في العدد الماضي تم نشر جزء من هذا الفضل، نستكمل في هذا العدد ما تبقى من الفصل : ... خانتني قدماي, أحسست كأنهما مكهربتان في مكانهما, وقف الثور, ونفض جسده, ثم أنزل رأسه قليلا إلى أسفل, وبعد نفخه الهواء من أنفه, وراح يحرك رأسه وقرنيه يمينا وشمالاً, وعيناه مصوبتان نحوي. سمعت أحدهم يصيح بصوت متهتك: " سيهجم عليك .. اهرب .... " ركض الثور .. وركض الجميع .. والتف أحدهم حول الثور وركض نحو باب العمارة .. ثم صرخت: باب العمارة مغلق بقفل كبير. وأمي تصرخ و تطلب مني الركض والركض, ارتعبت وارتعبت العمارة, أمي من شدة خوفها ركضت وأغلقت باب الشقة, كنت مازلت واقفة. والثور يركض نحوي, وتزحلق الثور بسبب بلاط الأرضية, تشجعت وركضت إلى أعلى السلم, وبقي الثور واقفاً في أسفله, وبدأ يصعد درجات السلم ببطء, وكان قرنه الأيسر يخدش الجدار كلما صعد ويصيبني بالقشعريرة. أخرجت قلمي من جيبي ورميته به , وأصبت رأسه , مما أغضبه وجعله يصعد السلم بسرعة أكثر . فركضت , ورحت أصيح وكنت أدق أبواب الشقق , ولم يفتح لي أحد , وجدت نفسي وحدي مع الثور في ممر الدور الخامس , تبولت من شدة الخوف , وشعرت بحرارة البول في ملابسي وأصابع قدمي . كان يقف أمامي ويبعد عني نحو ثلاثين متراُ . " هل هي لحظة الموت " .. لا مكان للهروب , واستسلمت له .. كنت أنتظر الطعنة , تمنيتها طعنة مميتة من دون ألم , كتمت خوفي , وإن كان صدري يلهث ويلهث , أغمضت عيني , وفتحت ذراعي إلى آخرهما, وبدأ الثور يركض نحوي بقوة شديدة وفجأة تزحلق الثور وأخذت جثته الضخمة تدور حول نفسها نحوي , انتهزت الفرصة وركضت من أمامه لكنه جرحني بطرف قرنه وأصاب ساقي , سقطت متألمة, فتحت خالة حسنة باب شقتها وراحت تشير بيدها نحوي مرتعبة . فرحت أركض متعرجة, ويركض الثور خلفي , وخالة حسنة تصيح وتحثني على الركض أكثر وأكثر , قذفت نفسي إلى الشقة , وأسرعت خالة حسنة بإغلاق الباب خلفي, والثور الغاضب راح يضرب الباب بقوة, حتى كاد يخلعه من مكانه . سألتني خالة حسنة: ماذا يريد منك الثور .. ماذا عملتِ . لم أجب , كانت ساقي تؤلمني, توقف الثور عن دك الباب, لعله يستريح, استراحة المحارب, نظرت من عدسة الباب, وجدته جالساً ومحدقاً نحو بابنا . - ماذا سنفعل ؟!! كان صوت حسنة خائفاً. وجلست أفكر, مازال عقلي يعمل , نظرت إلى البلكونة, وعنّت لي فكرة مجنونة, صحت: - خالة حسنة, سوف نقتل هذا الثور اللعين. بهتت حسنة: - نقتله !! وطلبت منها أن تجلب لي حبلا متينا قادراً على حملي, أسرعت إلى المطبخ, أحضرت لي حبلا, قمت أولا بربط الحبل على دولاب كبير في الصالة, ثم قمت بعقد الحبل حول خصري بقوة كانت الخالة تراقبني بدهشة. ابتسمت لها وأخبرتها بأننا سوف نشترك في قتله , شاهدتها ترتجف , ذهبت إلى البلكونة , ونظرت إلى الشارع , ثم تنفست , أخرجت سيجارة , ووضعتها بفمي دون أن أشعلها , ووجدت حسنة تبتسم لي , ثم صعدت على حافة البلكونة , ووقفت عليه . صاحت خالة حسنة : - ماذا تفعلين .. سوف تسقطين . فصرخت بها : اخرسي .. إنك توترينني .. ألا تشاهدين الحبل يمسك بي .. سوف نجعل الثور يسقط ويتحطم . وصمت, وتسقط السيجارة من فمي, راقبتها وهي تسقط إلى الشارع, رفعت رأسي عاليا, إن التحديق نحو الأسفل يجعلني أرتعب. فكرة الموت راودتني كثيراً.. لتكن هذه إحداها , طلبت منها أن تفتح الباب إلى آخره. كان الثور جالساً .. وعندما شاهدني أمامه واقفة. انتصب فرحاً, ثم أخذ يركض بقوة نحوي, وقبضتي تشتد كلما اقترب على الحبل , قفز الثور نحوي, رأيته وكأنه يطير, وقبل أن يصل إلي بثوان قليلة, قفزت إلى خارج البلكونه, فالتف الحبل بأحد قرنيه , وجعلني أدور حول نفسي بسرعة, وكاد الحبل يقطع خصري, وهوى الثور إلى أسفل الشارع, كان الأمر لا يصدق, لقد هزمت الثور والخوف. فالتفت إلى أعلى, وجدت رجلاً أسود .. دون ملامح ينظر إلي من سطح العمارة , اعتقدت بأني أحلم , مسحت عيني من العرق ووجدته كأنه يبتسم لي واختفى بعد ذلك. وصمتت مليكة طويلاً, ثم راحت تحدق نحو الكرسي الفارغ الذي بجانبي .. وسألتها: - ومن هو الرجل الأسود دون ملامح. قالت من دون أن تلتفت إليّ: صاحب الغابة التي أحرقتها, وأحرقته. صمتت قليلاً وتابعت: إنه الآن يلازمني في كل مكان. - يلازمك. كان صوتها هادئاً ومخيفاً: نعم .. إنه قريب منك. نظرت بريبة نحو الكرسي الفارغ, وسألتها بشك: - وماذا يفعل؟! قالت دون أن تنظر إلي: يراقبك .. ويبتسم. تراجعت قليلا إلى الخلف مذعورا, وتعثّرث, ولملمت أوراقي, وغادرت مسرعاً من دون أن أتفوه بكلمة . وتذكرت الجنية التي كانت تتبعني حيثما أذهب قبل أن أغادر القرية وتختفي.