطان والكرامة، كما لم تعد الحياة المدنية تدار بآليات مدنية، ولا مفاهيم مدنية، بل تحولت حتى وزارات العدل والصحة إلى معسكرات مصغرة، وتحولت منظمات المجتمع المدني إلى خلايا أمنية تترصد أعضاءها وتتربص بهم الدوائر. والأمر ذاته في لجان إدارة الانتخابات العامة التي يلعب فيها العسكريون الأدوار الكبرى، وتتحرك فيها المعسكرات بين الدوائر الانتخابية "لترسيخ التجارب الديمقراطية" و"تعزيز مناخات النزاهة والعدالة". وجاءت هذه العسكرة للحياة امتداداً طبيعياً لقرار سبق للحكام أن اتخذوه وهو القاضي بتحويل مؤسسة "القوات المسلحة" من حماية الأوطان إلى حماية الحكام.. وبكل تأكيد ستكون هذه الحماية في مواجهة الذين يتربصون بالحاكم الدوائر من أفراد الشعب المغايرين له في الرؤى والطروحات. وفي مواجهة أحزاب المعارضة ورجالات الصحافة والإعلام خاصة بعد أن تقوم أجهزة غسيل الأفكار بزرع حالة قانية من العدائية المفرطة بين الطرفين بلغت حداً مرضياً تسممت فيه أفكار العسكريين بأن المعارضة شخوصاً وأحزابا إنما هي أداة هدم وتدمير للأوطان وأنها عميلة لأعداء الوطن، تمسك الزناد مقتنصة الفرصة الأنسب لاغتيال أمن الوطن واستقراره. هزمت المجتمعات العربية في معارك التجويع التي شنها الحكام عليها منطلقين من الفلسفة الحكيمة القائلة "جوع كلبك يتبعك" والتي جعلت الغالبية العظمى من التعداد السكاني العربي تحت خط الفقر وفقاً للتقارير الدولية ولإحصاءات الحكومات العربية ذاتها. هذا التجويع الذي حول المجتمعات إلى كائنات حية منشغلة بلقمة العيش كهم أول يطغى على ما سواه من هموم وأولويات، ناهيك عن ما يلتصق بهذا التجويع من ظواهر تندرج تحت قائمة الحرمان الشامل من كامل الحقوق الإنسانية ضمنها الصحة والتعليم وهو ما جعل الخارطة العربية متخمة بالأميين ومكبلة بكل الأمراض، بما في ذلك الأمراض التي سبق للعالم أن تخلص منها منذ عقود من الزمن، ومازالت في أوطاننا جزءاً من همنا اليومي تفتك بمئات الآلاف، وتعين الحاكمين في معاركهم. هزم حكامنا شعوبهم في ساحة معركة أخرى هي معركة التهميش التي شنت على فئات مجتمعية بأكملها وقيادات ورموز فكرية حتى تحول الوطن العربي إلى بيئة طاردة لخيرة كوادرها في شتى المجالات، وتحولت الهجرة خارج الخارطة العربية إلى حلم وردي يراود كل الكفاءات العربية. ومع كل "منعطف تاريخي" يجهز حكامنا على كوكبة من القيادات والرموز والكفاءات فيلقون بهم في قاع بئر التهميش إما في غياهب السجون، أو تحت الإقامة الجبرية غير المباشرة في منازلهم عملا بالحكمة اللبنانية الشائعة "خليك بالبيت" أو بطردهم خارج الأوطان لاجئين سياسيين بشكل مباشر أو غير مباشر، أو حتى عبر تعيينهم سفراء أو وزراء مفوضين في سفارات العرب هنا أو هناك. ويمتد التهميش ليشمل فئات مجتمعة بكاملها بالارتكاز على قناعات فئوية أو مناطقية أو طائفية أو حتى بسبب الوقوع في أسر الخوف الدائم للحكام الذي يجعلهم لا يركنون إلا إلى من يحظى بثقتهم أو ثقة الدائرة الصغيرة المحيطة بهم وهذا ما خلق حالة إحباط واسعة لدى فئات مهمشة عديدة، تحولت من الإحباط إلى الاحتقان الذي أدركه الحكام فرفعوا من معدلات تهميشهم لهذه الفئات لتزيد حالة الاحتقان استعاراً بمتوالية تضع الأوطان على أكف كل عفاريت الدنيا. هزم الحكام العرب مجتمعاتهم حينما حولوا وسائل الإعلام العربية من أدوات تنوير للمجتمعات ذات رسالات تنموية شاملة إلى أبواق تسبح بحمد الحكام كلما قاموا أو ناموا، وتشرع لجرائمهم تجاه الشعوب، وتبيض كل أفعالهم الحالكة السواد، وتحول مقولاتهم الركيكة المهترئة التي تتلعثم بها ألسنتهم المرتجفة إلى قوانين تحكم الشعوب وحكم تسير على هداها الأوطان.. حتى غدت وسائل الإعلام العربية مقابر جماعية تدفن كل إبداع في ميدان الرسالة التنويرية وغدا الصحفيون فرائس سهلة لأحابيل المخططات المعادية التي لا تجد صعوبة في زرع المفاهيم والمصطلحات والرؤى في وعي الصحافيين العرب بما في ذلك تلك المتقاطعة مع مصالح شعوبهم وأوطانهم. كما نجح حكامنا الأشاوس في معركتهم التي خلقوا بها حالة واسعة من الكفر بالديمقراطية وآلياتها بعد أن حولوها إلى مسخ مشوه يثير التقزز حيث قدموا التعددية الحزبية للجماهير العربية على أنها حالة من الصراعات الفردية على مصالح شخصية محددة بعيداً عن حاجات الجماهير ومصالحها، أو أنها أداة من أدوات تفتيت المجتمعات عبر خلق الصراع والأحقاد والضغائن التي تجر الأوطان إلى مهاوي الدمار. وحولوا صندوق الانتخابات إلى علبة ماكياج تحاول إخفاء تجاعيد الأنظمة الحاكمة، وتغطية تشوهات وجوههم على خشبات مسرح عافها الجمهور لأنها لا تقدم جديداً، بل تسلبه ماله ووقته وطاقته وتسخر منه لتعيد إنتاج ما هو قائم من شخوص وسياسيات. كفرت الجماهير بصندوق الانتخابات لأنه يجرها إلى ملهاة يصارع فيها طواحين الهواء ويدلي بصوته في انتخابات يعلم نتيجتها سلفاً بل ويعرف نتيجة نتيجتها بعد أن يرفع الحكام عقائرهم صارخين بأنهم جاءوا من رحم الإرادة الشعبية التي انتخبتهم راضية مرضية، وبالتالي فهم لسان حال هذه الشعوب التي هتفت باسمهم في صناديق الاقتراع (الحرة النزيهة)، ومن حقهم أن يتخذوا باسمها القرارات بما في ذلك قرارات استباحة حقوقها وحرياتها. وقدموا لنا الحياة البرلمانية على أنها "روضة سياسية" يتعلم فيها أبناء وأحفاد المشائخ والوزراء والنافذين الأحرف الهجائية الأولى للعمل السياسي بدءاً من كيفية رفع الأيدي للتصويت مروراً بتشكيل اللجان ... إلخ. تهيئة لهؤلاء الصغار لاستلام الميراث من آبائهم بعد عمر طويل. في حين أن برلمانات الدنيا تصب فيها خلاصات تجارب عقود من الزمن لشخصيات سياسية أفنت عمرها في العمل السياسي. كفرت الشعوب بالديمقراطيات بعد أن أدركت أنها لا تعيش إلا إذا رعتها "المنظمات الدولية" وحمت ساحاتها من الحكام العرب "الأعين الخضراء" التي تقف وراءها أساطيل المعونات الخارجية أو أساطيل جيوشها. أعترف بأنني فشلت في الإلمام بكل أطراف ساحة المعركة التي شنها الحكام العرب على مجتمعاتهم لاتساعها.. هذه المعركة التي جعلتنا لا نبالي بالصواريخ الإسرائيلية تمطر أرض لبنان موتاً ودماراً، وتلبس وطنأ بأكمله الأكفان دون أن يحرك الأمر لدينا ساكناً كمحصلة لخبراتنا السابقة التي تعرضنا فيها لقصف "أم المعارك" التي شنها حكامنا على مجتمعاتهم فجاءت المعركة الصهيونية وقد تم تحصيننا ضد الألم والتأوه. من هنا أتوقع نهاية عاجلة للحرب الإسرائيلية على لبنان لأن جحافل العدو تخوض معركة فاقدة للإثارة لأنها تدور على أرض محروقة حتى في ظل صمود المقاومة اللبنانية التي وإن شكلت علامة فارقة إلا أنها مثل غيرها تعرضت ل "أم المعارك" ومازالت تخوضها وقد يكون قرار خطف الجنديين الإسرائيليين إحدى مفردات هذه المعركة.