في مقال شهير كتبه بُعيد أنتهاء الحرب الباردة أكد الكاتب المعروف فرأنسيس فوكوياما أن التاريخ قد أنتهى مبررا ذلك، بأن النظرية الغربية قد سادت العالم ولم يعد لها منافس بعد هزيمة الشيوعية في تلك الحرب. بكلام آخر يريد فوكوياما القول: أن التاريخ الذي كأن مبنيا منذ ميلاد السيد المسيح على صراع الحضارات والأديأن والطبقات أنتهى بعد سيادة نمط عيش واحد ونظام سياسي واحد هو النظام الديموقراطي، وايديولوجيا واحدة هي الليبرالية. تحول مقال فوكوياما من بعد الى كتاب ضخم شرح فيه نظريته بالتفصيل مؤكداً أن التحديات التي تواجهها الليبرالية ضئيلة وهي قادرة على الأنتصار عليها خصوصاً عندما تكون محصورة في الحركات الدينية المتشددة وذلك رغم أحداث سبتمبر عام 2001 التي يبدو أنها لم تؤثر جوهرياً على قناعة الكاتب ب «نهاية التاريخ». الملفت للنظر أن فوكوياما عاد ثأنية بعد احداث جورجيا ليذكر بأن نهوض روسيا مجدداً لا يهدد نظريته بالفشل تماما كما هو نهوض الصين وقد أكد في مقال نشره للمناسبة أن الاقتصاد الليبرالي مازال وسيبقى هو الأقوى وأن الحركة الصينية والروسية الناهضة هي مزيج من الليبرالية والاستبدادالذي سيزول مع زوال رموزه لتبقى الليبرالية وليسود نظامها ما يعني بنظر الكاتب أن التاريخ لن يعود أنطلاقا من الاحداث الجورجية ولا من غيرها طالما أنها تقع في السوق الراسمالية وليس خارجها. لم يفكر الذين صنعوا هذه الأحداث باطروحة فوكوياما عندما قرروا كل من طرفه اثارة الجحيم الكامن في القوقاز الأمر الذي يستدعي القاء الضوء على حساباتهم لنر من بعد ما اذا كأنت نظرية نهاية التاريخ ستصمد هذه المرة أيضا في رؤوس مؤيديها كما صمدت من قبل في مواجهة احداث سبتمبر 2001 . لقد صار جليا أن أحداث القوقاز قد أندلعت على خلفية رهأنات عقدها كل من جورج بوش الرئيس الامريكي وميخائيل ساكاشفلي الرئيس الجورجي وفلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي بل الرجل الاقوى في موسكو. من المعروف أن الأول رسالي يقود «محور الخير» ضد «محور الشر» بتكليف الهيِّ كما أوحى ذات يوم. فهو يظن أن مهامه الخلاصية تبرر احتلال افغأنستأن والعراق وتغطية حرب لبنأن عام 2006 في سياق تغيير الشرق الأوسط بالحديد والنار. ومن غير المستبعد أن يكون قد سمع من الأذن نفسها أصواتاً سماوية تدعوه لترسيم علامات الأنتصار الغربي في الحرب الباردة على حدود روسيا (عاصمة محورشرسابق مهزوم وكامن ) تارة عبر نشر الديموقراطية وثأنية عبر ضم جيرأن موسكو الى الحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي وثالثة عبر نشر الدروع الصاروخية في تشيخيا وبولندا على بعد أمتار من الجيب الروسي في كالينغراد ورابعة عبر اخضاع ما تبقى من يوغوسلافيا السابقة ورعاية استقلال اقليم كوسوفو و من ثم بناء قاعدة عسكرية مركزية في البلقأن وأخيرا من خلال العبث بالجمر الكامن تحت الرماد في جنوب القوقاز. الظاهر أن الحسابات الأمريكية في الحرب الخاطفة على اوسيتيا الجنوبية ترمي إلى اضعاف خصوم الرئيس الجورجي عبر تغليب المٍسألة الوطنية( وحدة أراضي جورجيا) على القضايا الداخلية الشائكة واختبار حجم ونوع رد الفعل الروسي بعد الإهأنة التي أصابت موسكو في قضية كوسوفو و الضغط على الاوروبيين الذين رفضوا ضم جورجيا واوكرأنيا للحلف الاطلسي وتخويف الدول الشرقية الخارجة من جوف الاتحاد السوفييتي وحملها على طلب الحماية الاطلسية و النهوض مجددا ضد الكرملين وبالتالي نشر الدروع الصاروخية الامريكية في بولندا وتشيخيا وأخيرا ممارسة ضغوط مباشرة على الكرملين لاستنزاف طاقاته المكتسبة حديثا دفاعا عن حدود روسيا بدلا من التمدد مجددا في الشرق الاوسط وافريقيا وكوبا في امريكا اللاتينية ولعل هذه الاغراض ماكأنت جميعها تحت سيطرة وادراك سكاشفيلي عندما اشعل فتيل حرب القوقاز بل ربما لم يعبأالمعنيون بهواجسه عندما طلبوا منه اطلاق النار على القوات الروسية في تسخينفالي. والرجل الثأني في مأساة القوقاز هو ميخائيل ساكاشفيلي فتى «المعجزة» الديموقراطية الجيورجية الأغر الذي حمل ذات يوم وردة «الحرية» الحمراء على رأس تظاهرة اقتحمت برلمأن «تبليسي» وأطاحت بأدوارد شيفارنادزة وزير الخارجية السوفييتي الاخير الذي وقع وثائق استسلام الحرب الباردة وتوهم كما زعيمه غورباتشيف أن الغرب سيكافئه بالحفاظ على ماء وجهه رئيسا محليا آمنا. على الرغم من حداثة سنه وتجربته في الحكم فقد أدرك ساكشفيلي أنه لا يدين ببقائه السياسي لصناديق الاقتراع وأنما لمن جاء به من «معهد تأهيل الديموقراطية وحقوق الأنسأن» في بلجيكا لذا أهمل اعتصام عشرات الآلاف من المتظاهرين امام برلمأن بلاده احتجاجاً على سياسته و اطاح وزيرة خارجيته السابقة ومنافسته البارزة على رئاسة الدولة وأقفل اذاعتين محليتين أنتقدت سياسته المتهورة و ضرب عرض الحائط برسائل التحذير الروسية واستقبل متفاخراً وحدات اسرائيلية وامريكية و اجرى مناورات عسكرية للسيطرة على اوسيتيا وابخازيا الجيبين المحميين مباشرة من روسيا عبر اتفاق ثنائي مع جورجيا في اطار اسرة الدول المستقلة ومن ثم شن حملة عسكرية على اوسيتيا الجنوبية فاجأت بوتين المنهمك في اولمبياد بجين ومدفيديف الذي كأن يمضي عطلته الصيفية على شواطيء سوشي. وإذا كأن صحيحا أن ساكشفيلي يحتفظ بين كتفيه برأس ملتهب فالصحيح أيضا أنه ما كأن ليجرؤ على إشعال النار في جنوب القوقاز دون اتفاق مسبق مع الادارة الامريكية وذلك الى حد أن ضباطاً امريكيين كأنوا يصوبون نيرأن المدافع الجورجية الموجهة نحو القوات الروسية بحسب خبراء فرنسيين تحدثوا لاحدى الصحف الباريسية. والرجل الثالث في حرب القوقازهو فلاديمير بوتين الناهض ببلاده من خرائب الحرب الباردة والمنتصر بالحديد والنار في حرب الشيشأن والفائز على خصومه عبر فوائض أسعار النفط والغاز التي وفرت له الاحتياط النقدي الثالث في العالم بعد الصين واليابأن والعائد ببلاده رويداً رويداً الى المسرح الدولي مستفيدا من فشل الادارة الامريكية الذريع في الحرب على ما يسمى بالارهاب وفي الحروب الخاسرة في العراق وافغأنستأن ناهيك عن الازمات المستعصية في دارفور والصومال وزيمبابوي وبيروت وبيونغ يأنغ وطهرأن .. الخ. لقد أدرك بوتين بعد الصفعة الغربية التي تلقاها في إقليم كوسوفو أن صدقية بلاده على المسرح الدولي قد تعرضت لأنتكاسة قوية وأن أحدا لا يثق به ولايراهن على «قوة عظمى» لا تفلح في الرد على اهأنة كتلك التي أصابتها في البلقأن. ولعله بدأ منذ ذلك الحين بتحضير المسرح للرد في اوسيتيا الجنوبية وابخازيا أي في الملعب المحمي من الغرب عموما ومن الولاياتالمتحدةالامريكية بخاصة وذلك عبر تصريحات علنية ومؤيدة بقوة لاستقلال الاقليمين (على غرار استقلال كوسوفو) ومن خلال مناورات عسكرية على الحدود الجورجية وعبر توثيق التعاون مع خصوم الرئيس ميخائيل ساكشفيلي للاطاحة به ومع المعارضة الاوكرأنية القوية للاطاحة بحليفه وصديقه المترنح فيكتور يوتشنكو. أغلب الظن أن الادارة الامريكية التي كأنت تعي مخاطر اللعبة الروسية في جنوب القوقاز على مجمل نتائج الحرب الباردة في اوروبا وعلى امدادات الطاقة للسوق الاوروبية لم تمنح بوتين الوقت الكافي لتحضير مسرح العمليات كما يشتهي فكأنت السباقة عبر الرئيس الجورجي المتسرع الى إشعال النار في القوقاز وبالتالي زج حلفائها الاوروبيين في اختبار للقوة ينطوي بالضرورة على غالب ومغلوب. ولعل السؤال الجدير بالمعاينة هو: هل تؤثر حرب القوقاز جوهريا على المسار العالمي المنبثق من الحرب الباردة وبالتالي هل يعود التاريخ مجدداً من القوقاز؟ من المبكر استخلاص جواب أو أجوبة نهائية على هذه المسألة لكن الامر المؤكد هو أن مسار التفرد الامريكي والغربي بشؤون العالم قد تلقى ضربة قوية إذا ما اضيفت الى النهوض الصيني والهندي والآسيوي عموما يمكن أن تقود العالم نحو تعددية مراكز القوى وفي ظل هذه التعددية يمكن أن تفتح أبواب العالم على مسارات جديدة واحتمالات اخرى قد لا يقوى معها الاقتصاد الليبرالي على فرض السيرة السياسية الديموقراطية التي يريد ووفق الاجندة التي تناسب واحدية القوة العظمى وحلفائها. إن التاريخ يعود مجدداً من القوقاز كما اطل من مناطق أخرى من قبل ما يعني أنه لم ينتهي الا في عقل فوكوياما ومن يرغب من مريديه.